جوزيف بشارة / May 15, 2006

يستمر مفتي مصر في إطلاق تصريحاته المثيرة للجدل التي لا أدري ان كانت تعبر عن رأيه الشخصي أم عن رأي المؤسسة الدينية الرسمية التي يعد هو رجلها الثاني بعد شيخ الأزهر. فقد طالب المفتي علي جمعة بالتصفية الجسدية للمتطرفين الذين يقتلون مسلمين ويلوثون أيديهم بدماء المسلمين. ونقلت وكالة رويترز عن المفتي قوله في كلمة ألقاها مساء الاحد 7 مايو 2006 في ندوة عقدت بجامعة الازهر "هؤلاء المتشددون القتلة الارهابيون هم مجموعة أوباش ويجب تصفيتهم جسديا وضربهم بكل قوة" مضيفاً أنه "لا يجب أن نتعاطف مع أناس لوثوا أيديهم بدم المسلمين". ومشدداً على انه "لا يمكن الاتصال بهم أو الحوار معهم لأنهم لا يريدون أن يجلسوا ويستمعوا لأحد." يثير حديث المفتي الكثير من علامات الاستفهام حول شرعية سياسة التصفية الجسدية للمتهمين بتنفيذ عمليات إرهابية ضد مسلمين دون محاكمة، تلك السياسة التي اتبعتها قوات الأمن في بعض الدول العربية ضد عدد من قيادات الجماعات المتطرفة في السنوات الأخيرة.

 

رغم اقتناعي التام بضرورة تنقية المجتمعات الإنسانية من الإرهاب ومن كل من يثبت تورطه في أعمال إرهابية ضد مسلمين ومسيحيين ويهود وبوذيين وهندوس وسيخ ولا دينيين وغيرهم، إلا أن التعامل مع الإرهابيين يجب أن يتم عبر القنوات الشرعية التي يعد القضاء أبرزها، ومن خلال محاكمات عادلة تتفق مع المبادئ الدولية لحقوق الإنسان التي طالما دافعنا عنها وعن حتمية احترامها وعن ضرورة تمتع جميع فئات المجتمعات الإنسانية بها. تلك المبادئ التي لا يمكن لها أن تتجزأ أو تنفصل أو تنحاز لجانب دون الاخر. من هنا، فما ذهب إليه مفتي مصر من ضرورة التصفية الجسدية للمتهمين بالإرهاب يجب النظر إليه على أنه رؤية رسمية تسعى إلى تثبيت دعائم وجود الأنظمة الحاكمة عبر منح قوات الأمن سلطات مطلقة لمواجهة ليس فقط المتطرفين والإرهابيين ولكن أيضاً جميع المعارضين السياسيين من خلال القوانين الإستثنائية.

 

حديث مفتي مصرعن التصفية الجسدية للإرهابيين يعكس أولاً: عدم إخلاص النظم العربية في حربها على الإرهاب، إذ أن توجه النظم العربية الحاكمة نحو تضييق الخناق على الإرهابيين يتم ليس بسبب فكرهم المتطرف والمتخلف، ولكن بسبب سعيهم لتحدي هذه النظم وإسقاطها. ثانياً: المعالجة الخاطئة للإرهاب في الدول العربية والإسلامية طالما استمر رجال الدين في تجاهل التعاطي مع أسس وأصول التطرف، وطالما لجأت النظم الحاكمة إلى استئصال الأفراد المتطرفين بدلاً من استئصال فكرهم المتطرف. ثالثاً: الفارق الحضاري بين العالم المتحضر والعالم المتخلف الذي تنتمي إليه مجتمعاتنا، ولعل محاكمة الإرهابي زكريا موسوي في الولايات المتحدة توضح الفارق الشاسع بين احترام مبادئ حقوق الإنسان في العالم المتحضر من عدمه في العالم المتخلف.

 

فعلى الرغم من مشاعر العداء والكراهية التي أبداها موسوي ورفاقه من منفذي هجمات سبتمبر للمجتمع الأمريكي، إلا أن الإدارة والقضاء والمجتمع الأمريكيين أثبتوا بما لا يدع مجالاً للشك أهمية تغليب قوة القانون على العواطف. وقد جاء ما توصلت إليه المحاكمة، سواء اتفقنا أو اختلفنا معه، بالإضافة إلى مطالبة أهالي ضحايا هجمات 9/11 الإرهابية بعدم إعدام موسوي ليشكل درساً للعالم المتخلف في كيفية احترام حياة الإنسان حتى ولو كان إرهابياً. هل تعني مطالبة المفتي بتصفية الإرهابيين أنه يتوجب علينا أن نتوجه بالشكر للولايات المتحدة لعدم تصفيتها للإرهابيين الذين تحتجزهم مثل القدامى عمر عبد الرحمن ورمزي يوسف وغيرهما من المحتجزين الجدد في معتقل جوانتنامو؟! بالطبع لا، لأن التصفية الجسدية عمل بربري جرى العرف على ألا تقدم عليه دولة أو جماعة متحضرة، ولأن الإغتيال بدون محاكمة عادلة يعد إرهاباً لا يختلف إطلاقاً عن الإعدامات التي تمارسها الجماعات الإرهابية بحق المواطنين والرهائن الأبرياء.

 

من حهة أخرى، يثير حديث مفتي مصر عن الإرهاب ضد المسلمين دون غيرهم، تساؤلات مريرة حول الكيفية التي ينظر بها المفتي إلى المسيحيين وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى الذين يستهدفهم الإرهاب الأعمى بالمقام الأول. لست أدري ماذا كان سيضير المفتي لو أنه أشار إلى تحريم وتجريم الإرهاب الذي تمارسه الجماعات المتطرفة ضد الإنسانية جمعاء وليس فقط ذلك الذي يذهب ضحيته مسلمون. تؤكد توجهات وتصريحات رجال الدين الرسميين في الدول العربية والإسلامية أنهم يقسمون المجتمعات الإنسانية إلى مسلمة وغير مسلمة في تعريفهم ومواجهتهم الإرهاب. ربما كان من حق المفتي أن يتحدث عن المسلمين وغير المسلمين من جانب عقائدي، ولكن تقسيم المجتمعات الإنسانية في مواجهتها للإرهاب على أسس دينية يحمل دلالات عنصرية وتمييزية لا تقل خطورة وقباحة عن الإرهاب ذاته.

 

فما لا يقوله رجال الدين صراحة وعلناً ولكنهم لا يخجلون من التلميح إليه هو أن سفك دماء المسلمين يعتبر إرهاباً يستحق العقوبة التي قد تصل إلى التصفية الجسدية دون محاكمة ـ كما طالب مفتي مصر، ـ في حين أن سفك دماء غير المسلمين لا يعد إرهاباً وربما لا يستحق حتى القصاص القانوني. من خلال هذا الرؤية يمكننا تفسير العديد من الاحكام المخففة التي صدرت في مصر بحق إرهابيين سفكوا دماء مسيحيين في الخمس والثلاثين سنة الماضية. لقد أثارت تلك الأحكام تساؤلات عديدة عند صدورها، غير أنها بقيت بغير إجابة قاطعة، وبقي مصدر ومغزى التفرقة في الاحكام الصادرة بحق قاتلي المسلمين وقاتلي المسيحيين مجهولاً حتى جاء السيد علي جمعة ليقدم الإجابة بتأكيده على أن رجال الدين الرسميين هم مصدر التفرقة في تعاطي الحكومات مع ذلك الإرهاب الذي يذهب ضحيته مسلمون وذاك الإرهاب الموجه ضد المسيحيين.

 

المفتي علي جمعة، بحديثه عن وجوب معاقبة الإرهاب الذي يوجه ضد المسلمين فقط دون غيرهم، لا يكرس فقط تقسيم المجتمعات إلى إسلامية وغير إسلامية، ولكنه في الوقت نفسه يكريس التفرقة بين قيمة الدماء المسلمة الغالية وقيمة الدماء غير المسلمة الرخيصة، وهو ما يعني التصريح المجازي للإرهابيين بسفك دماء غير المسلمين دون الخوف من عقوبات حاسمة. لقد استمرأ المتطرفون دماء غير المسلمين تحت مرأى ومسمع ومباركة رجال الدين الرسميين الذين لم يحركوا ساكناً لدحض حجج الإرهابيين التي يستند عليها الإرهابيون في حروبهم الجهادية التي يذهب ضحيتها الأبرياء، ولقد اتخذ الإرهابيون غير المسلمين أعداءً واعتبروا دماءهم غير ذي قيمة لأن علماء دينيين كالمفتي علي جمعة إستثنوا قتلة غير المسلمين من عقوبات رادعة كالتي ينالها قتلة المسلمين. لعل تعليق محامي الإرهابيين منتصر الزيات، المعارض لحديث المفتي علي جمعة،  والتي قال فيها أنه "اذا كنا نقبل مبدأ الحوار مع الاخر فمن باب أولى أن يكون الحوار مع أبناء الامة" توضح مدى تطرف رؤية الإرهابيين للأخر. فالزيات يعتبر أنه طالما أضطر التحاور مع الآخر ـ الذي هو غير المسلم ـ فمن الأجدى والأفضل التحاور مع الإرهابيين الذين هم برأيه أقرب للمسلم من الأخر المسالم.

 

إن ما يدعو إليه مفتي مصر ليس إلا تغييباً لسيادة القانون واستباحة لفوضى القتل بين النظم الحاكمة والإرهابيين، فالتصفية الجسدية لن تحل مشكلة الإرهاب بل ستزيد من موجات العنف وستولد التعاطف مع المتطرفين بين جموع المسلمين وخاصة المعارضين للنظم الحاكمة في العالمين العربي والإسلامي. فإذا ما كان المفتي يريد حماية النظم الحاكمة من الإرهاب عبر التصفية الجسدية للإرهابيين، فإن المسلمين وغير المسلمين لا يسعدهم التخلص الجسدي من أناس حتى ولو كانوا إرهابيين دون محاكمات عادلة. لقد كنت أتمنى لو أن المفتي علي جمعة تحدث عن تحدي الإرهاب الذي تواجهه الإنسانية بدلاً من تخصيص المسلمين، وكنت أتمنى لو أن المفتي تناول توحيد العقوبات ضد الإرهابيين بدلاً من الحديث عن عقوبات مشددة لسافكي دماء المسلمين فقط. فإغفال الأخر وحقوقه الذي يمارسه رجال الدين يقود إلى التطرف الذي يفرخ بدوره إرهاباً. فلو أن المفتي علي جمعة وغيره من رجال الدين قاموا بواجبهم في التوعية الدينية السليمة، وتبنوا حرباً فكريةً ضد أيديولوجيا الإرهاب لما امتلك المتطرفون الأسانيد الدينية لأعمالهم التي تروع الآمنين، ولما تمكنوا من تجنيد المزيد من الشباب، ولما استمر العنف والتطرف في النخر في أسس التعايش المشترك بين المسلمين وغيرهم من أتباع الديانات المختلفة.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط