هشام محمد / Jul 14, 2010

في العشرين من نوفمبر من عام 1979 ميلادية، الموافق غرة محرم من 1400 هجرية، دخل جهيمان العتيبي مع خيوط الفجر الأولى في نفر من اتباعه إلى الحرم المكي بهدوء وصمت حاملين نعوشاً لإداء صلاة الميت عليها بعد فراغهم من الصلاة.  وبمجرد أن فرغ المصلون من صلاة الفجر حتى وقف جهيمان فيهم داعياً إلى مبايعة صهره محمد بن عبدالله القحطاني..المهدي المنتظر.  لما لا يكون القحطاني هو المهدي المنتظر؟  كل الإشتراطات "المهدوية" حازها القحطاني: اسمه يوافق اسم النبي، واسم ابيه يوافق اسم أب النبي، وصفاته أجلى الجبهة وأقنى الأنف، والمكان الصحن المكي، والزمن مطلع قرن جديد.  وفوق هذا وذاك، تدين عميق ورغبة حقة في احياء الدين وقيادة الأمة ومحاربة الحكومات القائمة الكافرة.  في لحظات تحولت نعوش الموتى إلى بنادق في يد اتباعه.  وفي لحظات سقط عدد من رجال الأمن السعودي برصاص الثوار.  تحصن جهيمان وجماعته في الحرم المكي لمدة تزيد عن اسبوعين، ولم تستطع القوات السعودية من اخراجه، بل أنه الحق بها خسائر لا يستهان بها في الأرواح.  غير أن سقوط "المهدي المنتظر" بالرصاص قد فتّ في معنويات الثوار، وأصابها بالذهول والإنكسار.  كيف يسقط المهدي الذي سيملأ الأرض عدلاً بعد أم ملئت جوراً.  كيف يموت من سيقودهم إلى محاربة الطواغيت ونشر نور الإسلام؟  حادث لا يمكن لعقل غارق في ظلام الخرافة أن يستوعبه ويتقبله.  ما كان بمقدور جهيمان واتباعه مهما كانت شدة عزائمهم من  أن تصمد وإلى ما لانهاية في مواجهة الحصار.  نجحت القوات السعودية أخيراً، وقيل بمساعدة القوات الفرنسية "الصليبية"، في اطفاء فتيل الثورة والإمساك بعناصرها، والذين فيما بعد انتزعت رؤوسهم من فوق اكتافهم.

  

من اين جاء هؤلاء الثوار؟  هل سقطوا من كوكب مجهول؟  هل جاءوا من بلاد بعيدة؟  كنت مثل غيري أعتقد أنهم "نبت شيطاني" لا جذور له في أرضينا.  كنت احسبهم بقايا ديناصورية قادمة من عصور سحيقة لا تشبه أحداً ولا أحد يشبهها.  كنت صغيراً يومها، وكنت كغيري اسمع نتفاً من هنا وهناك.  مازلت أذكر زميل مدرسة ابتدائية وهو يقول لي إنهم يحرمون اشياء كثيرة حتى لبس الساعة وتناول الطعام بالملعقة.  ما ذكره لي كان صحيحاً، ولكن ما لم اعرفه حينها أن جهيمان ورفاقه لم يسقطوا من السماء، ولم يخرجوا من باطن الأرض كما تخيلت.  لقد درس جهيمان في جامعة أم القرى بمكة المكرمة واكملها في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.  يكفي أن اذكر اسم هاتين الجامعتين حتى تدرك أي منقلب انقلبه جهيمان.  لا أقول بالطبع أن من يدرس اليوم هناك سيصبح في الغد إرهابياً، ولكن لا يمكن التغافل عن دور تلك الجامعات في التشكيل النفسي والتأصيل المعرفي لجهيمان ورفاقه.  وإلى جانب دراسته الدينية المكثفة، كان جهيمان عضواً فاعلاً في الجمعية السلفية المحتسبة والتي كان يتزعمها مفتي المملكة السابق الشيخ عبدالعزيز بن باز!  ماذا يعني ذلك؟  إنه يعني أن جهيمان لم يكن نبتاً شيطانياً ولا كائناً فضائياً ولا ديناصوراً.  إنه يعني أن ما بين جهيمان وابن باز من المشتركات والمنطلقات الفكرية والثقافية ما يكفي للجمع بينهما في إطار جمعية دينية.  بكلمات أخرى، جهيمان ورفاقه ما كانوا في يوم لحناً نشازاً، بل كانوا جزءاً حياً ضمن نسيج المنظومة الدينية في بلاد الحرمين.  فيما بعد، وقبل حادثة الحرم بعام أو اكثر، انشق بن باز عن الجماعة وتبرأ منها بعدما وسع جهيمان مساحاته التكفيرية إلى حدودها القصوى..إلى درجة تكفير الحكومة السعودية.  هذا التحول الدراماتيكي والمتجاوز للخطوط الحمراء كان إعلانا للفراق ما بين الطرفين.

 

ظل جهيمان معتصماً بالحرم، فيما كانت الحكومة وبجوارها المؤسسة الدينية يقفان بالخارج.  وقف شيوخ الدين إلى جنب الحكومة طمعاً وخوفاً، كما وقفوا قبل سبعين عاماً إلى جانب الملك عبدالعزيز في حربه ضد جماعة الأخوان التكفيرية الجهادية، وكما وقفوا الآن إلى جانب الحكومة في حربها ضد إرهابي القاعدة.  سيناريو تكرر ثلاثاً في غضون قرن واحد.  في كل مرة يلد التيار الديني ابناءً من صلبه (الأخوان..جهيمان..الخلايا الإرهابية التابعة للقاعدة).  وفي كل مرة يتبرأ الأب من أبنائه المتمردين الثائرين.  وفي كل مرة ينعتهم الأب بنفس الأسم... الخوارج الجدد.  تسمية لا تخلو في جوهرها برأيي من اعتراف ضمني بصلابة ايمانهم وحماستهم الدينية.  ألم تكن فرق الخوارج تاريخياً كذلك؟  يلقي الأب الانتهازي بأبنائه الحمقى في أتون نار حارقة فيما ينال أوسمة الاعتدال وذهب السلطان، ولكن هل هناك من يقرأ التاريخ؟...لا أحد.

 

ماذا بعد جهيمان؟  ما حدث بعد جهيمان كان هو الكارثة بعينها.  بدلاً من أن تتنبه الحكومة لمخاطر التطرف الديني الذي خرجت من اكمامه جماعات الأخوان التكفيرية وجماعة جهيمان، نجد أنها قاومت المتطرفين بالمزايدة على تطرفهم!  ألم أقل أننا لا نقرأ التاريخ ولو قرأناه ما فهمناه؟  اثناء حصار الحرم المكي صدقت الحكومة أكاذيب التيار الديني الرسمي المماليء المتلون، وبعد سقوط رأس جهيمان صدقت الحكومة أن رجال الدين سيقتلعون اشواك التطرف وسيجففون منابعه.  نالوا بالأمس القريب نياشين الاعتدال والحكمة واليوم سيقبضون على مفاتيح البلاد مكافأة لهم على مآثرهم الجليلة.

 

اذكر حينها وأنا صغير كيف أن عجلة تديين المجتمع دارت بأقصى سرعة.  فاختفت فيروز وأم كلثوم ووردة من القناة التلفزيزنية اليتيمة والبائسة.  وزادت الجرعات الدينية في التلفزيون والإذاعة.  واختفت دور السينما الصغيرة في مدن المملكة.  وغزت اللحى وجوه الشباب والكبار.  ودوّت الأناشيد الدينية ونافست الغناء.  ونمت الجدران العازلة للرجال عن النساء.  وزاد عدد الدعاة والمفتين ونجوم الكاسيت.  وكبرت الشرطة الدينية فصار لها أنياب ومخالب.  كل شيء من حولي ارتدى عباءة الدين القاتمة.  كان السؤال معلقاً في رأس الصغير: لماذا نحارب جهيمان بجهيمان؟  لم افهم وقتها ما يجري.  يقال أنهم كانوا وقتها يعتقلون الشباب المتدين لكن هؤلاء الشباب كانو يزدادون عدداً، وكانوا يقبضون على مكبرات الصوت قبل وبعد كل صلاة، وكان المجتمع يحتفي بهم ويباركهم.  لماذا كل هذا؟  حتى نحصن المجتمع من بروز جهيمان جديد!!!

 

ماذا كانت النتيجة؟  عشرون عاماً من اختطاف البلاد بحجة تأمينها من خروج مهدي كذاب ساهمت في صناعة "جهيمانات" بأحجام كبيرة ومتوسطة وصغيرة.  صار لدينا جهيمان جديد اسمه بن لادن وآخرون كثر اشعلوا نيران التطرف في بقاع كثيرة من العالم.  التيار الديني الرسمي مرة أخرى ولن تكون الأخيرة يمارس انتهازيته المكشوفة ويتبرأ من جرائمه، والحكومة تقول للناس: اذهبوا إلى هؤلاء الشيوخ الأفاضل، واقتبسوا من علومهم نوراً ينير لكم دروبكم.  تعاليم التزمت والتخلف انجبت من قبل الأخوان وجهيمان وبن لادن، ولكن لا يبدو أننا في هذه البلاد نتعلم من اخطائنا ومصائبنا.

 

بقي أن اقول أن النعيم الذي ترفل فيه الجماعة الدينية طيلة كل هذه السنين يعود الفضل فيه إلى جهيمان.  دفع جهيمان دمه ثمناً لهيمنتها على مفاصل البلاد.  في عنق كل هؤلاء المنضوين تحت جناح التيار الديني دين لجهيمان.  جهيمان هو المسيح النجدي الذي افتدى بدمه اخوته في الدين والعقيدة.  لو كان المتدينون لا يبدّعون من يضع الزهور على القبور، لقلت أنه يجب عليهم أن ينثروا الزهور على قبره.

 

affkar_hurra@yahoo.com

 

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط