وقفةٌ مع دين الحبّ عند ابن عربيّ
إبراهيم عرفات / Jan 09, 2010

محبوبي هو ربي وربي هو محبوبي. كل الخلائق تطلبه وتترجى وجهه الكريم إذ يمجده كل يوم مئات الملايين من معاصرينا في نحو خمسة آلاف لغة. لا يحتكره أحد ولا يقول هو لي دون سوايَ. الله للجميع ويحب الجميع؛ وكان لابد له أن يتثلّث في أقانيمه لعليّ أظفر بمعرفته؛ إذ هو إنْ بقى واحدًا أحدًا أعزلاً في سمائه لا يمد يده لي ولايُقبل إليّ هرولة في تجسده، بماذا تفيدني وحدانيته؟ وما الفائدة التطبيقية العملية التي تعود عليّ من توحيدٍ كذلك؟

 

 إنَّ الاعتقاد بوحدانية الله أمرٌ بديهيٌ يقره الجميع بمن فيهم الشياطين. يقول رسول المسيحية يعقوب: "أنت تؤمن أن الله واحدٌ؟ حسنًا تفعل؛ والشياطين يؤمنون ويقشعرون". بيدَ أننا نحتاج لهذا الإله الواحد أن يتلاحم معنا ويمد يده إلينا في مجيئه إلينا. نحتاج لأكثر من عقيدة التوحيد وما فيها من جفاف. لذلك يأتي ربنا وبمحض إرادته المطلقة وبدافع من حبه الفيّاض فـ يتثلث ويصبح ثالوثاً دون غضاضةٍ، وإنْ كان هو الواحد الأوحد في الوقت ذاته. قبول أمر روحي كهذا يتم على مستوى الدخول في الإيمان لا التجريد في الأفكار وإلا فنحن باقون على البرّ مع جميع المتفرجين والذين يشاهدون من بعيد وبينهم وبين الله هوة سحيقة فلا نعرف أكثر من وحدانية الله. نرقب الماء عن بعدٍ وهيهات أن تبتل أقدامنا بالماء. لابد لنا أن نخوض غمار مياه الحبّ الإلهي إذ هناك مستوى أعمق: مستوى الثالوث. كان لشيخ الإسلام ابن عربي من البعد الروحي وجمال النفس ما يؤهله وهو في الإسلام على إدراك ذلك فطفق يعلن عن حبه لإلهه ويناديه بأبيات غزلية رغم أن دينه لا يقرّ الغزل العشقي بالله إذ لا يأتي في القرآن ذكر صريح يفيد مباشرة بأن الله حبّ أو أن الله هو الحبيب أو المحبوب أو المعشوق. أما ابن عربي فيتجاوز الجمود القاسي الملازم للنص القرآني ويشرع في مغازلة إلهه محبوبه في أريحية تأخذ بقلوبنا. فلا عجب إذًا أن أكثرنا يهيم ويترّنم بشعر ابن عربي وعشقه الإلهي واتساع مساحة التسامح الإنساني في صدره تجاه الناس من كل الأديان واللا أديان حيث ما يربط الناس عامة ويجمعهم لهوَ أكثر مما يفرّقهم.

 

أوليسَ كل حبٍ صادقٍ ينبثق في أساسه مباشرة من أحشاء الله؟

ـ بالطبع نعم!

ـ وهل نحن بداخلنا حب في ذواتنا ويأتينا من دواخلنا نحن؟

ـ بالطبع كلا! فمن أين تعلمنا نحن الغزل ومن أين تعلمنا الحب؟ ومن أين لقلوبنا أن تخفق بالنشوة؟ بالتأكيد من جابلنا وباري كياننا الله نفسه. فكلّ حب لا يكون مصدره الله ولا يتأصّل في قلبِ الله هو زيف وخداع لأنه يطلب ما لنفسه وأما الحب فيطلب ما لـ "الآخر". هذا يعني أن أخرج من ذاتي فينصبّ كل اهتمامي على فلان/ فلانة لا على نفسي فأطلب الخير كل الخير لهم. أحيانًا يحب الرجل الفتاة لأجل أنه يرى صورته فيها، يرى ذاته فيها، ولأجل الأشياء التي تقدمها هي له. مثل هذا الحب هو نرجسية كما رأى نرجس صورته في مرآة سطح المياه. ولكن عندما أحب فلانة فهي ذاتها يجب أن تكون هي شغلي الشاغل وأن أسعى بكل طاقتي لإسعادها دون انتظار مصلحة شخصية أو نفع ذاتي بالمقابل.

 

ـ ولكن لأننا نفكر في أمور الحب والجنس والعشق بمعزل عن الله تبادرت لعقولنا ذهنية الحلال والحرام بطوطميتها والتي فيها يتنجس أي شيء وكل شيء لأن الذهن يقيس الأمور قياسًا استهلاكيًا نفعيًا. عندهم ممارسة الحب قد تحولت إلى حق شرعي تحكمه عقود الزواج حيث العقد شريعة المتعاقدين؛ ومن ثمَّ جاء التعبير "عقدة النكاح" الحاصل بين ناكحٍ ومنكوحةٍ. أي ذوق سليم هذا الذي يستسيغ عبارة مثل "منكوحة"؟ ومع ذلك فهي في جوهر وصميم الفقه الإسلامي وقرآن محمد وأحاديثه فكان هذا هو أقصى قياس في الحب يصل إليه الإسلام.

 

كان ابن عربي يرى أن المسيح هو خاتم الأولياء ومحمد خاتم الأنبياء. لا أراه يضع المسيح في مصاف الأنبياء العاديين والذين مهمتهم التبليغ للرسالات الإلهية ولكن الأولياء والذين يوالون الله والذين جاء عنهم الحديث القدسي في الإسلام "من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب". وعندما أتذكر ابن عربي يحضر لبالي فورًا ناس جاءوا للمسيح في ظلام الليل خلسة وهم في أعماقهم يستشعرون حقيققته ويقرونها مثل نيقوديموس؛ ومن ثم فالمسيح يواجههم بمكاشفة صريحة من القلب بعد أن فاضَ به الكيل: "أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا!" (يوحنا 3: 10). لابن عربي، أيضًا، مكانته ومهابته كعلمٍ من أعلام الإسلام، ولـ نيقوديموس أيضا مهابته ومكانته الاجتماعية باعتباره ابن طائفة اعتزالية متشددة (الفريسيين) وأحد أعضاء مجمع السنهدريم اليهودي في ذلك الوقت.

 

وشيخنا الجليل، ابن عربي، الشيخ الأكبر (1240-1165ميلادية)، له ديوان "ترجمان الأشواق" بتحقيق المستشرق رينولد نيكلسون Reynold Alleyne Nicholson وبطباعة الجمعية الأسيوية الملكية (London : Royal Asiatic Society, 1912). وقد جاء في القصيدة الثانية عشر له هذه الأبيات البديعة التالية والتي يناجي فيها محبوبه:

تثلَّث محبوبي وقد كان واحدًا

كما صُيّر الأقنام بالذاتِ أقنمًا

 

المحبوب واحدٌ في أقنوميته، فمن أين له بالتثلّث يا شيخنا ابن عربيّ؟ يجيبنا ابن عربيّ: إنه الحبّ! وبالحب ولأجل الحب يتثلّث؛ وإلا فإنه كـ إله ينغلق على ذاته دون اقترابٍ منه أو تلامسٍ معه. عكس الثالوث هو الانغلاق، وإذ انحجبَ الله عنا فالجحيم إذًا قد حلّ بنا. فإن قالوا هذا غلوٌّ  في الدين نقول ما أعذبَ الغلواء في الحبّ لمن أحبنا أولاً وكان الحبّ مبادرته هو لا مبادرتنا. وما الفردوس وما الجحيم؟ يجيب ريمون لول Ramón Llull (فيلسوف أسباني شهير يحمل البشارة للمسلمين من أهل الغرب، وله الريادة في ذلك) في كتابه الشهير The Book of the Lover and the Beloved "كتاب العاشق والمعشوق" بأن الفردوس ليس إلاّ فردوس قرب الحبيب والجحيم هو جحيم غيابِ الحبيب. النورانية الإلهية الحقة هي نورانية قرب الحبيب.

 

119 They asked the Lover : ' What is the greatest

darkness ? ' He replied : ' The absence of my

Beloved.' ' And what is the greatest light ? ' ' The

presence of my Beloved.'

 

(The book of the lover and the beloved; translated from the Catalan of Ramón Lull with an introductory essay,1923)

 

 فمادام الكلام عن المسيحية فإنه لن يخرج عن دائرة الإله المحبّ وهو الحبيب الذي لا يغيب وإلا لصارت الحياة هي الجحيم من جراء غيابه؛ ولا حرمنا الله نعيم قربه الفردوسيّ.

 

يعرض الإنجيل عقيدة الثالوث دومًا في ضوء حقيقة الإله الذي هو ليس إلا حبّ. ودون الحديث عن المحبوب، وهنا أعني محبوبي أنا، فلا يكون الحديث أبدًا عن الثالوث. في إنجيل لوقا الفصل الثالث يذكر الإنجيل المقدس حادثة عماد المسيح:

 

ولما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضا. وإذ كان يصلي انفتحت السماء، ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة. وكان صوت من السماء قائلا: "أنت ابني الحبيب ، بك سررت" (الآيات 21، 22).

 

في هذه المعمودية، يحضر الآب الذي قد أرسل ابنه الحبيب لأجل خلاص العالم ويعلن إثرَ نزول الروح وحلوله على المسيح بأن المسيح هو ابن الله الحبيب. هذه الآية وبحضور الأقانيم الثلاثة (الآب، الابن، الروح القدس) تشرح عقيدة الثالوث بشكل عميقٍ واضحٍ وقويٍ. دون الحديث عن ما بين الآب تبارك اسمه والمسيح الابن من حبٍ، لا يمكن لنا أن نتحدث عن عقيدة الثالوث. وعند الحديث عن المحبوب الذي قد أسرنا بحبه، فأي دليل وبرهان نريد فضلاً عن حبه هو؟! قد يطلبون الآية ولا تعطى لهم آية سوى آية الحبّ. هذه العقيدة حاضرةٌ منذ البدء وليست من اختراع مجامع كنسية كما يقولون حتى ما يبرّرون لأنفسهم رفض إله الحبّ. ومتى حضر الله الآب والمسيح وعمل روح الله القدوس في قلوب البشر فأنت حقًا بصدد الحديث عن عقيدة الثالوث. سمّها من الأسماء ما شئت فليست العبرة عندي بالألفاظ وصناعتها وإنما العبرة بالفحوى اللاهوتي العميق وهو يتحدث عن حقيقة العلاقة القائمة بين الله الآب ومسيحه وهما يعملان في قلوبنا بل ويقيمان فيها بروح الله القدوس. لذلك يسمون المسيحية ديانة المحبة؛ ومن ثمّ فأنا أميل لاستعمال لفظ مولانا ابن عربي حينما يقول مجددًا في "ترجمان الأشواق": أدين بدين الحبّ أنى توجهـت ركائبه.

 

يعرض الدكتور محمد كامل حسين فاجعة الصليب في عمله الأدبي البديع "قرية ظالمة" فيستنكر على الضمائر ما قد أصابها من عطبٍ وقساوةٍ متسائلاً: "أتقتلون رجلاً أن يقول الله هو الحب، تلك كلمة لا يقولها مجرم. الله هو الحب!"(صفحة 19، طبعة دار الشروق). وفعلاً كانت هذه هي دعوة المسيح ورسالته الأولى والأخيرة وبعيدًا عن الجدل الديني البيزنطي، الله هو الحب! وفي ضوء هذا الحب وذاك المحبوب نتشرّب بعقيدة الثالوث دون جدالٍ، ونعيش في كنف الأقانيم الثلاثة ونغترف من حياتهم الإلهية لنا بل وندخل نحن فيها؛ فتكون لنا إذ ذاك الحياة من واهب الحياة القائل في يوحنا 10: 10 "أتيت لتكون الحياة للناس ولتفيض فيهم". أمام مفردات مثل "الحياة" و"الحب" و"المحبوب" يكون الحديث حقًا عن المسيحية لا سواها. تراهم يسخرون: أهذا تسمونه دينًا؟ أين العقيدة؟ وأين الشريعة؟ هكذا يتساءلون لأنهم اعتادوا أن تنوء ظهورهم تحت أثقال الدوغمائية رازحة تحت جمودها وأثقالها وقهرها وشتى سبل الجفاف الديني؛ وأما المسيح فيجيب: "تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثّقيلي الأحمال وأنا أُريحكم"(11: 28). فما يقدمه المسيح هو حل عملي لأجل النفوس في حاضرها اليوم.

 

اغتسل من الجنابة ما شئت، فإن لم يطهرّك الحبُّ في داخلك فأنت حقًا لم تتطهر. ما يُطهّر أدران النفس ليس الوضوء ولا الاغتسال وإنما حبٌ يبثه الله في قلوبٍ تشتهي أن تتطهر لتنعم بالقرب منه فتمكث باقيةً في حضوره البهيّ. ومَنْ يغسل مؤخرته بالاستنجاء فكيف يقوم على تنقية أمعائه الدقيقة والغليظة؟ فلربما يقوم هو بالاغتسال البرّانيّ من كل هذا ولكن الأمر لا يزال باتٌ في جوفه. لذا قال أباء الكنيسة بصدد هذه المسألة إن إفرازات الجسد لا تدّنس الجسد، وما أبرع حكمتهم. وهذا ما تعرض له المسيح في زمانه مخاطبًا فئة معتزلة يهودية في زمانه وهم الفريسيون فقال: "أنتم الآن ايها الفريسيون تنقون خارج الكأس والقصعة وأما باطنكم فمملوء اختطافا وخبثا"(لوقا 11: 39). والباطن لا يطهره سوى ثالوث الحبّ، ذاك الإله الواحد الذي يتثّلث بالحبّ لكي ما ننعم بالسكنى في كنفه بل وبالاتحاد به. لا يريد الله لنا عقائد جافة وكأننا في "حصة الدين" ولكن يريد لنا إيمان يحرّرنا ويعتقنا من بواطننا مطهرًا إيانا في الأعماق من كل دنس يصيب النفس أو عطب، وبـ روح الله تتطهر النفس.

 

لم تفلح العلمانية ولا المدنية الحديثة ولا ليبرالية الغرب في كل أوجها وبهائها ، وعلى كل فوائدها ومساهماتها الفعلية في حياتنا اليوم دون شك، في استئصال الشر من قلب الإنسان لأن المسألة هي أزمة خطيئة وليست أزمة علمانية أو لادينية. الخطئية رابضة في قلب الإنسان. وقديمًا كان الإنسان يخرج من الكهوف لاقتناص ما شاء من الحيوانات بل وأخيه الإنسان، فاليوم هو يفعل الشيء ذاته مع اختلاف في الزيّ الخارجي. البربرية القديمة لا تزال هي هي الآن مع تغير طفيف في الشكل الخارجي وقد أصابت بني الغرب والشرق على حدٍ سواء. أحداث غزة ومجازرها والهولوكوست في أوروبا وغيرها من الأحداث التي يقشعر لها البدن تؤكد أن البربرية لا تزال حاضرة في إنسان اليوم والذي يتشدق بالمدنية الحديثة، وأن الإنسان في باطنه ليس سوى كما قال الفيلسوف هوبس "ذئب لأخيه الإنسان". وحده الحبّ يطهر الإنسان من قنصه لأخيه الإنسان لا الأفكار ولا الأيديولوجيات ولا حتى المعارف. كلنا بلا استثناء بداخلنا رغبة الفتك والقنص والافتراس والتملك؛ وبما أن "الآخرين هما أنا" على تعبير الشاعر أرثر رامبو، فنحن هم هؤلاء القانصين البرابرة وهم نحن، وبداخلنا رغبة القنص أي قنص الإنسان لأخيه الإنسان، وما سوف يطهرنا هو بلوغنا الجمال من خلال الحب الذي به وحده تتطهر النفس. كل حب صادق مصدره الله لأن الله يطلب ما للإنسان لا ما لنفسه إذ هو لا يحتاج إلى أي شيء من عبادة أو غيره، وجلّ مراده هو أن يفيض بذاته في الإنسان. إنه دفقُ الحبّ!

 

وما جدوى العبادة في كنف إله يقول عنه القرآن "إن بطش ربك لشديد" إذ هو إله يبطش بالخاطئين ويرعبهم وتوبتهم تكون عن اقشعرار ورعب لا عن حبّ؟ خوف وهلع في كل جانب! هذا هو الإسلام الذي تركته لأني أرفض الخوف! شريعة الإسلام قائمة على تطبيق العدل لا على إقامة الرحمة. رجمٌ وجلدٌ للزاني وقطعٌ ليد السارق وحدودٌ تتشدق بالعدل، ناهيكَ عما في تحقيق هذا العدل المزعوم من قسوة تهدر إنسانية الإنسان. وهل هناك إسلام بدون شريعة!

 

يقول الدكتور محمد كامل حسين، مرة أخرى، في كتابه "الوادي المقدس": وإنْ كنت تشعر في قرارة نفسك أن الذي يدعوك للخير حبك الله، وحبك الناس الذين يحبهم الله، وإذا كنت ترى أن تجنب الناس شركٌ لأن الله يحبهم كما يحبك، وأنك تفقد حبك الله حينما تؤذي أحبابه وهم الناس جميعًا، فأنت عيسويّ مهما يكن الدين الذي تدين به. (صفحة 31، دار الشروق). وكم أعشق أنا هذه العيسوية التي يدفعها الحب لعمل المستحيل، والرهبنة العيسوية (اليسوعية) كذلك وهي ترى الجمال في كل شيء وتعمل لمجد الله الأعظم ولخير الإنسان الأسمى لأن الإنسان غاية الله لا الطقوس أو العبادات.

 

ابحث في الأسباب التي تدفع بـ فلان  للنقمة على الحياة والتهجم على مسائل الإيمان وسائر المقدسات الإنسانية؟

إنه غياب الحبّ وقد أدى إلى شرخٍ كبيرٍ في نفسه. جرحٌ غائرٌ أليمٌ سببه انعدام الحبّ. إنسان كهذا يقول لك إنه بحاجة إلى الحبّ منك وعندها تقع عليك مسئولية قبوله كما هو وتقديم الحب لا المواعظ أو الخطب الدينية الجليلة.

 

إنها تبحث عن العلاقة الحميمة المتمردة ومع أي شاب وبأي ثمن ودون اعتبارٍ لأي اعتبارٍ. هذا وراءه شرخ كبير في نفس الفتاة وغياب الحب من جانب أبيها. إنها تبحث عن أبيها الضائع من حياتها. لتقبلها في حبٍ كما هي وارحمها من عظاتك المنبرية.

 

يلوم باللائمة على زوجته وأنها خانته. وربما تطلب من عشيقها أن ينام معها على سرير الزوجية. إنه غياب الحب أيضًا، واللوم يقع على الزوج أولاً وأخيرًا هنا لأنه لم يبادئها بالحبّ حتى ما تستقبله فبحثت عنه في مكان آخر لعلها تشعر بالاكتمال والقبول الصادق.

 

فإياك أن تقلل من شأنِ الحبّ وإله الحبّ ودين الحب؛ ولنا في ابن عربي هنا مثال رائع نتعلم منه.

 

ولعل الكثيرين قد كانوا عيسويين مهما يكن الدين الذي يدينون به في الأوراق الرسمية وبطاقة الهُوَيّة، وشيخنا ابن العربي الذي يدين بـ دين الحب هو في طليعتهم؛ إذ ليست المجاهرة بالردّة يسيرة في دين يعلن الحرب على المرتدين ويبيح أموالهم ودمائهم وكل ما لهم. وبمراجعة الجزء الثاني من الفتوحات المكية طبعة بولاق، نجد أن ابن عربي يدعم دين الصليب فيقول:

 

وأما أهل التثليث فيرجى لهم التخلص لما في التثليث من الفردية لأن الفرد من نعوت الواحد فهم موحدون توحيد تركيب فيرجى أن تعمهم الرحمة المركبة؛ ولهذا سموا كفارا لأنهم ستروا الثاني بالثالث فصار الثاني بين الواحد والثالث كالبرزخ فربما لحق أهل التثليث بالموحدين في حضرة الفردانية لا في حضرة الوحدانية وهكذا رأيناهم في الكشف المعنوي لم نقدر أن نميز ما بين الموحدين وأهل التثليث إلا بحضرة الفردانية فإني ما رأيت لهم ظلاًّ في الوحدانية ورأيت أعيانهم في الفردية. ورأيت أعيان الموحدين في الوحدانية والفردانية فعلمت الفرق بين الطائفتين وأما ما زاد على أهل التثليث فالكل ناجون بحمد الله من جهنم ونعيمهم في الجنة يتبوؤون منها حيث يشاءون كما كانوا في الدنيا ينزلون من حضرات الأسماء الإلهية حيث يشاءون بوجه حق مشروع لهم كما كانوا إذا توضئوا يدخلون من أي باب شاءوا من أبواب الجنة الثمانية وإذا علمت هذا فاعلم أن هذه الرحمة المركبة تعم جميع الموجودات وأنها مركبة من رحمة عامة وهي التي وسعت كل شيء ومن رحمة خاصة وهي الرحمة التي تميز بها من اصطفاه الله واصطنعه لنفسه من رسول ونبي وولي وبهذه الرحمة المركبة جمع الله الكتب وأنزل كل كتاب سورا وآيات.

(المصدر: كتاب الفتوحات المكية لابن، طبعة بولاق، وتوجد منها نسخة يسهل تحميلها من على موقع أرشيف دوت أورج).

 

أراد ابن عربي الإبقاء على دينه دون ردة فتهيأت له سبل الاعتقاد بـ الخلاص الكوني للموائمة بين الدين الإسلامي الموروث وانفتاحه على المسيحية وغيرها. ولكن القرآن نفسه قد سبق وقال "إن الدين عند الله الإسلام ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"(آل عمران آية 85). وهناك مسألة منتشرة بكثرة في كتب الكلام الإسلامي مفادها أن "أن كلام الله قائم بذاته لا يتجزأ ولا ينفصل عنه؛ غير أنه إذا نزل بلسان العرب سُمّيَ قرآنًا، ولما نزل على موسى سمّيَ توراةً، ولما نزل على عيسى سمّيَ إنجيلاً، ولما نزل على داود سمي زبورًا؛ واختلاف العبارات باختلاف الاعتبارات" (راجع كتاب خزينة الأسرار في خصائص الدعوات والأذكار - جمعها السيد محمد حقي النازلي). ونجد صدى لهذا التفكير كثير الورود في كتب مثل المواقف للإيجي ، والاقتصاد في الاعتقاد لـ الغزالي، والسنوسية وشروحها، والكلام الإلهي لفخر الدين الرازي صاحب التفسير الكبير، وكل ما صنف في علم الكلام عند المسلمين، خاصة الأشاعرة. يقول الأشاعرة إن كلام الله واحد لا يتنوع بمعنى أنه إذا جاء بالعربية كان قرآناً، وإذا جاء بالسريانية كان إنجيلاً، وإذا جاء بالعبرية صار توراة، وإذا جاء أمرًا أو نهيًا أو خبرًا صار كذلك وهكذا لأنهم يرونه بالمعنى القائم بالنفس. في هذه كلها نرى معالم إسلامية جميلة للضمير الإسلامي تسمح بإمكانية قبول المسيحية، ديانة التثليث والصليب، على ما فيها من حقٍ إلهي والإمساك ببصيص النور هذا واقتفاء أثره حتى النهاية إلى أن نصل للمسيح نور العالم، الألف والياء، أي بداية الأمر وختامه.

 

 كثيرون يعبر بهم المحبوب فيأخذ بمجامع قلوبهم وعندها يتركون كلّ شيء ويتبعون في قرارٍ صميميّ مصيريّ. وآخرون يعبر بهم المحبوب فينفعلون بحبه ولكنهم يشملونه ضمن عالمهم الكونيّ كسبيل آخر يضاف لسبل الخلاص لديهم، وبهذا يأمنون شرّ حد الردة الإسلامي. أما المحبوب نفسه فقد حوى في ذاته كل الطرق والطرائق فقال عن نفسه بصيغة الحصر والقصر: "أنا هو الطريق"(يوحنا 14: 6).

 

أجل، إلهي محبوبي يتثلّث في أقانيمه وأنا لذلك أرفض إخضاعه لعقلي المحدود ومنطق "الدليل والبرهان" الشائع بين العوام وإلا صار هو فكرة تخرج من قريحتي وهو بخلاف ذلك لأن المسيح شخصٌ نضع أيدينا بيده لا فكرة تقبل الدحض أو الإثبات. وعقلي ليس إلاّ واسطة في استقبال هذا الحب الثالوثيّ الذي يغمرني بالدفء والشبع والامتلاء في الباطن. الإعلان النوراني هذا يأتيني في قلبي ولا يستوعبه عقلي كما قال أفلاطون في "الرسالة السابعة": "إن الأمر لا سبيل إلى التعبير عنه بالكلام ، كما يُعبر عن سائر الأشياء والموضوعات، وإنما بعد الصحبة الطويلة في هذا الشأن نفسه ، وفي الحياة معًا ، يُخيل أن نورًا يتفجّرُ في النفس بواسطة نار اشتعلت في نفس أُخرى". عن هذه الصحبة يبحث قلبي ويفتش فلا يجدها سوى في محبوبي الذي قد تثلث في أقانيمه وهو المسيح. لهذا المحبوب يخفق قلب إمرأة كفيفة «فاني كروسبي» تأوي إلى خبايا نفسها وبرغم الظلام يهتف قلبها له:

 

أعِد عليَّ حديثًا .. يحلو لسمعي صداه.. عن سيدي وحبيبي وغاسلي.. عن جنده ممن تراءوا ورنَّموا في الظلام. . بمجد ربّ الأعالي وبشَّروا بالسلام.

 

تسرني مراسلتكم على بريدي الآتي:

 

timothyinchrist@gmail.com

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط