مالك مسلماني / Apr 12, 2009

أوقد تقدير قُرَيْش لخطر دعوة مُحَمَّدِ نارَ الخلاف بين الطرفين؛ ذلك أنّه ترك انطباعاً إنه يريد تغيير الأسس الدينية لقُرَيْش. وخلافاً لديدن قُرَيْش غير المكترث بالميول الدينية للأفراد، فإنها لم تتعاطَ بنفس المنهج مع مُحَمَّد لكونه لم يكن مناهضاً لعقيدتها فحسب، بل كان يهدد الاستقرار السِّياسِي في مكة، إذ كلما نجح في اكتساب معتنق جديد كان الاستقطاب في مكة يأخذ منحى أشد حدة. وإذ بدا أن مآل هذه العملية سيكون انشقاقاً داخل كلّ عشيرة، رأى الزعماء القرشيون أن يبدأوا حواراً مع مُحَمَّد، بيد أن حوارهم الأول بواسطة أبي طالب، عم مُحَمَّد، لم يثمر عن شيء.

         مضى مُحَمَّد في دعوته، وصار التوتر أشدّ من أي وقت مضى، وإذْ وجد أن بعضاً من أتباعه ليس لهم من يصد عنهم ضغوطات قُرَيْش، قرر أن يرسل جزءاً كبيراً منهم للجوء إلى الحبشة؛ فكانت الهجرة الأولى للحبشة حوالي سنة 5 لإعلانه الدعوة.

         قرر محمدٌ أنْ يرسل مسلمين إلى الحبشة، وليس إلى أي منطقة أخرى (اليمن، الشام، العراق، مصر، فارس، وهي كلها مناطق لا تصل إليها اليد القرشية) لأنه: أولاً، كان يرى أنه يتشاطر قواسم عقائدية مع النجاشي، ثانياً، إنّ عقيدة مُحَمَّد لم تكن قد اكتملت بعد، بل كانت امتداداً لأفكار دينية وُجدت في المنطقة، وستنسلخ سنوات عديدة قبل أنْ تتبلور منظومة الإسلام لدى مؤسِّسه، وهذا لن يكون إلاّ في أواخر حياته في المدينة.

         هجرة جزء من الأتباع لم تخفف من الأزمة السِّياسِية في مكة، وفي هذه الظروف المتوترة، تعرض مُحَمَّد ذات مرة لإهانة كبيرة من جانب قرشيين، جعلت حمزة ـ عم مُحَمَّد ـ يستشيط غضباً حميةً لابن أخيه، فقرر أن يعلن أمام قُرَيْش اعتناقه الدين الجديد [1]. كان اعتناق حمزة لدين محمدٍ إعلاناً أنه من غير المسموح إلحاق الأذى بهذا القريب. وبعد أيام معدودة، وعلى خلفية أخرى، دخل عُمَرُ بنُ الخطّاب الإسلامَ، وهو شخصية مهيبة، لكن ينتمي لآل عُديَّ، وهي عشيرة لا شوكة لها بسبب ضعفها الاقتصادي وقلتها العددية.

         انضمام هاتين الشّخصيتين للدين الجديد لم يوقف مضايقات قُرَيْش الخائفة على استقرار بلدها، فتعرض بعض من أتباع مُحَمَّد، الذين ليس لهم حماية عصبية، للضرب، وكان أبرزهم عبد اللّه بن مسعود، الذي تلا أمام قرشيين الآيات الأولى من سورة الرَّحْمَنِ.

على الرغم من ضعف مُحَمَّد وأتباعه، إلاّ أن ضعفهم لم يكن مطلقاً، بل كان المسلمون يتمتعون بحماية قبائلهم؛ وإضافة لذلك، انضمت شخصيتان بارزتان إلى الدين الجديد. كانت قُرَيْش عاجزةً عن وقف نشاط مُحَمَّد، كما كانت تخشى عواقب مواجهته كي لا يحدث صراع بين البطون المكية. وإذ كان لا بد من التعاطي مع قضيته، رأت قُرَيْش وجوب التصرف بعقلانية؛ فالقرشيون ذوو الخبرة التجارية من بلاد الشام إلى اليمن، كان لديهم من العقلانية السِّياسِية ما تجعلهم يقبلون تقديم تنازلات لمُحَمَّد حفاظاً على استقرار بلدهم. واعتماداً على مهاراتهم التفاوضية عقدوا سلسلة اجتماعات معه لمناقشة سبل الخروج من الأزمة.

 

تعالَ شاركنا طقوسنا

         كانت أول محاولة جدية حوالي السّنة الخامسة للدعوة في مكة، وفي فترة الهجرة الأولى إلى الحبشة، عندما حث القرشيون مُحَمَّداً على المشاركة في طقوسهم، وبالفعل قاربوا على إقناعه بالمشاركة في مراسيم عبادة الأصنام، إذْ جاءوا «ذات ليلةٍ إلى الصُّبحِ يُكلِّمونَه ويُفخِّمونَه ويُسوِّدونَه ويُقارِبونه [...] فما زالوا يكلّمونَه حتّى كاد أنْ يُقارِفهم»[2]. وقد أشار الْقُرْآن لهذه الحادثة، بقوله: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ، لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ؛ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً. وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ، لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً[3]﴾.

         لنقرأ:

«﴿لَيَفْتِنُونَكَ﴾: يزيلونك. يُقال: “فتنتُ الرّجلَ عن رأيه إذا أزلتُه عمّا عليه”. وقِيل: “يصرفونك”»[4]. وأوضح مفسرون طبيعة الافتتان الذي تعرّض له مُحَمَّد، فقالوا إنّ القرشيين طلبوا من مُحَمَّد أن يمسَّ [يتمسَّح] أصنامهم[5]. ولكن الطّبري يتبنى القول إنّ المقصود صرفه عن الْقُرْآن[6].

ثمة قول آخر: «هو قول أكابر قُرَيْش [لمُحَمَّد]: «اطرُدْ عنَّا هؤلاء السُّقَّاط والموالي حتّى نجلسَ معك ونسمعَ منك»؛ فهمّ بذلك حتى نُهِيّ عنه»[7]. وفي قول آخر: «اطردْ هؤلاء العبيد والسُّقَّاط، الذين رائحتهم رائحة الصّنان، حتّى نجالسك ونسمع منك؛ فطمع في إسلامهم فنزلت الآية»[8]. والنّص التّالي يجمل هذه التفاصيل:

«من المعلوم أنّ المشركين كان يسعون في إبطال أمر رسول اللّهِ بأقصى ما يقدرون عليه، فتارةً يقولون: «إنْ عبدت آلهتنا عبدنا إلهك»، [فرُدّ عليهم]: ﴿قُلْ: «يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ! لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ»[9]﴾. [وجاءت أيضاً] ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ، فَيُدْهِنُونَ[10]﴾. ودعوه إلى طرد المؤمنين عن نفسه، [فجاءت الآية]: ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم! [11]﴾؛ فيجوز أن تكون هذه الآيات نزلت في هذا الباب، وذلك أنّهم قصدوا أنْ يفتنوه عن دينه، وأنْ يزيلوه عن منهجه»[12].

ولدينا روايتان ترجعان «سبب نزول» آيتيْ الإسراء إلى العهد المدني:

تقول الأولى، إنّ مُحَمَّداً بعد الاستيلاء على مكة، طلبت منه قُرَيْش أن يترك لهم صنماً على المروة، فهمّ بتركه[13].

وتقول الثانية، إنّ وفد ثقيف أتى مُحَمَّداً سائلاً إياه أنْ يبارك آلهتهم اللاّت، وأنْ يجعل واديهم مقدساً مثل مكة، فصمت مُحَمَّد، فاعتقد الوفد أنّ صمت مُحَمَّد قبول[14]. وهناك رواية أخرى تقول إنَّ مُحَمَّداً: «هَمَّ [...] أنْ يُعطيَهم ذلك، فنزلت الآية»[15].

لا يمكن ربط هذا النص (الإسراء: 17/ 73 ـ 74) بهاتيْن الروايتيْن، لأنّ سورة الإسراء مكية، وهي تعالج مواضيع تخص العهد المكي. ثم إن عملية المفاوضات بين مُحَمَّد وثقيف جرت في أواخر العهد المدني (9 ﻫ/ 631 م)، وبالتالي، إنْ صحَّ أن هذه الآيات متصلة بإحدى الروايتين، فهذا يشير إلى أنّها آيات مدنية متأخرة أُدخلت في سورة الإسراء. لكن، سواء ارتبطت هاتان الروايتان بنص الإسراء تحديداً، أو إن المفسرين فهموا أن نص الإسراء يعود لهذين التفصيلين، فإنّ الروايتيْن تظهران نزعة مُحَمَّدٍ إلى المساومة من أجل مكاسب سياسية على الأرض؛ وهو أمر يدل على الدوافع الدينوية في السياسات المحمديّة.

ولنرجع إلى قُرَيْش ومُحَمَّد.

هل رفض مُحَمَّد هذه التوسلات القرشية، أم أنه مال إليها برهة من الزمن؟ الروايات تخفي هذا الأمر، ولكن يبدو أنه كان يرغب بقبولها، إذْ لدينا نص قرآني (سورة القصص: 28/ 86 ـ 88) يعود إلى نفس الفترة (ح 5 للدعوة ـ 617 م) يكشف عن قلق اختبره مُحَمَّد، يقول: ما كنت ترجو يا مُحَمَّد أن يُنزَّل عليك هذا الْقُرْآن، واحمدْ ربّك على هذه العطية، «ولا تَكُونَنَّ عْوْناً لمن كفَر بربّك على كفرِه به»، ولا تجعل أي سبب يصرفك عن رسالتك[16].

ثم يحذر النص مُحَمَّداً من الشرك: ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ! [17]﴾، أو من الدعوة لإله آخر مع اللّه: ﴿وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ![18]﴾. وربط القرطبي هذا النص الْقُرْآني بقصة الْغَرَانِيق التي ستناولها فيما بعد[19].

في النهاية، فشلت قُرَيْش في اقناع مُحَمَّد بالمشاركة في طقوسهم، فكان عليها التقدم بالمزيد من الأفكار، فاقترحوا حلاً جديداً، ألا وهو عقد هدنة دينية.

 

لنتهادن

عرض القرشيون على مُحَمَّد صيغة حل تتضمن أنْ يكف «عن شتم» آلهتهم، فلا يذكرها «بسوء»، وليس الكف عن الدعوة لدينه، بالمقابل أبدوا استعدادهم لتقديم المال الوفير، وتزويجه ما أراد من النّساء، ومحضه كلّ مظاهر الاحترام. ويبدو أنّ مُحَمَّداً كاد أنْ يوافق على هذه الفكرة[20]. وإذْ أهملها فيما بعد، رأت قُرَيْش أن تقدم مشروعاً جديداً سيكون آخر مساعيها للتسوية.

 

لنندمج في العبادة

استمر عقد اللقاءات بين الجانبيْن من أجل التوصل إلى حلول للأزمة، فالتقى مُحَمَّد مع زعماء قرشيين: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأميّة بن خلف، فقالوا له: «يا مُحَمَّد! هلمّ فلنْعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشرَكك في أمرنا كله؛ فإنْ كان الذي جئت به خيراً مما في أيدينا، كنّا قد شَرَكناك فيه، وأخذنا بحظّنا منه؛ وإنْ كان الذي بأيدينا خيراً مما في يدك، كنت قد شَركتنا في أمرنا، وأخذت بحظّك منه». فجاء رد مُحَمَّد بالنص التالي: ﴿قُلْ: «يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ...»﴾ [21].

وبنفس الوقت قدموا له صيغة موازية، تقضي أن يعبد مُحَمَّد آلهة قُرَيْش سنةً، ويعبدون إلهه سنةً. ويظهر أن هذا العرض لاقى في نفسه صدى كبيراً، فقال: «حتّى أنظرَ ما يأتي من عند ربيّ»، بيد أنه رفض الاقترح القرشي. ويُروى هنا أنّه رد عليهم بنص ﴿قُلْ: «يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ!...»[22]﴾. وأنه أضاف القول: ﴿قُلْ: «أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ؟» [...] فَاعْبُدْ، وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ![23][24].

 

محمد يتقدم بتسوية

مع أنّ مُحَمَّداً كان يميل في كلّ مرة لقبول الأفكار القرشية، إلاّ إنّه كان يدير ظهره في اللحظات الأخيرة، وهذا ما يكشف عن أنّه كان يصيغ خططه وفق ممكنات الواقع.

من جانب آخر، تذكر الرّوايات أنّ مُحَمَّداً كان يحب مصالحة قُرَيْش، وأنه كان في تلك الفترة: «حريصاً على صلاح قومه، محبّاً مقاربتَهم بما وجد إليه السبيل». ويحكى أنه كان يتمنى إيجاد السّبيل «إلى مقاربتهم». وكان يتمنى «في نفسه أنْ يأتيه من اللّهِ ما يقاربُ بينه وبين قومه، وكان يسرُّه مع حبِّه قومَه، وحرصِه عليهم أنْ يلين له بعض ما قد غلظ عليه من أمرهم؛ حتى حدَّث بذلك نفسَه، وتمنّاه وأحبّه»[25]. ولا شك أن مبادرات قُريش لعبت دورها في تقوية ميل المصالحة لديه. وفي إطار المبادرات القرشيّة، كان مُحَمَّدٌ كثيراً ما يسمع القرشيين يقولون: «لو ذكر مُحَمَّد آلهتنا بخير؛ قَرَّرناه وأصحابّه»، وتناهى إليه قولهم لبعضهم: إن مُحَمَّداً يعرّض دين قُريشٍ للنقد، ولا يتعرّض لعقائد اليهود والمسيحيين[26]. وطلبوا منه مرراً ذكر أوثانهم بخير: «فلو ذكرتَ آلهتنا بشيء جالَسناك، فإنّه يأتيك أشرافُ العربِ، فإذا رأوا جُلساءَك أشرافَ قومِك، كان أرغب لهم فيك»[27].

         إذاً، كان الوضع مبسوطاً على الشكل التالي أمام مُحَمَّد:

ـ تقريباً لا أتباع جدد؛

ـ جزء من المسلمين كان في الحبشة؛

ـ رغم أن المسلمين كانوا يتمتعون بحماية عصبياتهم، إلاّ إنهم كانوا يتعرضون لمضايقات مختلفة؛

         ـ دعوات للمصالحة تطلقها قُرَيْش، وشخصيات منها تقدم الأفكار تلو الأفكار؛

         ـ اغراءات قرشية مادية ومعنوية.

         كانت هذه العناصر العاملة في تفكير مُحَمَّدٍ السِّياسِي والمؤثرة على حالته النفسية.

ثم إن مُحَمَّداً كانَ يعرف أن قُرَيْشاً كانت تؤمن باللّهِ الواحد، لكن نظرتها كانت مشوبة بالشرك، وقد استعملَ في الْقُرْآن مصطلح ﴿الْمُشْرِكِين﴾ نعتاً لهم. كان القرشيون يعتبرون المعبودات وسائط إلى اللّه، ولم تكن هذه المعبودات تُقدّس لذاتها، بل تبجل بوصفها شفعاء، «إنّ العرب كانوا يقولون: «الشفيع والوسيلة منّا إلى اللّه تعالى هم الأصنام المنصوبة»؛ فيعبدون الأصنام التي هي الوسائل»[28]. وحتى توقيرهم للكعبة كان ينطلق من نفس المعتقد، حيث كان القرشيون يؤدون عندها طقوس عبادة ويستغفرون اللّه[29].

إذاً، وبعد؟

سؤال لا شك أن مُحَمَّداً طرحه على نفسه، وفكر بجوابه أياماً وليالٍ. ولا بد أن فكرة كانت تختمر في ذهنه تقوم على أساس تسوية، يقبل فيها أن يعترف بالأصنام شفعاء إلى اللّه، مقابل مصالحة مع قُرَيْش وكسب ودّهم. وبينما كان يبحر في عالم الأفكار، ذهب ذات مرة إلى تجمعٍ لقرشيين، وكان هذا التجمع يضمّ وثنيين ومسلمين، ﻓ«جَلَسَ فِي نَادٍ مِنْ أَنْدِيَةِ قَوْمِهِ، كَثِيرٌ أَهْلُهُ»[30]. وإذ به يتلو عليهم: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى...﴾ فلما انتهى إلى [القول]: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى؟﴾ قرأ: «تِلْكَ الْغَرَانِيق الْعُلا، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى»[31]. وهو تصرف فسّرته رواية أنه نجم عن رغبة قوية ثاوية في لاشعور مُحَمَّدٍ، إذْ إنّه في ذلك اليوم تحديداً ناجى نفسه، «لَيْتَه لا يَنْزِلُ عَليِّ شَيءٌ يُنفِّرُهُمْ عَني!»[32].

هل كان هذا الاجتماع مرتباً مسبقاً من جانب مُحَمَّد وقُرَيْش، أم إن الخطاب كان عفوياً؟ ليس لدينا رواية تعطي جواباً قاطعاً، رغم أن وجود قرشيين من كلّ الألوان (وثنيين ومسلمين) يوحي بأنه كان اجتماعاً مُرتباً ومتفقاً عليه. لكن، سنعتبر أن الخطاب المفاجئ لمُحَمَّد كان وليد لحظته ناتجاً عن العوامل النفسية والسِّياسِية التي أشرنا إليها قبل أسطرٍ.

ماذا جرى بعد هذا الخطاب؟

         القرشيون الذين كانوا جالسين، «فرِحوا، وسرَّهم وأعجبهم ما ذكر به [مُحَمَّد] آلهتهم، فأصاخوا له»؛ في حين أن المسلمين لم يعترضوا على الأمر ولم يشككوا في مضمون خطاب مُحَمَّدٍ؛ «فلما انتهى إلى السجدة منها، وختم السّورة سجدَ فيها [مُحَمَّد]، فسجد المسلمون بسجود نَبيّهم، تصديقاً لما جاء به، واتّباعاً لأمره»[33]. كما سجد القرشيون غير المسلمين بعد أن سمعوا الكلام الطّيب بحق أصنامهم. وبهذا فإنّ كلّ من كان في الملتقى سجد (مسلماً ووثنياً) «إلاّ الوليد بن المغيرة، فإنّه كان شيخاً كبيراً، فلم يستطع السّجود، فأخذ بيده حفنة من البطحاء فسجد عليها». وبعد ذلك تفرّق الجمع القرشيّ وهم فرحون بما جاء في هذا الخطاب، قائلين: »قد ذكر مُحَمَّد آلهتنا بأحسنٍ الذّكر»[34]، ورددوا قول مُحَمَّد: «إنَّها الْغَرَانِيق الْعُلاء، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ تُرْتَضى[35]».

بعد أن أقرّ مُحَمَّد بشفاعة أصنام قُرَيْش، قال القرشيون له: «قد عرفنا إنّ اللّه يُحيي ويُميت؛ ويُخلقُ ويَرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، وأمّا إذ جعلتَ لها نصيباً فنحن معك»[36]. ورأى بعضهم في إعلان مُحَمَّدٍ عودة الابن الضال، «وقالوا: إن مُحَمَّداً قد رجع إلى دينِه الأول ودين قومِه»[37]. (لاحظ عبارة: «رجع إلى دينِه الأول»!)

مُحَمَّدٌ يحتجب

بعد خروج مُحَمَّدٍ من الاجتماع، دار حوار داخلي عن صوابية هذا الإجراء، وبشكل ما وجد أن في تصرفه انزلاقاً، فشعر بالحرج، فألتجأ إلى بيته[38].

وتصف لنا الروايات عزلة مُحَمَّد، وحواره الدّاخليّ على الشّكل التالي:

«وأتى جِبْرِيل [مُحَمَّداً]، فقال: يا مُحَمَّد، ماذا صنعتَ! لقد تلوتَ على الناس ما لم آتِكَ به عن اللّهِ، وقلتَ ما لم يُقل لكَ! فحزن [مُحَمَّد] عند ذلك حُزْنَاً شديداً، وخاف من اللّهِ خوفاً كثيراً، فأنزل اللّهُ ـ وكان به رحيماً ـ يعَزيَّه ويخفِّض عليه الأمر، ويخبره أنه لم يكُ قبله نبيّ ولا رسول تمنّى كما تمنّى، ولا أحبّ كما أحب إلاّ والشَّيْطَان قد ألقىَ في أمنْيَته، كما ألقى على لسانه، فنسخ اللّه ما ألقى الشَّيْطَان وأحكم آياته؛ أيْ فإنما أنت كبعض الأنبياء والرّسل، فأنزل اللّه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ، إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى، أَلْقَى الشَّيْطَان فِي أُمْنِيَّتِهِ[39]﴾، فأذهب اللّهُ عن نبيِّه الحزنَ، وآمنه من الذي يخاف، ونسخ ما ألقى الشَّيْطَان على لسانه من ذكر آلهتهم: «أنها الْغَرَانِيق العُلا وأنَّ شفاعتهم ترتضى»، بقول اللّه: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى؟...﴾ أيْ: فكيف تنفع شفاعة آلهتكم عنده!» [40].

         إذاً، بعد أن أدان جِبْرِيلُ الخطاب، وقال لِمُحَمَّدٍ: «افتريتُ على اللّه، وقلتُ على اللّهِ ما لم يُقل»، فإنّ غماً بقي جاثماً على صدره، حتى أُعلن له بنص سورة الحج (22/ 52 ـ 53) أن ما حصلَ حدثَ لأنبياء آخرين من قبل[41]. وعلى إثر هذا الحوار الدخلي، سحب مُحَمَّد إعلانه بخصوص شفاعة الأصنام، فقال القرشيون لبعضهم: «ندِم مُحَمَّد على ما ذكر من منزلة ألهتِكم عند اللّهِ، فغيّر ذلك وجاء بغيره».

         أشعل تراجع مُحَمَّد التوتر بين الطّرفين، ونشبت شجارات بين المعسكريْن[42].

         ما بين خطاب المصالحة والتراجع عنه انسلخ حينٌ من الدّهر. والثابت أن مسألة اعتراف مُحَمَّد بشفاعة الأصنام استمرت بضعة أيامٍ على الأقل، لأن مضمون الخطاب الخطير بخصوص الأصنام كان قد انتشر بين أهل مكة ولقي استحساناً منهم، وانتشر خبر المصالحة حتى وصل المهاجرين في الحبشة، فقررت مجموعة من المهاجرين العودة إلى الديار[43].

         والآن:

ـ لماذا لم يكتشف مُحَمَّد تدخل الشَّيْطَان فوراً؟

ـ وإذا لم يكن الخطاب واقعاً تحت تأثير الشَّيْطَان، فلِمَ نسخ مُحَمَّد خطاب الشفاعة؟

ـ لماذا تطاول الحين بين خطبة الشفاعة ووحي الآيات الناسخة للتأثير الشيطاني؟

الواضح إن مُحَمَّداً أعاد تقييم هذه التسوية، فتبين له أنها ضربت تماسك فريقه، حيث رأى بعض أتباعه أن لا سبب يلزمهم البقاء على الدين الجديد، لأن التمايز ضاع بين عقيدة مُحَمَّد وعقيدة قُرَيْش بعد الاعتراف بشفاعة الأصنام، وقد برر عددٌ من المرتدين عن الإسلام ارتدادهم بالقول: «واللّه لنعبدهن ليقربونا إلى اللّهِ زلفا». ووقع ذلك على مُحَمَّد وقع الصاعقة[44].

         تبيّن لمُحَمَّد أنّ هذه التسوية أضعفت من هيبته prestige أمام المسلمين، وخشي من انفضاض المزيد من الأتباع من حوله. لقد أدرك أن سحر شخصيته charisma سينتهي قريباً، فتوصل لاستنتاج مفاده أن التراجع الآن هو خير له. كان هاجس الحفاظ على الهيبة عنصراً أساسياً في التراجع.

         إن الزعماء أمثال مُحَمَّد، لهم هيبة ملازمة لشخصياتهم، وهذه الهيبة تساعدهم على فرض منظوراتهم على الذين حولهم. ثمة عوامل خارجيّة تعزّز الهيبة: الأول، العامل الخارجي، مثل السلطة التي يتمتع بها الزعيم أو مقدار المال، والثاني، عامل ينطلق من مَلَكَة شخصية. ويمكن للهيبة أنْ تعلو أو أنْ تخبو. وتطور الهيبة يرتبط بالنجاح الذي يحرزه الزعيم؛ فالنجاح تعزيز وتقوية للهيبة، والفشل يضعفها أو قد يهدمها تماماً[45]. والواضح أن مُحَمَّداً رأى أنّ افتراق مسلمين عنه يعني بداية النهاية لدعوته، فصار لزاماً عليه أن ينسحب من التسوية. ويبقى أن نشير إلى أن محمداً كان يحوز على الهيبة الشخصية فقط، وكان ينقصه عناصر التعزيز الخارجية (مثل: السلطة السِّياسِية)، والتي سيحصل عليها في المدينة حينما يصير زعيماً سياسياً.

         وبعد أن تراجع مُحَمَّد عن خطاب الشفاعة، أعلن أن ما حصل كان تجربةً لاختبار قوة الإيمان: ﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ[46][47]. وأنَّ الغاية من هذا الاختبار أنْ يكون تجربةً «يتميز به الثّابت على الإيمان من المتزلزل فيه»[48]. وهذا ما يقوله مفسر شيعي أيضاً:

«إنّ لهذه الإلقاءات الشَّيْطَانية مصلحة وهي أنّها محنةٌ يمتحن بها الناس عامة والامتحان من النواميس الإلهيّة العامة الجارية في العالم الإنساني ويتوقف عليه تلبس السعيد بسعادته والشقي بشقائه، وفتنة يُفتتن بها الذين في قلوبهم مرضٌ والقاسية قلوبهم خاصة»[49].

حينما اقترب الآيبون من الحبشة إلى مشارف مكة، تناهى إليهم نبأ تجدد النزاع في بلدهم، إذْ قيل لهم: «ذكَر مُحَمَّد آلهتهم بخير فتابعه الملأُ، ثمّ ارتَدَّ عنها فعاد لشتم آلهتهم وعادوا له بالشرّ»[50]. اضطر العائدون لطلب حماية شخصيات اعتبارية في مكة لدخولها بأمان، في حين تسلل آخرون إليها سراً[51]. وقد بلغ عدد العائدين حسب سيرة ابن هشام بضعة وثلاثون شخصاً[52]. وجرى هذا الحدث سنة خمس للدعوة[53]. وتتفق كثير من المصادر على هذا التاريخ.[54] وعلى أي حال، بعد ازدياد التوتر، سيرسل مُحَمَّد دفعةً ثانيةً من المهاجرين إلى الحبشة.

 

قراءة المصادر الإسلامية الحدث

 

         خطاب الشفاعة حدث كاد أنْ يكون كبيراً، إذْ لولا أنّ مُحَمَّداً قام بنقض هذه التسوية، لكان الإسلام انتهى لا كنحلة محلية في الجزيرة العربية، بل كلحظة عابرة في تاريخ مكة. على أي حال، فإن المصادر الإسلامية تعاطت مع هذه الحادثة وفق المقاربات التالية:

 

1. آيات شيطانية

         عندما تتناول التفاسير آيات سورة الحج تقول إن سبب تنزّلها أن «الشَّيْطَان كان ألقى على لسان [مُحَمَّد] في بعض ما يتلوه» من الْقُرْآن، فتسبب ذلك بأزمة نفسية لمُحَمَّد، فجاءت هذه الآيات لتخفف عنه الأسى[55]. وقد تباينت الآراء في كيفية حصول الإلقاء الشَّيْطَاني، فقالوا:

         أ. إن مُحَمَّداً «تكلم بتلك الألفاظ على لسانه»[56].

         ب. بينما كان مُحَمَّد يتلو الْقُرْآن، فإنّ الشَّيْطَان ترصّد فَوَاصل قراءة مُحَمَّد، فدسّ نص الشفاعة مُحاكياً نغمة مُحَمَّد، فلمّا سمعه القرشيون ظنوا أن ما سمعوه قول مُحَمَّد[57].

والقول بالتأثير الشَّيْطَاني يقبل به معتزلة، إذ يقول عالم معتزلي، لدى تناوله للآية (52) من سورة الحج إنّ اللّه لم يرسل نبياً إلاّ وقع تحت تأثير وسوسة الشَّيْطَان، أو «يلقى [الشَّيْطَان] في خاطر [النبيّ] ما يضاد الوحي ويشغله»؛ وحينها يتدخل اللّه لحفظ النبي وتعليمه الصواب وإبطال التأثير الشَّيْطَاني. ويضيف المعتزلي القول إن الآية ﴿قُلْ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ»[58]﴾ تساعد على هذا التأويل، لأنّ فيها يُؤمر مُحَمَّدٌ أن «يقول للكافرين أنا نذير لكم لكني من البشر لا من الملائكة، ولم يرسل اللّه تعالى مثلي ملكاً بل أرسل رجالاً فقد وسوس الشَّيْطَان إليهم»[59].

 

2. إكراه شيطاني

         لدينا مقولة أشار إليها القرطبي، تقول: «إنّ الشَّيْطَان أكره» مُحَمَّداً على قوله، ويرفضها القرطبي بقوله: «محالٌ، إذْ ليس للشيطان قدرةٌ على سَلب الإنسانُ الاختيارَ [...] ولو كان للشيطان هذه القدرةُ لَمَا بقي لأحدٍ من بني آدم قوةٌ في طاعة، ومَن تَوَهَّم أنَّ للشيطان هذه القوّة فهو قولُ الثَّنَوِيَّة والمجوس في أنّ الخير من اللّه والشرَّ من الشَّيْطَان»[60].

         القول بأن الشَّيْطَان أجبر مُحَمَّداً على التكلم بهذه الآيات الشَّيْطَانية يرفضه الرازي بدوره، لأنّه ـ من وجهة نظره ـ لو قدر الشَّيْطَان على إكراه مُحَمَّد فهذا يعني أنّ له قدرة على إكراه المسلمين، والأكثر أهميّة أن الشَّيْطَان لو قدر على إجبار مُحَمَّد على تلاوة هذه الآيات لأصبح الْقُرْآن كله محل شكٍ[61].

 

3. خدعة شيطانية

وتقول رواية أن مُحَمَّداً خُدع من جانب الشَّيْطَان، الذي أتى على صورة جِبْرِيل، وألقى على مُحَمَّدٍ هذه العبارات. وتعود هذه الرواية لابن عبّاس، الذي قال: «إنَّ شيطاناً يُقال له الأبيض كان قد أتى» مُحَمَّداً على هيئة جِبْرِيل، وألقى في قراءته: «تلك الْغَرَانِيق العُلا، وإنّ شفاعتهنّ لتُرتجى»[62]. والرازي يرفض هذا التحليل، لأنّه لو قبلنا بأن الشَّيْطَان قدر على إيهام السامعين أن كلامه كلاماً لمُحَمَّد، عندها سيجعل كلّ ما تكلم به مُحَمَّد موضع ريبٍ[63] أيضاً.

 

4. زلة لسان

يعلن هذا التفسير أن مُحَمَّداً سمع العبارة من الوثنيين، وفي تلاوته زلّ به لسانه، فألقاها[64]. فيُروى أنُه بينما «كان يصلي عند المقام، فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان». وقد استدل المفسرون بالآية (53) من سورة الحج «على أنّ الأنبياء يجوز عليهم السَّهوُ والنسيانُ والغلطُ بوسواسِ الشَّيْطَان، أو عند شَغْل القلب حتى يغلَط»[65]. «والآية تدل على جواز السّهو على الأنبياء وتطرق الوسوسة إليهم»[66]. والقول بالسّهو يميل إليه كاتب معتزلي، إذْ يقول: «إنّ المراد إذا تلا الْقُرْآن يلحقه السّهو في قراءته»[67].

بما إنّ هذا الطرح يشكل خطراً على مصادقيّة مُحَمَّد، لأنه يجعل أقواله محل شكٍّ، فإن الرازي يرفضه لأنه «لو جاز هذا السّهو لجاز في سائر المواضع وحينئذٍ تزول الثّقة عن الشرع»، ولأن من يسهو لا يمكن أن يتلفظ بعبارات مطابقة «لوزن السّورة وطريقتها ومعناها»[68].

 

5. حوار داخلي

         ثمّة من طرح تأويلاً للفظة ﴿تَمَنَّى﴾ أنها تعني حوار نفسي[69]. وينقض سياق الآيات هذا الطرح، وكذلك النتائج العملية التي تمخضت عن هذه الآيات، مثل فرح قُرَيْش والسّجود المشترك بين المسلمين والوثنيين ورجوع مهاجرين من الحبشة، ولو كان ذلك مجرد حديث النفس، لما حصلت هذه النتائج الملموسة على الأرض.

 

6. وهم جماعي

         أيضاً، ذكرت الدّفاعيات الإسلاميّة أن مُحَمَّداً لم ينطق بهذه العبارة ولم يتكلم بها الشَّيْطَان، ولكن ما حدث هو أن هذه الكلمات «تُوهمت لدى جماعة المستمعين» القرشيين. وهذه المقولة يرفضها الرازي، للوجوه التالية:

         أ. إنّ التّوهم يمكن أن يحصل عندما يتعلق الأمر بالقضايا التي تعوّد الناس سماعها، وليس خطاب الشفاعة مما تعود القرشيون على سماعه؛

         ب. ولو قبلنا إن التّوهم ممكناً، لكان وقعَ لبعض السّامعين وليس لكلّهم، «فإنّ العادة مانعة من اتّفاق الجّمع العظيم في السّاعة الواحدة على خيالٍ واحدٍ فاسد في المحسوسات»؛

         ج. ولو صحّ أنّ ما جرى كان وهماً جماعياً، فإنّه لم يكن ليُنسب إلى الشَّيْطَان عندها[70]. والآية 22 من سورة الحج تنسب ما جرى للشيطان.

 

الختام

في الآية (الحج: 22/ 52) إعلان صريح بإلقاء الشَّيْطَان، وتدخل اللّهِ لنسخ ما ألقاه الشَّيْطَان. وربطت المصادر هذه الآية بقصة الاجتماع الذي جمع مُحَمَّداً وقُرَيْشاً، حيث ألقى مُحَمَّد خطاباً يقبل تسوية تعتمد على الإقرار بشفاعة أصنام قُرَيْش، لأسباب سياسية. والبعد السِّياسِي لخطاب مُحَمَّد لم يكن خافياً حتى على مسلمين في عصور الإسلام الأولى، كما جاء في تفسير الرازي: «قال بعض الجهال إنّ [مُحَمَّداً] لشدة حرصه على إيمان القوم أدخل هذه الكلمة من عند نفسه، ثمّ رجع عنها»[71]. وإنْ كان الرازي يغفل أسماء هؤلاء «الجّهال».

خرج القرشيون من الاجتماع راضين، معتبرين أن مصالحة قد تمت بينهم وبين مُحَمَّدٍ، ورأوا أن السّلام قد حل مجدداً في ربوع بلدهم بعد أن تمكنوا من حل النقطة العقائدية الخلافية التي كانت حول شفاعة الأصنام. لكن مُحَمَّداً قام بمراجعة هذه الخطوة الكبيرة، فوجد أن لهذه التسوية انعكاسات سلبية عليه، وبميزان الربح والخسارة، كانت التسوية صفقة خاسرةً.

بخصوص كبار الشّخصيات (مثل أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم)، أي قيادة الحركة المحمدية في مكة، ليس لدينا أي خبر في المصادر عن مواقفهم، ولا نعرف ما هي ردة أفعالهم على تسوية مُحَمَّد أو على خطاب المصالحة. وأيضاً لا نعرف إن كانوا أبدوا رأياً موحداً من التسوية، أم كانوا مختلفي الرأي. ولكن ما نعرفه إن هذه الخطوة جعلت مسلمين يبتعدون عن مُحَمَّد، وبالتالي غدا اعتبار مُحَمَّد هشاً. وعندما قيّم مُحَمَّد نتائج التسوية، رأى أنها ستلحق به وبدعوته خسارة كبيرة. كان لا بد من التراجع عن التسوية؛ ولهذا عندما انسحب مُحَمَّد، أعلن أن ما جرى يعود لتدخل شيطاني، وأنّ اللّهَ أبطل ما ألقى الشَّيْطَان.

كان إعلانُ مُحَمَّد بطلانَ خطابه على أساس أن شيطاناً تدخل فيه منسجماً مع المفاهيم الدينية لعصره؛ وحسب لغة عصره كان الشَّيْطَان هو الذي ألقى على لسانه خطاب التسوية. ولكن بدون أن نستبعد أن مُحَمَّداً نفسه نظر إلى خطابه المهادن على أنه جاء من تأثير الشَّيْطَان؛ فمُحَمَّد كان يستبطن ثقافة عصره ومفاهيم زمنه، وكانت رؤيته للأمور مستقاةً من معين البيئة.

لاحقاً، عندما تناول علماء الإسلام هذه الحادثة، بقوا أسرى الصيغة الْقُرْآنية، وغابت عنهم الأبعاد المختلفة المولّدة للحدث: عدم اكتمال منظومة الإسلام ـ ضعف المسلمين ـ انكماش عدد المسلمين جراء الهجرة إلى الحبشة وعدم دخول معتنقين جدد ـ توتر الحالة الاجتماعية ـ اغراءات قرشية؛ ولهذا فإن مقاربات علماء الإسلام اقتصرت على تقديم تفاسير ساذجة: تدخل شيطاني ـ زلة لسان ـ... الخ.

المفسرون الأوائل لم يتحرّجوا من إيراد الحادثة وتفسيرها وفق مفاهيمهم الدينية؛ ولكن عندما صار للإسلام دولة تمتد على قارتين (آسيا وإفريقيا)، وحينما نهضت عمارة الدولة، واكتملت منظومة الإسلام السِّياسِية والاقتصادية، صاغ العلماء المسلمون مفهوم الْعِصْمَة، فصارت القصة محل رفض العلماء المسلمين. وقد بدأ الاعتراض على القصة في القرن الرابع هجري/ العاشر ميلادي[72]. ولم يتغير موقف العلماء منذ ذلك الحين، وحتى في الزمن الحديث، عندما يتناول العلماء المسلمون خطاب الشفاعة، فإنهم يكررون الرفض الذي تم صياغته في القرن الرابع هجري/ العاشر ميلادي[73]. وعلى أي حال، منذ أن اكتملت منظومة الإسلام العقائدية، توقف عن التطور، وبالتالي ليس مستغرباً أن نجد الدفاعيات الإسلامية في القرن الحادي والعشرين تكرر حرفياً ما ورد في القرون الغابرة.

ــــــــــــــــــــــــــ

[1] عمر بن الخطاب ـ السيرة المتوارية، ص 66. «سلامة مُحَمَّد أثناء فترة الدعوة المَكّيّة تعود إلى أنّ عَصَبِيّته دافعت عنه، وبالرَّغْمِ مِنْ وجود من لا يوافق على عقيدته من أفراد أسرته، لا بل إنّ أبا لهبٍ الَّذِي ندّد به الْقُرْآن بشدة بسبب ما كان يُعَرف عنه عداؤه الحاد لِمُحَمَّد ضرب ابن الغيطلةَ لأنّه تعرّض لابن أخيه ـ مُحَمَّد ـ بعد موت أبي طالب، الَّذِي كان يحمي مُحَمَّداً، وأعلن أبو لهب سببَ ضربه ابنَ الغيطلةِ واجبه الدفاع عن ابن أخيه، ومنع الضيم عنه، وليس إقراراً بالإِسْلام، ثمّ توجه إثْر ذلك إلى ابن أخيه، وقال له: “يا مُحَمَّد امضِ لما أردت وما كنتَ صانعاً إذا كان أبو طالب حيّاً فاصنعه، لا واللاّت لا يوصل إليك حَتَّى أموت!”».

[2] تفسير الطّبري: 15/ 15؛ القرطبي: 13/ 134.

[3] سورة الإسراء: 17/ 73 ـ 74.

[4] القرطبي: 13/ 134.

[5] الدر المنثور: 9/ 407.

[6] تفسير الطّبري: 15/ 15.

[7] القرطبي: 13/ 134.

[8] الطبرسي، على الإسراء: 17/ 74.

[9] سورة الكافرون: 109/ 1 ـ 2.

[10] سورة القلم: 68/ 9.

[11] سورة الأنعام: 6/ 52.

[12] الرازي: 21/ 23 ـ 24.

[13] الطبرسي، على الإسراء: 17/ 74.

[14] الرازي: 21/ 21؛ الزمخشري: 3/ 538.

[15] القرطبي: 13/ 134.

[16] تفسير الطّبري: 18/ 352.

[17] سورة القصص: 28/ 87.

[18] سورة القصص: 28/ 88.

[19] القرطبي: 16/ 331.

[20] الرازي: 21/ 21.

[21] تاريخ الطّبري: 2/ 337؛ تفسير الطّبري: 24/ 703؛ القرطبي: 22/ 532، 536. وبصيغة أخرى: قالوا: «تعبد آلهتنا سنةً ونَعْبَد إلهك سنةً. وفي لفظ: هلمّ يا مُحَمَّد فلنَعْبد ما تعْبد وتَعْبد ما نَعْبد فنشترك نحن وأنت في الأَمر، فإن كان الذي نعبده خيراً مما تعبد كنت قد أخذت منه بحظك، وإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد كنا قد أخَذنا منه بحظّنا (سبل الهدى: 2/ 559. الباب السادس والعشرون، في سبب نزول ﴿قُلْ: «يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ!»﴾).

[22] سورة الكافرون: 109/ 1 إلى آخر السورة.

[23] سورة الزمر: 39/ 64 ـ 66.

[24] تاريخ الطّبري: 2/ 337.

[25] تاريخ الطّبري: 2/ 337 ـ 339. قارن: البغوي: 5/ 393.

[26] سبل الهدى: 2/ 486؛ تفسير ابن كثير: 10/ 85؛ الدر المنثور: 10/ 527.

[27] تفسير الطّبري: 16/ 606. قارن: الدر المنثور: 10/ 530.

[28] الملل والنحل، ص 109.

[29] ابن إسحاق، ف 72.

[30] الرازي: 23/ 50؛ الدر المنثور: 10/ 528؛ أحكام الْقُرْآن لابن عربي: 3/ 303؛ ابن سعد: 1/ 174.

[31] وفي صيغ أخرى: «وإنّ شفاعتها لترتجى، وإنها لمع الْغَرَانِيق العلى»، و«وإنّهنّ لهنّ الْغَرَانِيق العُلى، وإنّ شفاعتهن لهي التي تُرتجى» (تفسير ابن كثير: 10/ 84 ـ 85).

[32] ابن سعد: 1/ 174.

[33] السهيلي: 3/ 344، هامش سيرة ابن هشام: 1/ ص 364 ـ 365.

[34] «وقالوا: إن مُحَمَّداً قد رجع إلى ديننا» (سبل الهدى: 2/ 487).

[45] في رواية ثانية، نقرأ بأن العبارة كانت: «تِلْكَ الْغَرَانِيق الْعُلا، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْجَى» (تاريخ الطّبري: 2/ 340)؛ تفسير الطّبري (16/ 603 ـ 604).

[36] ابن سعد: 1/ 174 ـ 175.

[37] الدر المنثور: 10/ 528.

[38] ابن سعد: 1/ 175.

[39] سورة الحج: 22/ 52.

[40] تاريخ الطّبري: 2/ 337 ـ 339؛ تفسير الطّبري: 16/ 605.

[41] تاريخ الطّبري: 2/ 340 ـ 341.

[42] تاريخ الطّبري: 2/ 339. قارن: البغوي: 5/ 393.

[43] المواهب اللدنية.

[44] ابن إسحاق، ف 219.

[45] تحليل قيم لوسائل سيطرة القادة، انظرْ:

Gustav Le Bon, the Crowd, Bk II., Ch III. The Leaders of Crowds and their Means of Persuasion.

[46] سورة الحج: 22/ 53.

[47] الزمخشري: 4/ 206.

[48] البيضاوي: 6/ 124.

[49] الميزان للطباطبائي.

[50] ابن سعد: 1/ 175.

[51] تاريخ الطّبري: 2/ 340. قارن: ابن إسحاق، ف 220.

[52] ابن هشام: م 2/ 365 ـ 369.

[53] ابن سعد: 1/ 176.

[54] EQ, Vol. 4, p. 531.

[55] تفسير الطّبري: 16/ 603.

[56] القرطبي: 14/ 426.

[57] القرطبي: 14/ 428.

[58] سورة الحج: 22/ 49.

[59] تفسير أبي مسلم الأصفهاني، 200. قارن، ملتقط جامع التأويل لمحكم التنزيل، ص 76.

[60] القرطبي: 14/ 429.

[61] الرازي: 23/ 54.

[62] القرطبي: 14/ 429 ـ 430؛ الرازي: 23/ 54.

[63] الرازي: 23/ 53. يكرر الحجة الشيخ زاده في حاشيته على البيضاوي: 6/ 126.

[64] القرطبي: 14/ 429؛ مجمع البيان على الآية.

[65] القرطبي: 14/ 433.

[66] البيضاوي: 6/ 126 ـ 127.

[67] تنزيه الْقُرْآن عن المطاعن، 274.

[68] الرازي: 23/ 53 ـ 54. يكرر الحجة الشيخ زاده في حاشيته على البيضاوي: 6/ 125.

[69] القرطبي: 14/ 431.

[70] الرازي :23/ 52.

[71] الرازي: 23/ 54.

[72] EQ, Vol. 4, p. 533.

[73] مثلاً: نصب المجانيق لنسف قِصّة الْغَرَانِيق، مُحَمَّد ناصر الدّين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة 1417ﻫ/ 1996 (72 صفحة). وكانت الطبعة الأولى ظهرت سنة 1952. ومن قبل نعت محمد حسين هيكل قصة الغرانيق بالكذب: حَيَاةُ مُحَمَّدٍ، دار المعارف، القاهرة، 1977، ط 14، ص 175 ـ 182.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط