بسام درويش / Oct 08, 2007

كنت داخل محل سوبر ماركت في قسم الخمور، أدقق النظر في لصاقة على زجاجة نبيذ بين يديّ، باذلاً جهدي لقراءة النص المكتوب بأحرف صغيرة على مسامع صديق كان يرافقني.   

أعترف بأني لست خبيراً على الإطلاق في الخمور، لا بل أنا لا أشرب النبيذ إلا مع ضيوفي أو في المناسبات؛ لكن، وإذ كنت أتوقع في ذلك اليوم ضيفاً يزورنا لأول مرة وسوف يشاركنا طعام العشاء، فقد فكّرت بأن أعرف بعض الشيء عن تلك الزجاجة قبل أن أشتريها.

اقترب مني شابُّ في الثلاثينات من عمره يحمل زجاجة من نوع آخر وقال لي بلطف:

ـ أنا لا أعرف شيئاً عن النبيذ، وإذا قرأتُ هذه اللصاقة فإنني لن أفهم منها الشيء الكثير. يبدو أنك خبير بالخمور فهل يمكن أن تخبرني عن رأيك بهذا النوع؟

************

لا أعرف ما الذي جعل الشاب يعتقد أنني خبير بالخمور، ولربما كان السبب هو عمري الذي يكاد أن يكون ضعف عمره.  لقد سمعت القليل من هنا وهناك عن النبيذ، لكن ما تعلمته لا يكفي حتى على مساعدتي على اختيار نوعٍ منه لنفسي فكيف به للآخرين! 

حبكت النكتة خيوطها في رأسي وغمزت بعيني صديقي، ثم نظرت إلى عيني الشاب محاولاً أن أسبر من خلالهما أغوار شخصيته لأعرف ما إذا كان من النوع الذي يتقبّل المزاح، فوجدت في وجهه وعينيه ما شجّعني على ذلك.

ما أسهل علينا حقاً أن نصبحَ خبراءَ في موضوع من المواضيع حين يكون سائلنا عنه أجهلَ من فراشة!

قلت له: لقد قادتك الصدفة إلى خبير في هذا الحقل يا صاحبي.

وخلال دقيقتين أو ثلاث، وبينما كان صديقي يبذل جهداً عظيماً كي يتمالك نفسه عن الضحك، ارتجلتُ للشابّ محاضرة عن أنواع العنب ومواسم قطافها تفتقت خلالها مخيلتي عن أسرار صناعة الخمر وما يضيفون إليه من مواد تؤدّي إلى فساده بعد فتح الزجاجة إن لم تُستَهلَك خلال فترة بسيطة من الزمن، وحدثته عن بعض أسرار أصحاب الصنعة في الحفاظ على النبيذ حتى ولو بعد فتح الزجاجة بأشهر عديدة، وأخيراً أنهيت محاضرتي بقولي إن أهلي كانوا من أصحاب كروم العنب وصنّاع النبيذ، وإنه ليس هناك بالحقيقة من فارق كبير بين الرخيص والغالي منه سوى الاسم ولون اللصاقة.

مدّ الشاب يده يصافحني ويشكرني بحرارة قائلاً: أنت معلّم عظيم.. أنت معلّمٌ رائع.. لقد أعطيتني درساً ممتازاً عن هذا الموضوع، وأرجو الآن أن تنصحني إذا تفضلت بزجاجة جيدة ورخيصة!

 

آنذاك، كان لا بدّ من تركِ المزاح إلى الجدّ فقلت له وأنا أربت على كتفه: لا بل سأعطيك يا صاحبي نصيحة أفضل بكثير، وهي ألاّ تعتقد أنّ كل شخص تراه في السوبر ماركت يحمل زجاجة نبيذ يقرأ ما هو مكتوب عليها هو بالضرورة خبير يمكن أن تعتمد عليه!.. صدقني، إني لا أعرف عن النبيذ أكثر مما تعرفه أنت!

وكاد الشاب أن يقع على قفاه من الضحك، ثم مدّ يده للمرة الثانية يصافحني وهو يقول:

نصيحتك هذه هي أفضل كأس نبيذ شربته في حياتي!

*********

هذه الحادثة ـ التي جرت معي منذ ما يزيد عن السنتين ـ تعود فتخطر بفكري كل مرّة وأنا أشاهد في برنامج تلفزيوني حواراً مع ضيفٍ يعتبر نفسه خبيراً، أو يُقَدَّمُ للمشاهدين على أنه خبير في شأن من الشؤون التي تُشغِل وسائل الإعلام.

 

من المعروف أنّ معظم وسائل الإعلام الخاصة في الغرب، هي مؤسسات تجارية، غايتها الربح قبل أيّ شيء آخر حتى ولو كانت تتبع خطاً معيناً، لذلك، فمن الطبيعي أن نجد بعضها ينافس البعض الآخر في الركض وراء الخبراء في كل موضوع يستجد على الساحة الإعلامية.  

 

ولأنّ الإسلام اليوم هو من أهم الشؤون التي تستحوذ على اهتمام وسائل الإعلام والناس، نظراً لارتباطه بكلّ الأعمال الإرهابية التي يعاني منها العالم؛ فلا غرابة أن يصبح الموضوعَ الساخنَ للكثير من البرامج التلفزيونية والإذاعية وصفحات الصحف وعشرات الكتب التي صدرت عنه. لكنّ المشكلة هي في أنّ الكثيرين من العاملين في وسائل الإعلام هذه، لا يختلفون كثيراً عن ذلك الشاب الذي توسّم الخبرة في وجهي لمجرّد مشاهدتي وأنا أقرأ اللصاقة الموجودة على زجاجة النبيذ على مسامع صديقي.  لقد أصبح بنظرهم كل مسلم سابق ـ أو يدّعي أنه مسلم سابق ـ خبيراً في شؤون الإسلام، لا بل وفي أغلب الأحيان خبيراً في شؤون الشرق الأوسط أيضاً.

   

هنا لابدّ لي أن أقول إنّ كلّ صوتٍ يرتفع ضدّ الإسلام هو بمثابة موسيقى عذبة في أذنيَّ، لكنْ، هل كل من نبذ الإسلام ثمّ تجرّأ على الإعلان عن نبذه له يصبح أتوماتيكياً خبيراً به وبفقهه، لا بل زد على ذلك، خبيراً بمنطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي؟!

 

مع احترامي لكل من نبذ الإسلام أو تجرأ على الحديث عنه دون خوف ـ مسلماً سابقاً كان أو غير مسلمٍ ـ فإنّ

ادّعاء الخبرة من قبل البعض، أو تقديم وسائل الإعلام لهم على أنهم خبراء، يؤدّي إلى عكس الغاية المرجوّة مما يُفْتَرَضُ به أن يكون حملة توعية ضدّ هذه الايديولوجية الخطرة.

 

من أخطر العبارات التي نسمعها من هؤلاء الخبراء عبارة "الإسلام المتطرف" radical Islam  و"الإسلام المعتدل" moderate islam  مما يوحي بأن هناك حقاً إسلاماً متطرفاً يقابله إسلامٌ معتدل.

 

لا أحد منا يجهل أو ينكر عِظَمَ تأثير وسائل الإعلام على الرأي العام، لكن ربما يجهل كثيرون أن هذا التأثير يشمل أيضاً السياسيين صنّاعِ القرارات التي تتعلّق بحياتنا ومستقبلنا كأفراد وكشعوب. وصناع القرار هؤلاء، أناسٌ ككلّ الناس، لا بل إن منهم مَنْ هم أجهلُ مِنْ بعض عامة الناس. وهذا يعني إنه ليس البسطاء من عامة الناس فقط هم وحدهم الذين يقعون ضحية هذه الخبرات المدّعاة، إنما أيضاً أؤلئك الذين نعتمد عليهم في صنع القرارات، وعلى التحديد، القرارات المتعلقة بالإرهاب ومصدره.  

 

في الحقيقة، إنّ أصحاب الدعاية الإسلامية المخادعة على الرغم من حملاتهم الظاهرية ضدّ هؤلاء "الخبراء"، فإنهم لا شكّ يشعرون بالسعادة في قلوبهم وهم يسمعونهم يكررون هذه التصنيفات التي لا تعتمد على معرفة في الإسلام.  عندما يتحدّث أصحاب الدعاية الإسلامية عن إسلام معتدل وإسلام متطرف فإنّ القليل من الناس سوف يصدّقهم، لكن حين يستخدم مسلمون "سابقون" ـ كما يسمون أنفسهم ـ  هذه التصنيفات، فإنها تصبح أكثر موثوقيّة.

 

على الرغم من أني لا أشكّ في صدق نيّة مقدّمي هذه البرامج وهم يستضيفون هؤلاء "الخبراء"؛ وعلى الرغم أيضاً من أنّي لا أشكّ في صدق نيّة كثيرين من "الخبراء"، حتى وهم يرتكبون أخطاءً قاتلة في رميهم للكلام على عواهنه، لكني أشكّ كل الشكّ في صدق بعضهم عندما أسمعهم يرددون بين وقت وآخر أنهم "يحبون دينهم وثقافتهم" بينما يسمّون أنفسهم "مسلمين سابقين".

أعجز عن فهم إمكانية محبة شيء ننبذه!.. إنه لمن الصعب ـ لا بل من المستحيل ـ أن أفهم، كيف يمكن لهؤلاء الجمع بين ما يتحدثون عنه من بشاعة تعاليم هذا الدين وبين فخرهم بالانتماء إليه وبتراثه وثقافته!

**************

 

ختاماً أقول، أنا لا أستطيع أن أتذكّر عدد الكتب والمراجع الإسلامية التي قرأتها في حياتي منذ حداثة سني أو تلك التي لا زلت أقرأ فيها. مع ذلك، فإني أستحيي من أن أدعوَ نفسي خبيراً بشؤون الإسلام، لا بل أخشى من هذا الوصف إن أطلقه عليّ أحد من الناس. ادّعاء الخبرة مسؤولية علمية وأخلاقية عظيمة أمام الضمير وأمام الناس الذين يتطلّعون إلى من هم أكثر علماً بشأن من الشؤون منهم؛ فصفة "الخبير" تتحوّل في ذهن الكثير من المستمعين والقراء تلقائياً إلى "مرجعٍ موثوق". لا أعرف إن دعوتُ نفسي خبيراً، ماذا أسمّي "أبو موسى الحريري" أو القمص زكريا أو الطيب الذكر الأب الأستاذ يوسف درة الحداد أو غيرهم من العمالقة الباحثين والعالمين بشؤون الإسلام. لم أقل ما قلت من قبيل "التواضع" كما قد يعلّق البعض، لأنّ القول بذلك أيضاً هو تعبير ماكرٌ لادّعاء الخبرة. كوننا أخبر من غيرنا بشأن من الشؤون لا يرفعنا إلى مصاف الخبراء به.

***********

********

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط