مالك مسلماني / Jun 01, 2004

(تحاول هذه الورقة تفسير ظاهرة العنف الجهادي من منظور تأريخي، وتتناول الأسس التاريخية التي غذت فكر العنف، والكاتب إذ يتناول المسألة من هذا المستوى فحسب؛ يقر بأن الظاهرة هي أعقد من هذه المقاربة بكثير، فلتقديم إجابة عن ظاهرة العنف الجهادي، يتوجب دراسة البنى النفسية الفردية والجمعية ـ والثقافية ـ والاجتماعية ، إضافة للوضع السياسي المعاصر.)

************

مر الإسلام في نشأته وتطور دعوته أبان الحقبة المكية في مراحل قسّمتها بعضُ الدراسات الحديثة ثلاث مراحل. وفي ختام المرحلة الثالثة، اضطر مؤسس الإسلام للهجرة إلى يثرب. وقد أحدثت مغادرة محمدٍ مكة أثراً نفسياً كبيراً على شخصيته وشخصية جماعة المهاجرين. إذْ بهذه الهجرة جرى انفصال بين الجماعة والمكان الأم. لقد جرت الهجرة بعد أن بلغ الصراع بين محمد والمسلمين من جهة، والقرشيين من جهة أخرى أشده نتيجةً للمخطط الذي سعى إليه محمد ألاّ وهو القضاء على عقيدة قريش لصالح عقيدته، التي أرداها نقيضاً ونقضاً لدين قريشٍ، وإذ كانت قريش لم تلق بالاً في البدء لمحمد، إلاّ أن التحدي المستمر لها والتهجم على عقائدها أوصلت الأمور بينها وبين محمد إلى نقطة مواجهة جدية شعر المسلمون بأن الخطر قد صار عليهم عظيماً. ولسنا على ثقة من أن الآية (26) من سورة الأنفال "وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ"، تشير فعلاً إلى خطر حقيقي كان يحيق بالمسلمين في مكة، أم مجرد استذكار لحالة ضعف أراد محمدٌ بها في يثربَ أن يقدم للمسلمين مقارنةً بين حالهم فيما مضى وحالهم يوم جاءَت الآية؛ لكن الثابت أن حدة الصراع الذي صعده محمد مع قريش وهجرة المسلمين إلى الحبشة جعلتا قريشاً تدرك أن ثمة استنزافاً بشرياً، وإن المسلمين ميالون من جانبهم للصراع بقرارهم الرحيل عن مكة، فكان عليها دفاعاً عن تكوينها القائم تصعيد حدة صراعها معه أيضاً.

 

وإذْ أكدت هجرة المسلمين الاختيارية إلى يثرب على تمسكهم بدينهم؛ فإنها جعلت قريشاً، تتخوف من نتائج ذلك على الوضع الاجتماعي في مكة، ولهذا قامت بدراسة خطط التخلص بأي وسيلة من محمد، ولاحقاً يستذكر القرآن ذلك "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" (الأنفال: 30) .

 

إن هذه التعابير القرآنية اللاحقة للصراع بين المسلمين والقرشيين؛ والخطر المفترض على حياة الجماعة الإسلامية تعكس قسوة لحظة انفصال هذه الجماعة عن مسقط رأسها والذي يعادل الأم، لحظة وجد فيها المهاجرون أنفسهم مفصولين عن الحماية التي يقدمها المكان في مجتمع كان قائماً على العصبية القبلية، وحيث كانت الجماعة تستمد لحمتها وقوتها من قوة قبيلتها. هذا الانفصال الكبير أحدث على المستوى النفسي للمهاجرين رضة نفسية لن يتم الشفاء منها. وسيتم تأسيس لحمة بديلة تحمي الجماعة وعلى أساس الدين، الذي سيكون عصبية بديلة عن عصبية الانتماء لقريشٍ، وقد بدأت عملية قبلنة الجماعة الإسلامية بقرار محمد كتابة " كتاب المؤاخاة "، الذي قضى أن المهاجرين والأنصار "أمة واحدة دون الناس، وأن لا يقتلْ مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس".

 

كان الإسلام آنذاك بعيداً عن أن يكون الأداة السياسية ـ الثقافية المشكلة للدولة؛ إذْ كان عليه أن يقطع طوريْن قبل أن يصيرها، وملامح هذا التحول لن تأخذ شكلها الملموس إلاّ بعد وفاة محمد، حيث سمح التطور الموضوعي للحركة الإسلامية بتكوين مؤسسة الدولة .

 

ما يعنينا هنا هي المرحلة الأولى في يثرب، فبعد أن وصل محمد ـ  ومن قبله المهاجرون ـ يثرب حاملين تباريح رضة الانفصال، بدأت آلامهم تتجسد في أعراض جسدية قالت عنها المصادر التاريخية إنها ناتجة عن تغيّر المناخ، متغاضية عن حقيقة أن السواد الأعظم من المهاجرين كانوا معتادين على الترحال بسبب من كونهم تجاراً أو مرافقين للقوافل التي كانت تقطع بلاد العرب شمالاً و جنوباً.

 

مع قبلنة الحركة الإسلامية والتخلي عن منهاج الدعوة المكية، التي كانت مجرد دعوة دينية، دون غايات سياسية؛ بدأنا نجد في المرحلة اليثربية الأولى معالم العنف تجاه الآخر بالتكون. كان الآخر آنذاك المكيين، الذين رفضوا دعوة الإسلام.

 

ليس مؤكداً أن هجرة المسلمين إلى يثرب لم تصب القرشيين بالأسى، لكن حياتهم اليومية لم تتأثر من الناحية الاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي لم نشهد تغييرات عقائدية أو نفسية لديهم؛ في حين أن المهاجرين كانوا يؤسسون لحياتهم الجديدة في بيئة تختلف عنهم اجتماعياً واقتصادياً. فاليثاربة يزاولون النشاطات الحرفية، بينما أفتقد المهاجرون لهذه الكفايات. إضافة لذلك لم يرحب جميع اليثاربة بالمهاجرين، حيث وجدت معارضة لهم وللإسلام في الوسط الذي سُمته المصادر الإسلامية منافقين . كان هذا العداء بين رافضي الإسلام اليثاربة (المنافقين) من جهة، وبين محمد والمهاجرين من جهة يزيد من حدة الانكسار النفسي لدى المهاجرين. ولم تكن سنوات العيش المشترك لتبني الود بين هذين الطرفين، بل كان يزيد تبرم الأخيرين من محمد والمهاجرين. فبعد ست سنوات من الهجرة وبينما كان المهاجرون واليثاربة في حملة عسكرية قال عبد اللّه بن أُبيّ بن سَلول، وهو أحد زعماء يثرب الكبار، والذي اُعتبر زعيم المعارضة الرئيس لمحمد في يثرب، قال لمن حوله: "لقد كاثَرْنا المهاجرون في ديارنا واللّه ما أمْرُنا وإياهم إلاّ كما قال الأول: سَمِّن كلبك يأكلك. أما واللّه إنْ رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل". وقد رد القرآن عليه في سورة المنافقين مردداً هذه العبارة بمرارة "لَئِنْ رجَعْنَا إلى المَديِنَة لَيُخْرِجَنَّ الأعزُّ مِنْها الأََذَلَّ" (المنافقون: 8). ولا شك إن ذلك أثار في نفوس المهاجرين شجناً عميقاً وذكّرهم بسخرية قريش، التي أشير إليها في سورة المطفّفين: "إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ؛ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ؛ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ؛ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ" (29 ـ 32).

 

كانت الأيام تمضي ثقيلة على المهاجرين وهم يحملون بيين جنابتهم حرحاً عميقاً، وكلما اشتد التوتر بينهم وبين "المنافقين"، كلما صاروا أكثر ميلاً للعدوان. وهذا ما جعل الحدث الرضي الكبير (الهجرة) يتفاقم في وجدان المهاجرين، ومؤسسي الإسلام، وإذا أخذنا بالاعتبار أن محمداً والصحابة المؤسسِّين قرشيون ـ والتي تحيك المصادر التاريخية أسطورة بشارة محمد لها بالجنة ـ مهاجرون الآن، وجدنا أنه لم يكن بالوسع تفادي هذا الجنوح للعنف لدى المسلمين الأوائل .

 

ثمة معلم خاص بمحمد، فإضافةً لهذه المعطيات القائمة في يثرب، كان محمد يعاني من قسوة النعوت التي أطلقها القرشيون عليه في مختلف مراحل الدعوة المكية، وتصاعد الشقاق بين الجانبين إلى حد تفكير الطرف المكي بتصفية محمد. لقد كانت العلاقة بين الفريقين مصبوغة بمعاناة، لقد وصفت قريش محمداً بأنه مسحور (الإسراء: 47؛ الفرقان: 8)، وساحر (ص: 4)، ومجنون (القلم: 51؛ التكوير: 22؛ الحجر: 6). لقد كان محمد هدفَ سخريتهم واستهزائهم ( أنبياء: 2، 36 ) . كما أنهم رأوا أن محمداً أقل شأناً من أن يكون رسولاً من السماء: "وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً ؟" (الفرقان: 36).

 

كان مفترق الطرق لدى محمد في مكة هو؛ إما سلوك التسامح والمغفرة؛ وإما تطوير عقيدة قتالية تجابه هذه الوضعية القاسية. وقد قيض للاحتمال الثاني الظهور نتيجة مجموعة عوامل. وتأتي الهجرة على رأسها. وبهذا تأسست روح الثأر لدى مؤسس الإسلام وصحابته.

 

عندما وصل المهاجرون يثرب واجهتهم إضافة لعداء "المنافقين" مسألة تحصيل المعاش، وإذ كانت أبواب التجارة الإقليمية موصدة أمامهم، فإنهم لجأوا إلى الغزو البدوي. والقرآن يعترف ضمناً بأن حملات المسلمين ذات طابع بدوي تهدف إلى تحصيل الغنائم: "سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ " (الفتح: 15).

 

انطلق المسلمون المهاجرون في سراياهم العسكرية مدفوعين بالعوز الاقتصادي وحاجتهم للموارد من جهة؛ وحقدهم على أهل مكة الذين اعتبروهم سبب وضعهم المذل في يثرب من جهة أخرى. ولاحقاً لقي هذا تعبيره في قول القرآن "قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ. وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ الله عَلَى مَن يَشَاء والله عَلِيمٌ حَكِيم" (سورة التوبة: 14 ـ 15).

عملياً شكل تحول المهاجرين من تجار إلى غزاة نقطة تحول كبيرة في تاريخ الجزيرة العربية، حيث أعطت للجماعة الإسلامية طابعين مختلفين: فأولاً: بدأت تتكون نواة قوة عسكرية، والتي سمحت لاحقاً بتطوير هذا المعطى وتوسيعه ليتحول إلى الحركة الكبرى للتوسع، والذي أطلق عليه المؤرخون المسلمون اسم الفتح؛ و ثانياً: كان هذا تراجعاً عن المستوى الاقتصادي الذي كانوا عليه من تجار إلى قاطعي طريق. وكان من الطبيعي أن يواكب هذا التراجع في نوعية الإنتاج الاجتماعي تراجعاً عن القيم الأخلاقية للعرب الوثنين؛ فعندما قام عبد اللّه بن جحش بمهاجمة قافلة تجارية قرشية في شهر مقدس لدى العرب، حيث كان العرب تتورع عن سفك الدماء فيه؛ فإن ذلك أثار قلقاً بين اليثاربة دون المهاجرين، الذين فقدوا هذا الإحساس. و لتهدئة قلق اليثاربة، فإن محمداً أيد تصرف عبد اللّه عندما تلا عليهم نصاً قرآنيا (البقرة: 217). و بذلك تمكن من السيطرة على مخاوفهم، بيد أن هذا الحدث شرعن لاحقاً لسلسلة تجاوزات قامت بها الحركة الإسلامية. وربما كان هذا الخرق هو بداية الممارسة العملية للعنف والغزو على أساس النص السماوي.

 

ثم خاض المسلمون أولى معاركهم الميدانية مع قريش في بدر، وتسجل لنا رواية عن التنكيل بعمرو بن هشام، والذي تسميه المصادر الإسلامية ظلماً "أبا جهل" ولقبه هو "أبو الحكم"، ويكفي أن نشير إلى أن محمداً كان قد تمنى من ربه نصرته بإسلامه أو إسلام عمر بن الخطاب لندرك مكانة الرجل في المجتمع المكي. لقد قطعت رجل أبي الحكم في معركة بدر على يد مقاتل مسلمٍ، فجاءَه مقاتل آخر ووجه إليه ضربة إضافية، ولم يمت الرجل، حتى وصل إليه عبد اللّه بن مسعود بعد انتهاء المعارك، وكان أبو الحكم بآخر رمق، فوضع ابن مسعود رجله على عنقه، قائلاً له بأن الخزي قد لحق به، بيد أن المحتضر لم يجد في قتله عاراً، وأضاف في كبرياء ينسجم مع منطق عصره وبيئته: "لقد ارتقيت مُرتقى صعباً يا رويعي الغنم". إنه منطق زمانه و مكانه، لكن العبارة تشير إلى كبرياء الإنسان، ومنطق فارس لم يجد في قتل جريح بطولة. ويقول ابن مسعود إنه احتز رأسه، ثم جاء محمداً فألقى الرأس بين يديه!

 

لقد صنعت الذاكرة الإسلامية من هذا الحدث أسطورة تحريضية على العنف والقتل، فبعد ألف وأربعمئة سنة سيقيض لكاتب هذه الأسطر أن يسمع خطيباً يطلق حممه الحاقدة من أحد المساجد السورية، وهو يروي القصة مشيداً ببطولة ابن مسعود، ويستفيض فيها، ملاحظاً أن عدم تعليق محمد على قطع رأس الجريح يعني موافقة ضمنية. مضيفاً بأن الآثار نقلت إلينا أن جبريل قد تبسم!

 

إن هذه التراجع عن القيم الوثنية سمح بتشكيل مسلك تنكيلي بحق العدو، وتجاوز قيم الفروسية القبلية، كما أسس لسيرورة الغزو البدوي بشكله المقدس (الفتح). ولدينا قصة متواترة في المصادر التاريخية، تتحدث عن امرأة عجوز تدعى (أم قرفة) انتهت نهاية مروعة عندما ألقت سرية إسلامية القبض عليها بقيادة زيدِ بن حارثة، حيث رُبطت رجليها بحبلٍ وربطا إلى بعيريْن ثم زُجرا فقطّعاها. ومن المفترض أنّ ذلك تمّ بأمرِ زيدِ بن حارثة ـ قائد السّريّة. ويبدو واضحاً أنّ قتلها جاء انتقاماً لما جرى مع ابن حارثة، الَّذِي كان قد قاد سريّةً سابقةً إلى قومها، فتعرّضَ أثناءها لجُرْحٍ مميتٍ. جاء قتل أم قرفة المروع انتقاماً لقيامها بواجبها القبلي حيث كانت تحرّض على القتال في الموقعة الأولى، الَّتِي أُصيب فيها ابن حارثة،.

 

لم نسمع تنديداً بهذه الفعلة النكراء من مُحَمَّدٍ أو صحبه؛ وللمقارنة نورد ما تسجله الروايات التاريخية المتواتر في المصادر الإسلامية عينها، من أن محمداً اتفق مع أبي العاص زوج ابنته زينب ـ وكان قد وقع أسيراً في معركة بدر ـ أن يسمح لزينب بالمجيء. ورجع أبو العاص ورتب مساءلة التحاق زينب بأبيها. وخوفاً من أي أذى محتمل يلحقها بسبب من الهوان الذي كانت تشعر به قريش جراء هزيمتها في بدر، رافقها أخو زوجها لتغادر مكة؛ بيد أن رجالاً قرشيين خرجوا في إثرها، لمنعها، وجاء أبو سفيان فقال للحامي بأنهم لا يريدون حبسها أو الثأر منها، فهي لا تعني لهم شيئاً، وقد طلب منه إرجاعها وترحيلها سراً حفاظاً على ماء وجه قريش. و بالفعل رُحلت ليلاً دون أن ينالها مكروه. والأذى الذي لحق بها فيما يزعمون ـ والعبارة لابن هشام و ليست لنا ـ إنها كانت حامل، وإنها رِيعت فطرحت ذا بطنها. ومع ذلك لم يمر هذا الموقف من دون نقدٍ قرشي، فيروى على لسان هند بنت عتبة، إنها قالت :

أفي السِّلْم أعيْارٌ جفَاءً وغلْظةً وفي الحَرْب أشباهُ النِّساء العَوارِكِ

لقد أبت الأخلاق القرشية هذا الأذى الذي لحق ببنت عدوهم، حتى أن قرشيةً في هذا الشعر أقذعت في وصفهم (أعيار) وهي جمع عير، وهو الحمار.

 

لم يكن استثناءً سلوك ابن مسعود، أو التنكيل المروع بأم قرفة، فلدينا روايات عديدة تتحدث عن أفعال مشابهة، و تنجم خطورة هذه المسالك من كونها تراجعاً عن القيم التي كانت سائدة قبل الحركة الإسلامية. والأشد خطراً أنه عندما جاء النص المقدس (قرآناً، وحديثاً) يسوغ هذه الانتهاكات بثاً للثقة، وإزالة للقلق، ولإراحة ضمير المؤمنين، مثل انتهاك سرية عبد اللّه للزمن المقدس، أو ما ترويه كتب التفاسير من أن المسلمين سبوا يوم "أوطاس" نساءً متزوجات، وأنهم كرهوا الوقوع عليهنّ، فلما استفتوا محمداً بشأنهنّ، جاءَت الآية "وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ " (النساء: 24). فقال أحد المسلمين "فاستحللنا بها فروجهنّ" (أسباب النزول للواحدي وكذلك للسيوطي). أي شرعنت اغتصابهن.

 

لقد جاءت هذه التشريعات في إطار البراغماتية المفرطة للمؤسس الإسلام، الذي كان يدرك جيداً دور الدوافع في تحريك جماعته. وقد طورت الحركة الإسلامية في حقبتها اليثربية منهاج عملي ـ نفعي، يهدف إلى تعطيل الضمير الأخلاقي الموروث من الوثنية لدى الجماعة الإسلامية الأولى. وتنقل لنا التواريخ أن المسلمين كرهوا ممارسة التجارة في موسم الحج، ومرة أخرى حرر محمدٌ أتباعه من التزامات أخلاقية عبر النص المقدس: " لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ " (البقرة: 198). دون أن ننسى أن ثمة حديثاً عن ابن عباس يقول: "كانوا يتقون البيوع والتجارة في الحج ويقولون: أيام ذكر اللّه فجاءت الآية؛ فاتجروا". وعملياً تعتبر هذه الآية تراجعاً عن نص قرآني "رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ" (النور: 37).

          كانت هذه السياسات العملية تؤسس لغرارات تاريخية ستتخذ أساساً لبناء العلاقات مع الآخر، ولغياب العقل التاريخي فإنه أصبح لهذه النصوص مفاعيل في النظام المعرفي للمسلم، فصار يعاد إنتاج هذه القيم معرفياً في عقل المؤمن، بعيداً عن السياقات التاريخية التي أنتجتها.

إن السيرورة التاريخية للحركة الإسلامية ودخولها في مرحلة صراع من أجل بسط سلطتها وسيادتها على القبائل الحجازية، ولاحقاً بعد وفاة محمد، مع توسع الحركة الإسلامية في الجزيرة العربية والتطورات الموضوعية التي سمحت بمتابعة هذا التوسع خارج الجزيرة العربية؛ كل ذلك فرضت على الحركة الإسلامية صياغة أيديولوجيا قتالية تناسب الظروف التاريخية، وإذ كانت هذه الأيديولوجية ذات طبيعة دينية، فإن هذه السيرورة وثقت ارتباط العنف بالمقدس أكثر فأكثر.

 

لم يتمكن العقل الإسلامي من تمييز أن العنف في مجتمعات تمر بمراحل تطور كبيرة كان أمراً منسجماً مع اللحظة الزمنية ـ المكانية التي عاشها نبي الإسلام و خلفاؤه، ويتعلق بالطبيعة التطورية من حركة إلى دولة. فقام فقهاء الإسلام بالتقنين للعنف ومنحه القداسة. وهذا ما ميز العنف الإسلامي على أنه عنف مقدس انبثق من عملية الغزو البدوي، ومن بيئة صحراوية. لهذا فإن النصوص المقدسة التي لدينا تمتاز بأنها نصوص سوغت هذه العملية التاريخية. وإذ صار لها قيمة الثبات فإنها أسست لمنهج التغير بالسيف؛ فأعلن القرآن أن المسلمين خير أمة أخرجت للناس، لأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (آل عمران: 110). وبهذا الإعلان تم منحهم صفة الأمة المختارة، أمة الله، ولكن بشرط الالتزام بعقيدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 إن مقولة "الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر" أوجبت على كل مسلم أن يقوم بالدعوة لا للمفاهيم الدينية الإسلامية فحسب، بل حتمت عليه السعي إلى فرض القيم والقوانين الإسلامية على بقية الناس، فثمة إصرار على هذه المساءلة (التوبة: 71؛ طه: 123؛ الحج: 41). كما أن العشرات من الأحاديث الواردة في كتب الأحاديث المعتمدة تحض على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. ويفرض النص القرآني (آل عمران: 104) وجود جماعة تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر. وعلى هامش هذه النصوص القرآنية أنتج الفكر الإسلامي السياسي نصاً يقول: "من رأي منكم منكراً فليغيره بيده؛ فإنْ لم يستطيع فبلسانه؛ فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". ويرد هذا النص في أغلب النصوص الحديثية المعتمدة لدى أهل السّنة.

 

إن روح هذا النص الحديثي يسود في الذهن الإسلامي، لا الفقهي فحسب، بل الشعبي، وهذه العقيدة في الذهنية الإسلامية تطورت لتكون إيديولوجيا تتحكم بوعي المسلمين قدماء ومعاصرين. وقد تطور هذا المفهوم، إلى مقولة "تغيير المنكر باليد لآحاد الرعية". وهو مفهوم سياسي يلهم الجماعات الإسلامية المسلحة .

إن رؤية الحركات الإِسلامية للخطاب في نص الحديث هو أنه خطاب لكل فرد من الأمة الإسلامية؛ وبالتالي يحض على "تغيير المنكر باليد لآحاد الرعية". إن فهم الفكر الجهادي هو أن صيغة الحديث تجعل هذا التكليف واجباً على كل فرد، و تضع له درجات الواجب، البدء باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب. وقد أنتجت هذه الذهنية تبريرها التاريخي المؤسطر عبر روايات تتحدث عن قتل رجل أعمى لامرأة لأنه كان يسمعها تشتم محمداً، دون العودة إلى محمدٍ، ولما علم محمد بالأمر أبطل دمها. مما اُعتبر تجويزاً لمبدإ ("تغيير المنكر باليد لآحاد الرعية").

 

مع "تغيير المنكر باليد لآحاد الرعية"  ترسخت قيم بيئة بدوية قاسية في المنظومة الفقهية الإسلامية، وإذ كان الإسلام قد انطلق من بيئة مدينية (مكة، ويثرب)، فإنه في مسلكه الحربي قد اقترب أكثر من روح البداوة، والعقلية البدوية التي أسست لاقتصاد قائم على الغزو والحرب، في بيئة كانت تتطلب هذا النمط من الاقتصاد، هذه العقلية أسست كذلك لجملة تشريعات تنهل من قانون قائم على السيف بيد الفرد والقبيلة والتي تجسد تعبيرها الأصفى في مقولة "تغيير المنكر باليد لآحاد الرعية". وعندما كان الفقهاء المسلمون يصوغون القوانين، فإنهم كانوا عملياً يشرعنون هذه المبادئ والقيم البدوية. وهذا ما منح المسلم قوة التصرف باسم اللّه وأعطاه رخصة قتل سماوية .

 

وضمن نفس السياق العدواني تجاه الآخر، أنتج الفكر الإسلامي مقولة "الولاء والبراء"، والمقولة هي رؤية سلوكية ترسم علاقة المسلم بالمسلم، والمسلم بغير المسلم، وتنص في شقها الأول "الولاء" على فعل موالاة المسلمين، وهو أفعال ودية. وتأمر النصوص القرآنية بالولاء بين المسلمين، وتوطيد الأخوة الإسلامية و بكلمات أحد المؤرخين المسلمين المعاصرين: "إنّ هذه الآيات (آل عمران: 118؛ نساء 143؛ مائدة 55 ـ 57؛ أنفال 72 ـ 73؛ توبة 23؛ 72؛ مجادلة 22؛ ممتحنة: 1 و8 ـ 9) التي تأمر بالولاء بين المسلمين هي مما يتصل بالحث على الإخوة الإسلامية وتبادل الولاء بين المسلمين دون سواهم" .

 في حين أن  البراء" هو الموقف الواجب على كل مسلم تجاه الكفار. وقد اعتمدت في تكوينها على نصوص قرآنية (آل عمران: 28؛ المائدة: 51؛ الممتحنة: 1). ويوجب الشق الثاني "البراء" بغض الكافرين وترك مودتهم، والعمل ما أمكن على التقليل من شأنهم.

 

إن هذه الخلفية التاريخية الخاصة جعلت الإسلام يؤكد على واجب أسلمة العالم، ويؤكد حتمية النصر النهائي للإسلام في نهاية العالم. إن الفكر الإسلامي يطرح فكرة الجهاد المستمر لأسلمة العالم تبريراً للغزو البدوي. وهذا ما يرسخ لدى المسلمين عقلية تبرر الفعل الجهادي ومهما اكتسب من عنف، وقد تجسد الفكر الجهادي في آيات مختلفة، وتتميز سورة التوبة بلون مختلف عن القرآن المكي، ويتأتى على الباحثين العرب التوقف طويلاً عند هذه السورة لدراسة السياقات التاريخية المؤسسِّة لهذا النص الخطير والذي يشكل ملهماً كبيراً للذهنية الجهادية. دون تجاهل حقيقة أن المسلمين جميعاً معنيون حسب مختلف نصوصهم المقدسة بالدعوة للإسلام .

 

إن التيارات الفكرية الفلسفية والصوفية، التي لعبت دوراً في الحياة الفكرية في عصور الدول الإسلامية قد خففت من هذا الميل ظاهرياً، لكن مبدأ العنف المقدس لم يتم إلغائه من المنظومة الفكرية الإسلامية، ذلك إن المقدس يبقى فاعلاً بغياب أساسه الاقتصادي ـ الاجتماعي؛ وبالتالي ففي البنية الفكرية للإسلام ثمة تحريض متواصل على العنف؛ والقيم الدينية الإسلامية تجعل العنف أمر مقبولاً أخلاقياً. ويدل على ذلك أن الإعلام الرسمي العربي يدّعي أن مجموعات القتل والتدمير في أفغانستان، وامتداداتها في البلدان العربية، هي مجموعات معزولة فاقدة للجماهير. ومن المنظور التنظيمي، فإن هذا الادعاء صحيح، بيد أن المستوي الأخلاقي للمسلمين اليوم لم يسمح لهم برفض مبدأ العنف في الدعوة للإسلام؛ وبالتالي لم نشهد إدانة حقيقية للعنف الجهادي، إلاّ من بعض رجالات الدين المرتبطين بجهاز الدولة في هذه البلد أو ذاك. إن الأرضية الثقافية المنتجة للعنف مازلت راسخة في الفكر الإسلامي، كون النص المقدس خالقاً معرفياً للفرد المسلم في كل زمان، هذا النص يسمح للعنف بإعادة تجديد نفسه وفق آليات التكرار والنسخ، إذ يستحيل إلغاء النص المقدس بالقانون الدنيوي، كونه نصاً سماوياً فوق تاريخي، لا يقبل نسخاً أرضياً. وهذا ما يجعل جميع الحركات الإسلامية تؤسس على المستوى المعرفي للعنف، وحتى عندما تقوم بالتدثر بلباس الدعوة السلمية. ذلك إن المنظومة المعرفية للعنف المقدس تحوز على فعالية كبيرة في النفسية الفردية للمسلم. ولا يقدر العقل الديني على تمييز الواقع التاريخي للسياسة المحمدية والممارسات التي قام بها هو وخلفاؤه في طور الدعوة الإسلامية اليثربية وهو طور صراع مع الآخر وطور تصفية حسابات.

 

إن هذا العقل يقبل مبدأ العنف بانسجام داخلي، ولهذا لم يكن مستغرباً أن نسمع أنه في أيار (مايو) من هذا العام، وفي مؤتمر بين الأديان الذي عقد في قطر قال الناطق باسم المقدس ـ شيخ قناة الجزيرة الذي يدعي أنه يمثل التيار الوسطي في الإسلام ـ، قال: "إن التهاون في عقوبة المرتدُ، الذي يعلن ردّته بلسانه أو بقلمه أو بفعله يعرّض المجتمع للخطر، ويفتح عليه باب فتنة لا يعلم عواقبها إلاّ اللّه".

 

إن هذا الإعلان ـ الفتوى تنسجم مع نمط التفكير الفقهي الإسلامي، وتؤكد على الطبيعة الأبدية لتشريعاته، وتبرهن تالياً تأبي هذا العقل تاريخية الحدث والتشريع. ولنشر عرضاً إلى أن قضية المرتد، لا تحوز على سندٍ سماوي، ذلك أنه لا يوجد نص قرآني بشأنها؛ والمساءلة هي ممارسة سياسية مرتبطة بجملة ظروف تاريخية أبان توسع الحركة الإسلامية في الجزيرة العربية، والتي سميت حروب الردة، وهي من الناحية التاريخية كانت حرب إخضاع لقبائل لا تثبت لنا المصادر التاريخية أنها دانت بالإسلام قط.

 

إن العقل الذي يقبل في القرن الحادي والعشرين سرور جبريل بسبب من التنكيل بعدو جريح، والذي يدعو إلى تفعيل حكم المرتد، لا لشيء إلاّ لأن ذلك ارتبط بالمقدس وجرى اقترافه على أيد من ينتجون هذا المقدس، لهو عقل يستسيغ قبول كل فعل بما فيه قبول إبادة البشر.

 

فالعقل الذي يدعي الوسطية، وإذ يقبل قتل المرتد، هو عقل يقبل في صيغته الأشرس مبدأ إبادة أمم لمجرد نزعة التشفي الإلهي، وحيث وصل درجة التماهي مع الجبار المنتقم الذي يحكم على مخالفيه بالإبادة. وقد تجسد هذا التماهي بسلوك الفاتحين، وحتى داخل المجتمع الإسلامي فإن حالة التماهي مع اللّه الشديد العقاب، قد لقيت مظاهرها في بعض فرق الخوارج قديماً، وفي الحركات الجهادية في العالم المعاصر، ومثالها الأشد وحشية، في الجزائر .

 

إن هذا التأسيس للعنف والإبادة، و التماهي مع اللّه، سمح لمجموعات من الخوارج أن تحكم على كل من لا يقبل رؤيتها العقائدية بالكفر، ولم تتردد بقتل مسلمين. لقد كانت فرق الخطابية، والأزاراقة وغيرها لا تكتفي بقتل المسلمين، كونها تعتبرهم من منظورها كفاراً، بل رأت في سبي النساء المسلمات، وقتل الأطفال أمراً واجباً في إطار جهادها الإبادي، مستندةً فيما يخص النساء والأطفال إلى الآية: "رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً" (سورة نوح: 26). ونجد صورة ذلك في الزمن المعاصر في تيارات إسلامية في الجزائر.

 

إن هذه التأسيسات المرعبة لفكر يكره الحياة، ويسعى إلى هدم الحياة لهي من مفاعيل أزمة اجتماعية بلا شك، لكن بالمقابل من منتجات الفكر الذي يصوغ ويعيد صياغة منظورات المسلم للواقع .

وضمن هذا الإطار الفكري، شرعن أحد نشطاء الجماعات الجهادية "استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد الكفار" في رسالة جوابية على تساءل عن الحكم الشرعي بصدد استخدام أسلحة الدمار الشامل. يقول:

"فإذا لم يندفع الكفار عن المسلمين إلاّ باستخدام مثل هذه الأسلحة جاز استخدامها حتى لو قتلتهم عن بكرة أبيهم، وأهلكت حرثهم ونسلهم".

 

ويشترط كاتب هذه الرسالة:

"إن الأصل في القتل الإحسان"، لقول محمد: "إنَّ اللّه كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته".

واستنداً إلى مراجع تراثية يقول كاتب الرسالة بأن "فأحسنوا القتلة"، عام في كل قتيل من الذبائح و القتل قصاصاً و في حد ونحو ذلك" .

 

إذاً، إنه عام، في الحيوانات والبشر(!!!)، ويضيف الكاتب:

"لكن الإحسان في القتل مشروط في حال القدرة، أما إذا لم يقدر المجاهدون على ذلك مثل اضطرارهم لقصفهم وتدميرهم أو تحريقهم أو إغراقهم ونحو ذلك فإنه يجوز".

ويضيف:

"وكذلك اجتناب قتل النساء والصبيان، إنما يكون في حال التمكن من تمييزهم، أما إذا لم يقدروا على ذلك.. فإنه يجوز قتلهم تبعاً للمقاتلين".

و تصل روح الثأر أوجها بإجازة قتل المسلم، إذا كانت إبادة العدو تتطلبه.

 

إن الفكر الإسلامي أنتج تشريعه ومنظوره الفقهي ضمن معطيات عصره، وكانت الوسائل من طبيعة العصر، فأدوات: السيف، والسكين، والترس، والرمح، وغيرها، هي سلاح ذاك الزمان، لكن العقل الإسلامي ـ الجهادي المتثبت على الماضي، والذي يجعل قيمه مثالاً مستقبلياً، والمتوسل بلمقدس لإشباع كل غرائز الموت لديه، أراد أن يتوسل هذه الأدوات أيضاً، فمن جهة إذ تظهره متمسكاً بالماضي، عبر توسل أدواته، فإنها تسمح له بالإيغال بدم الضحية، وتشبع غرائز الموت وكره الإنسان فيه، بمظهر كره الآخر. إن القتل من منظور القيم الحقوقية الإنسانية، والحضارية أمر بات مرفوضاً، وحتى لو كان القتل بإحسان، فكيف بهذا القتل السادي ذبحاً، وتشفياً بضحية. إن هؤلاء القتلة يجسدون العنف في الفكر الإسلامي بأكثر أشكاله رعباً، وجنوناً. فيهم تتجسد كل السادية، والرعب من الآخر. إن وحشية التعامل هذه مع الآخر تظهر الرعب منه، وشدة الخوف. إنه مظهر جبن، لا منعكس شجاعة، إنه حالة هزيمة، لا حالة نصر، ومثال على اللاعقلانية, لحظة غياب الرجولة حتى بمفهومها التقليدي، لا  لحظة فروسية.

 

إنه لأكبر مثال على التصاق مجتمعات برمتها بالماضي، لأنها لم تنتج بعد مفاهيم حديثة تبطل التأسيسات الفكرية للعنف، و آليات رفض للممارسة العملية لهذا العنف. إنها لدليل على نأينا الشديد عن الحضارة والإنسانية، فما دام هذا القتل لم يلقَ رفضه الشعبي، فهو يدل على المدى الذي يفصلنا عن كل ما يمت للإنسان.

==============

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط