بسام درويش / Mar 10, 2002

لم أرَ الرجلَ من قبل ولا مرةً واحدة. التقيت به بينما كنت أتسوّق في مجمّع تجاري لبيع الألبسة. تبادلنا النظرات فألقيت عليه التحية أدباً، فأجاب عليها بهزة رأس وبعبارةٍ مماثلة. وحينما عادت عيناه لتلتقي بعينيّ مرة أخرى، قابلته بابتسامة وقد بدا لي من ملامحه بأنه عربي ثم بادرته قائلاً: مرحباً.. أعتقد أنك عربي؟.. وابتسم وهزّ رأسه بالإيجاب ثم قال وهو يمد يده لمصافحتي: "نعم، أنا من فلسطين. وحضرتك؟.."

ذكرت له اسمي الكامل وأنا أصافحه ثم قلت: "أنا من سورية."

لكن، ولأن الاسم لا يوحي بأن صاحبه قد يكون مسيحياً، لم يحتَجْ صاحبنا إلى أخذ أي نفسٍ قبل أن يضيف متسائلاً وواثقاً من الجواب: "مسـلمٌ إن شــاء الله؟.."

******

لم تكن تلك هي المرة الأولى التي أجد فيها نفسي أمام سؤال بليد كهذا، ولذلك لم تكن لي حاجة للبحث عن جواب له. لقد طُرحَ عليّ هذا السؤال عشرات وعشرات المرات وبذلك أصبح في جعبتي من الأجوبة المتنوعة ما يكفي لكتابة أطروحة جامعية. سؤال في الحقيقة لا يعبّر إلاّ عن مدى تعاسة أبناء هذه الأمة الذين يرون فيه أفضل طرح يبدأون به علاقةً اجتماعية، قصيرةً كانت أو طويلة، مع غيرهم من بني البشر. هنا، أتوقّف لأقول أنني لست من الذين يجدون متعة في السخرية من تعاسة الناس، ولكنّ طرحاَ غبياً كهذا الطرح، حين يتكرر، لا بدّ أن يدفعَ أكثر الناس رزانةً إلى استنباط ردود ساخرة تلقّن هؤلاء الأغبياء دروساً لا ينسوها. وهكذا فقد كان لي مع كل واحد من هؤلاء تعساء العقل حكاية.

******

كان جوابي على صاحبنا الفلسطيني قصيراً جداً لم يتجاوز الحرفين إذ نظرت إلى عينيه محدقاً وقلت: "لا!".. ثم تابعت تحديقي محاولاً أن أفرض عليه التعقيب على جوابي، وعندما لم أُفلِح بذلك، ابتسمت بسخرية وأشرت له بيديّ الاثنتين أدعوه إلى الاستمرار في الحديث قائلاً له: "أرجوك.. تابع.. ماذا تريد من سؤالك؟"

شعر بالارتباك، وكان هو هذا ما أردت. تلعثم لبرهة من الزمن ثم قال: "وما أهمية ذلك.. كلنا أخوة عرب.. الدين لا يهم.. الدين لله!.." ومرة أخرى لم أجب بكلمة واحدة! لقد خطر ببالي أن أقول له: "إذا كان الأمر هكذا.. كلنا أخوة.. الدين لا يهم.. والدين لله.. فلماذا هذا السؤال السخيف؟.." ولكنني لم أقل، بل عدّلت ابتسامتي لتعني تماماً ما أردتُ أن أقول. فعلتُ ذلك افتراضاً مني بأن للرجل عقلاً سيحفزه على التفكير.

 

عدت إلى متابعة بحثي بين القمصان متابعاً الابتسام وأنا أرقب الرجل بطرف عين لأراه يبتعد عني دون أن ينبث بكلمة أخرى. ترى ماذا كان يدور في رأسه بعد الانصراف؟.. "الله وحده يعلم!.." ربما تلقّن درساً لن ينساه. وربما ابتعد عني يلعنني أو يلعن نفسه ولسانه وتربية مجتمعه.. أو ربما كان يخلو من أي إحساس حيث لن يتردد في طرح السؤال نفسه حتى بعد لحظات على أول إنسان تقع عيناه عليه يظنه من أبناء أمته التعيسة.

******

في مناسبة أخرى مماثلة، كان ردّي على سؤال أحدهم "هل أنت مسلم؟"، هو تكرار سؤاله نفسه، أي بقولي له: "وأنت؟.. هل أنت مسلم".

قلت ذلك بشكل لا يوحي بالتحدّي موهماً إياه بأنني مسلم كما يتمنى لي أن أكون، فجاء جوابه يقول: "نعم والحمد لله.." فأتبعته فوراً بإجابتي وقلت: "وأنا أيضاً أقول الحمد لله!.." وعندما عبّر الرجل عن سعادته بمدّ يده للمصافحة وقد رسم على وجهه بتسامة عريضة، سرعان ما وصله جوابي يزيل عن وجهه تلك الابتسامة إذ تابعت قائلاً: "أرجو يا صاحبي أن لا تكون قد أسأت فهم السبب وراء حمدي لله.. أنا أحمد الله لأنه أعطاني العقل كي لا أسأل كل من أتعرف عليه عن دينه الذي يؤمن به."

******

كنت أقوم بتصوير بعض الصفحات من كتاب عربي على آلة "الفوتو كوبي" في محل كبير لبيع الأدوات المكتبية. لفت الكتابُ نظرَ الشخص الذي كان إلى جانبي ينتظر دوره لاستعمال الآلة فألقى علي السلام بالعربية بقوله "الســلام عليكم". وبدا لي واضحاً من شكله ولغته بأنه باكستاني وأجبته التحية بمثلها إذ قلت له أيضاً: "وعليكم السلام.." بدأ بعد ذلك بسؤالي عن البلد الذي أتيت منه وحين أجبته بأنني من سورية قال لي أنه من باكستان ثم أتبع جوابه فوراً بالســؤال المعتاد، ولكنه طرحه، ـ على عكس العرب المسلمين في طريقة طرحهم له ـ واثقاً كل الثقة بأن كل عربي لا بد وأن يكون مســلماً، إذ قال: "إذن أنت مســلمٌ طبعاً!!.." So you're Muslim of course  وسقط جوابي على رأســه كالصاعقة حين قلت له بشكل مقتضب بالإنكليزية والابتسامة تعلو شفتيّ:  I was !   (سبق وأن كنت!)

رثيت له وقد رأيته وكأنه أصيب بدوخة كادت تفقده توازنه ولم يعد يعرف ماذا يقول. ولكني وإذ اعتبرت الاستمرار في تلك المزحة كذباً، ربتّ على كتفه وقلت له: "لا تجزع يا رجل.. إني أمزح معك!.." وآنذاك انفردَتْ أساريرُ وجهه وكأن روحَه رُدّت إليه فقال: "الحمد لله.. الحمد لله.. لقد أحزنتني يا أخ.. لقد ظننت حقاً أنك خُدِعت كما خُدع بعض المسلمين الذين تركوا دينهم!"   

هنا أترك المجال للقارئ كي يتصوّر ردّة فعل صديقنا الباكستاني حين قلت له بعد أن توقف عن "الحمدلة" بأن مزاحي كان بخصوص هجري للإسلام فقط ولكني مسيحي بالولادة.

******

مسلمٌ عربي آخر طرح علي السؤال نفسه في محل لبيع الألبسة ايضاً: "مسلمٌ إن شاء الله؟!.." لكنه لم يعرف كيف يتوارى عن وجهي بعد ان أجبته بسرعة قائلاً: "لا قدّر الله يا رجل!.."    

******  

ربع قرن من الزمن تقريباً مضى على وجودي في أميركا، لم يسألني أميركي واحد عن الدين الذي أنتمي إليه، إلا في جلسةٍ كان الدين هو موضوع الحديث الذي يدور فيها.

سبع سنوات مرت وأنا أتبادل التحية تقريباً كل يوم مع جاري في الحي الذي أقطنه دون أن أعرف بأنه يهودي أو أن يعرف هو بأنني مسيحي أو مسلم.

وحدهم العرب والمسلمون بين شعوب العالم يحشرون الدين في كل كبيرة وصغيرة. وحدهم الذين يسعون إلى معرفة دين محدّثهم كي يبحثوا عن الوجه المناسب الذي عليهم أن يلبسوه وهم يتحدثون معه.

وحدهم المسلمون يضيعون أيام حياتهم وهم يتباحثون في مجالسهم إذا كان يجوز تهنئة المسيحي بعيده أم لا، أو يستفتون عقلاءهم لمعرفة ما إذا كان يجوز إلقاء السلام على غير المسلم أم لا. 

******

"هل انت مسلم؟" سؤالٌ لم يعد من حق المسلمين أن يسألوه بعد أحداث الحادي عشر من أيلول. هذا السؤال أصبح فقط من حق غير المسلم أن يكون البادئ به حين يلتقي بمن يرى في وجهه ما يدعو للشك أو الخوف! 

*****************

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط