مالك مسلماني / Apr 07, 2008
 

بحثاً عن مُحَمَّدٍ التَّاريِخيّ*

آرثر جِفري ـ ترجمة مَالِك مِسلْمَانِي

The Quest of the Historical Muhammad

by
Arthur Jeffery

www.annaqed.com

=========================

سنة 1906 ظهر في الألمانيّة عملٌ لم تُفتح العينُ على مثله يتناول حياة المسيح، بعنوان: Von Reimarus zu Wrede، تأليف ألبرت شفايتزر، العالمُ الشّابُ، الّذي لم يكن معروفاً حتّى ذلك الحين، وقد قام مونتغومري بترجمته إلى الإنجليزيّة تحت عنوان "بحثاً عن يَسوع التَّاريِخيّ".

كان كتاب شفايتزر مسحاً شاملاً متألقاً لمختلف أنماط "سِيَر المسيحِ"، الّتي أنتجتها شتّى مدارس الفكر الّلاهوتيّ في أوربا، من مدارس الورع الأرثوذكسيّ، البعيدة كلّ البعد عن قواعد النّقد، إلى تلك المسرفة في التّفسير الآخرويّ ـ eschatological ـ وحتّى الأسطوريّ. كان شفايتزر يهدف من ذلك إلى إجراء مسحٍ لمختلف المحاولات التي أُجريت من أجل تفسير حياة سيدنا، و ـ بعبارة أخرى ـ إجراء بحثٍ إحصائيٍّ لوضعية العِلْم بصدد هذه المسألة، وأنْ يقيّم سنواتٍ من البحث النّقديّ الصّبور، الّذي كُرس لهذه الإشكاليات.

في الآونة الأخيرة اُقترح بأنَّ الوقت قد نضج لبحث مشابه بصدد حياة نبيِّ الجزيرة العَرَبِيّة، ولهذا بوسعنا أنْ نستعرض تقييمياً العمل الّذي تحقق، وجمع النتائج المؤكّدة التّي تمّ بلوغها، وملاحظة اتجاهات العِلْم النَّقديِّةِ الّتي تٌظهر خطوط البحث الواجب تتبعها مستقبلاً. يمكن لنا أنْ ننتظر طويلاً بزوغ عالمٍ إِسْلاَميٍّ يتحلّى باستعدادٍ أصيل ومجدٍ نظير شفايتزر، ليأخذ على عاتقه هذه المهمة، بيد أنّ في مكننا إجراء محاولة رسم مختصرة لهذه المعالم الأساسية لمثل هذا الاستقصاء بكثير أو بقليل من النجاح.

المَصَادِرُ

إنّ اعتبارنا الأولُّ هو المَصَادِرَ، ومن الطبيعي أنْ نتفحص أدب المسلمين، إذْ إنّهم أوّل من يٌؤمل منهم ترجمة حياة نبيّهم. هنا ولدى النّظرة الأولى فإنّ قلب الدّارس قَدْ يخفق ارتباكاً أمام العدد الكبير حقاً لِسِيَرِ المسلمين بصدد النَّبِيّ، حيث ثمّة مئات منها بالعَرَبِيّة، والفارسيّة، والتّركيّة، والأوردوية، والمالاويّة، وحتى بالصِّينيِّة وبدرجة أقلّ بلغاتٍ شرقيِّةٍ. على أيّ حالٍ، يبيّنُ البحثُ الأشدُّ اختصاراً أنَّ مشكلة المَصَادِرِ هي بسيطة نسبيّاً، إذْ لا تعدو أن تكون مئات المجلدات الموجودة سوى تكرارٍ وإضافاتٍ خُرافيِّةٍ غيرٍ متصلة بالموضوع وبتعديلات ربما لما يقارب ستة من النُّصوصِ العَرَبِيّة المهمة الرئيسة.

إنَّ الأثر الأقدم الّذي بحوزتنا بصدد حياة مُحَمَّدٍ كتبه مُحَمَّدُ بنُ إسحاقَ، الّذي مات سنة 768 م، بعد مئة وثلاثين سنة من وفاة النَّبِيّ. إنّ كتابَ ابنِ إسحاقَ قد فٌقد على كُلِّ حالٍ، وكلُّ ما نعرفه عنه هو مقتبس منه ـ ومن حسن الحظِّ إنَّ هذه الاقتباسـات قيِّمَةٌ ـ في كُتبِ المؤلِّفين الّلاحقين، لا سيما ابن هشام و الطّبريّ. وعلاوة على أنّ عمل ابنِ إسحاق هو المحاولة الأقدم المعروفة بصدد السِّيرة، فإنّ له أهمية أبعد من ذلك، هذا بغض النَّظرِ عن أنّ الكاتبّ كان بشكلٍ ما مفكراً حراً، أو لأنّه لم يخضع لتأثير النّزعات المُتأدْلَجَة المتأخّرة، إذْ إنّ عمله يتضمن معلوماتٍ حول سَجايا النَّبِيّ الّتي لا ريب إنّها سلبيّة. كما يستشهد دكتور مارغوليوث:

إنّ شخصيّةَ مُحَمَّدٍ الّتي جاء وصفها في سيرة ابن هشام سلبيِّةٌ إلى حدٍ بعيد. فهو لا يتورّع عن وسيلة لكي ينال غايته؛ ويصادق على انعدام ضمير أتباعه، حينما تُمارس في مصلحته. وإذْ كان قد انتفع إلى الحد الأقصى من مُرُوْءة المكييّن، فإنّه نادراً ما قابلها بالمثل. كان ينظم الاغتيالات والمجازر على نطاقٍ واسعٍ. إنّ سيرته في المدينة هي أنه زعيمُ لصوصٍ، الّذي تتشكل سياسته الاقْتِصَادِيّة من تأمين الغنائم و تقسيمها، وفي بعض الأحيان كانت تجري قِسْمة الغنائم وفق اعتبارات لم تكن ترضي فكرة أنصاره حول العدالة. إنّه نفسه كان خليعاً، طليق العنان ويشجع نفس الهوى لدى أتباعه. و بغضِّ النّظر عن الفعل الّذي كان يقوم به فإنّه كان على أهبة الاستعداد لتبريره بتفويض إلهيٍّ خاصٍ. وعلى أيِّة حالٍ من المستحيل أنْ نجد أيَّ مبدأ، لم يكن مستعداً ليتنازل عنه من أجل ضمان الغاية السِّيَاسيّة. و عند مفاصل مختلفة في حياته تخلّى عن وحدانيّة الإله و دعواه بلقب النّبوّة. و هذه صورة بغيضة لمُؤسِّسِ الدِّين، و لا يمكن تبريرها بأنَّها صورة رسمتها ريشةُ عدوٍ؛ و لهذا السبب كان اسم ابن إسحاق واقعاً في اعتبار متدنٍ لدى التقليدييّن الكلاسيكييّن للقرن الثالث الهجريّ، وإنْ لم يحاولوا تكذيب هذه الأجزاء من السِّيرة الّتي تحتوي على التفاصيل الأشدٍّ وجعاً حول شخصيّة نبيّهم.

( Encyclopedia of Religion and Ethics, volume 8, p. 878.)

ويلمّح مارغوليوث إلى جانبٍ في صالح هذه السِّيرَة، ذلك أنَّها نادراً ما تلجأ إلى الخارق، وحتّى عندما تُقدّم المُعْجِزَةُ فإنّ ذلك لا يظهر أنّها تؤثر على السَّببيّة.

إذاً، إنّ المَصدرَ الأوّلَ المهم الّذي وصل إلينا بالحقيقة هو كتابُ المغازي للواقديِّ. مات الواقديّ سنة 822 م، ولعلَّ أفضل نصٍّ يمكن الرجوع إليه هو ترجمة أجزائه المهمة في عمل فلهاوزن "مُحَمَّدٌ في المدينة" (برلين 1882). وعلى أيِّ حالٍ يتسم عمل الواقديِّ بقصورٍ جديٍ، ذلك إنّه يتعامل فقط مع حملات مُحَمَّدٍ. وبعد ذلك بقليل تأتي السِّيرَة النّبويّة لابن هشام (تحرير فوستنفيلد، غوتنغِن 1859، وقد تُرجمت إلى لغة ألمانيّةٍ مبهمة من قبل فايل [1] )، وكتاب الطّبقات الكبرى لابن سعد (تحرير إدوارد زاشاو، بمساعدة عدد من الدَّارسين الآخرين، في تسع مجلدات، طُبعت ما بين 1904 ـ 1921 في ليدن) . مات ابن هشام سنة 933 م، وابن سعد 844 م . والأعمال اللاحقة بالعَرَبِيّة لها قيمة ثانويّةٌ مقارنةً مع هذه الأعمال.

بكلِّ الأحوالِ ليست هذه الأعمال مصادر أوليّة، فهي نفسها مُؤسَّسَة على مصدَريْن: الأحاديثِ والقُرْآنِ. والمجموعة الأهمِّ من الأحاديث هي للبُخاريِّ (ت 870 م)، ومسلمٍ (ت 874 م). ولاحقاً سننظر إلى القيمة التي يمكن عزوها إلى الأحاديث. وسنعتبر القُرْآنَ الّذي حُرر تقريباً في الشكل الّذي لدينا خلال جيلٍ من وفاة مُحَمَّدٍ مصدرنَا الأوَّلَ لحياة مُحَمَّدٍ. بالطبع، سيكون جليّاً إلى أيِّ قارئٍ للقُرْآنِ، كم هي المواد المتعلّقة بالسِّيرة ضئيلةٌ. وكان نلدِكه أول من أشار إلى أهمية الشاهد في القُرْآن في طبعة (1860) لعمله Geschichte des Qorans ، ومن الممكن أنْ يكون عمل كانون سِـل "تطورُ القُرْآنِ التَّاريِخيِّ" (مَدراس، 1909) خلاصةً مدروسةً بصيغة سهلةٍ لعمل نلدِكه، حيث اشتغل سِل على مخطوطة مترجمة تمّت لأجله في الهند.

بإمكاننا أنْ نجد خلاصةً موجزةً ممتازةً حول مسألة المصادر في مقالة زاشاو التي كتبها كمقدمة لكتاب ابن سعد من طبعة ليدن، أو الخلاصة الأقدم في مقدمة عمل السير ويليام موير "حياة مُحَمَّد"

الرِّوايات المسِّيحيّةُ المبكِّرة

ظهرت الإشارة الأقدم إلى مُحَمَّدٍ في الأدب المسِّيحيّ في "تاريخ سيبوس"، المكتوب في القرن السّابع الميّلادي، حيث انحصر قوله في أن مُحَمَّداً إسماعيليٌّ، إدّعى النُّبوَّة وعلّم أبناء بلده العودة إلى ديانة إبراهيم. إنّ القيمة الّتي لدى الكُتَّاب البيزنطييِّن ضيئلة، لكنه يتأتى الاعتراف بأنَّ هذا المصدر لم يُفحص إطلاقاً من قِبَل دارسي الإِسْلاَم. فـ "نيسيتاس البيزنطي"، يكتب: ["Refutatio Mohammadis" (Migne P.G. cv) ]، و يكتب ارتولوميو من إديسّا رسالةً بعنوان: [ "Contra Mohammadem" (Migne P.G. civ) ]، اللّتان يمكن أخذهما كنماذج لأعمال نشأت نتيجةً عن التماس مع القوة الإِسْلاَميّة في الحروب التي سلبت من الإمبراطوريّة البيزنطيّة مقاطعاتها الشّرقيّة الواسعة الواحدة تلو الأخرى.

لقد حصل الكتّاب القروسطيون اللاتين على معلوماتهم من مصدريْن: الرِّوايات البيزنطيّة؛ ومن التواصل الشّخصي مع الإِسْلاَمِ خلال الحملات الصّليبيّة. إنَّ استقصاء تطور الخرافات الجّافية التي انتشرت عبر أوربا خلال هذا العصر ستكون دراسة ممتعةً، حيث بدا مُحَمَّدٌ واحداً من ثلاثة أوثان: أبولّين، تيرغافان، وماهون، الّتي كان يُعتقد على نطاق شعبي بأنّها معبودات المسلمين. وقد عبرت الأساطير إلى إنجلترا، وفي لغة أسلافنا فإنَّ اسمَ مُحَمَّدٍ، في صيغته المحرفة " mawmet "، صـار كلمةً مألوفةً لـ "الصَّنم". وهذا ما نقرأه في "أسطورة القديس أندرو". و قد تكرر ذلك في "حياة القديس جوليان" المكتوبة حوالي 1200 م. وعلى أيّ حال كان كتاب العصر الكنسيّون ينظرون إلى مُحَمَّدٍ على أنه هرطوقيٌّ أكبر، أريوس ثانٍ، أسوأ من الأول. وقد تقولبت أسطورته وفق الأساطير الهرطوقيّة الكبرى، لسيمون ماغوس وديكون نيكولاس. ويشير رينان إلى السبب في مقاله في (Atti della Academia dei Lincei)، لعام 1889، حيث يكتب: "في الكتابات الشَّعبية، ثمَّ افْتِراءات بغيضة تهدف إلى تقليد الشيطان الأكبر قلائد الخزي الّذي ترغب المسِّيحيّة بقمعه بأيِّ ثمن" [2]. وهناك على أيّ حال استثناءات بارزة، لهذا الجهل الكلّيِّ و سوء الحكم يمكن أن ترُى في حالات رجال مثل" بتروس فينرابيليس" (ت 1157 م)، والّتي نُشرت شذرات من مناظراته من جانبِ توما ("كتابان ضد المُحَمَّدية" [3]، لايبتش، 1896 م)، وكتاب الراهب الدومينكاني ريكلودس (ت 1320 م) Confutatio Alcorani ، الّذي ترك أثراً شديداً على مارتن لوثر، حيث يُظهر فيه المُؤلِّفُ إطلاعاً دقيقاً غيرَ عاديٍّ على المادة.

العَهْدُ قَبْلِ النَّقديِّ

بعد عصر النَّهْضَةِ نجد أنّ القضيّة عادت لتجذب الاهتمام. مثل أعمال رايله "حياة وموت مُحَمَّد" (لندن، 1637)، وبريدو "حياةُ مُحَمَّدٍ، أو أين يُكشف حقيقة الدجل" [4] (أمستردام، 1698)، وهي مبنية على المواد العَرَبِيّة التي صارت متاحةً في التّرجمات الّلاتينيّة؛ لكنَ رواية هوتينغِر حول تعاليم مُحَمَّدٍ في  Historia Orientalis  (زويخ، 1651)، وانتقادات مارّاكسيو القاسية الّتي تتخلّل كتابه "التفنيد" (بادوا، 1698) تبدأ التقاليد الّتي تعتمد على المصادر الأصليّة نفسها. وأغلب هذه الأعمال معادية بشكل مرير ومسبقة الحُكْمِ، على الرَّغم من أنّ هوتينغِر سعى لتقديم حُكْمٍ غيرِ متحيزٍ. وبكلِّ الأحوال لقد دخلنا المعالجة الجديدة للموضوع مع العالم الهولندي ريلاند. إذْ كان قد تطلّع في عمله  de Religione Mahommedica (أوترِشت، 1704)، إلى التّنأي عن الموقف العدائيِّ من مُحَمَّدٍ، وكافح من أجل تقدير نزيه لأهميته التَّاريِخيّة. على أي حال، كان لعمله حظ سيئ حيث حاكه كتاب  Vie de Mahomed (لندن، 1739) تأليف هـ . دي بولينفيلييه، الّذي كان إطناباً طناناً في مُحَمَّدٍ من أجل التقليل من شأن المسِّيحيّة. لقد ســماه هورغرونيه "رواية ضد أكليروسيّة، حيث إنَّ المواد المستمدة من معرفة سطحيّة بالإِسْلاَم مســتقاة من مصادرَ ثانويّةٍ". وبوسـعنا أن نميّز أصداء بولينفيلييه في ترجمة غيبون لحيـاة مُحَمَّد في عملــه "الأفول والسّـقوط" (لندن، 1776). لا ريب أن غاغنير قد كتب عمله Vie de Mahomet " ( أمستردام، 1748 ) من أجل مقاومة الانطباع الخاطئ الّذي أحدثه بولينفيلييه. ساعياً بعمله هذا إلى أخذ منتصف المسافة بين بولينفيلييه من جهة وبريدو من جهة أخرى. مهما يكن من أمر، لم يكن ممكناً التّقدم أكثر طالما لم يتمّ العمل على المصادر العَرَبِيّة.

بدايةُ النَّقْدِ

لدى مَطْلع القرن التّاسع عشر بزغ الاهتمام بالدِّراسات الشرقيّة، وهذا ما مكّن من الانطلاق في محاولة تناول المشكل بما يسـتحقه. بوسعنا القول إنّ العصر الجديد بدأ مع عمل غوستاف فايل، المعنون: Muhammad der Prophet, sein Leben und seine Lehre  (شتوتغارت، 1843). وفيه أولّ تطبيق لمنهج حقيقي تاريخيّ ـ نقديّ لمسألة حياة مُحَمَّدٍ. ربّما لم يبلغ فايل بعيداً جداً في تقصيه، كون مصادره كانت لم تزل محدودة، لكنه وجد وطبق المنهج. وسنة 1864 أحرز تقدماً أبعد في ترجمته لسيرة ابن هشام. أما عمل غوسّا دي بِرسٍفال Essai sur l'Histoire des Arabes  3 مجلدات، باريس، 1847، فإنه كُتب كما يبدو مستقلاً تماماً عن فايل، ويتابع وصف حياة وعمل مُحَمَّد، وتنبع قيمته الحقيقيّة من المواد الضّخمة من المصادر العَرَبِيّة التي جُمعت معاً . وعالم آخر في هذه الحقبة هو فوستِنفِلد، الّذي لم يكن كتابه    Das Leben Muhammad's  3  مجلدات غوتينغِن، 857- 1859  مساهمته الكبيرة، بل طبعاته الممتازة للنصوص العَرَبِيّة المبكِّرة، ودراساته الاستاذيّة، مثل:

1 - Genealogishe Tabellen der Arabischen Stümme und Familien (Göِttingen, 1852-l853)

2 - Chroniken der Stadt Mekka (4 vols. Leipzig 1861), Das Gebiet von Medina" (Göِttingen, 1873)

3 - Die Geschichtsschreiber der Araber und Ihre Werke (Göِttingen, 1882)

التي أضاءت كثيراً جداً التاريخ المبكر. وعلى أي حال فإنّ لأعمال شبرِنغِر، نِلدِكه، وموير أهمية أكثر.

إنَّ عمل شبرِنغِر سيخضع للنظر في قسم آخر، لكننا نحتاج لذكر شيء واحد، فعلاوةً على عمله المهم جداً  Leben Muhammads ، فإنّه أيضاً ـ مثل فوستِنفِلد، قدّم مساهماتٍ مهمة في مجال دراسة خلفية حياة مُحَمَّد، وذلك في دراستيْه:

1 - " Die Post und Reiserouten des Orients " (Leipzig, 1864).

2 - " Die Alte Geographic Arabiens " (Bern, 1875).

كانت مساهمة نِلدِكه العظيمة هي مقاله  Geschichte des Qorans  (غوتيغِن، 1860)، الّذي يخرج عن مجال مقالنا، لكنّه كان المحاولة الأولى لتقييم المصادر الأكثر أهميّة من أجل إعادة بناء حياة مُحَمَّدٍ. إنَّ نِلدِكه النّاقد الأشد رهافةً، والأكثر حرصاً للغاية بصدد هذه الفترة المبكرة، وبالعموم هو حريص جداً في حكمه التَّاريِخيّ. أما كتابه : ـas Leben Mummads nach den Quellen populür dargestellt   هانوفر، 1863 ـ فهو العمل الأشدّ خفةً، والأكثر شعبيّة، والّذي صار الآن شبه منسيٍ. وأما العمل التتويجي لهذا العصر الأول من النّقديّة فهو كتاب "حياةُ مُحَمَّدٍ" لموير، الّذي ظهر في لندن بأربعة مجلدات، بين سنوات  1856ـ 1861. لقد مكث السير ويليام موير في الإدارة المدنيّة في الهند لمُدّة طويلة، وقبض على ناصية الأدب المُحَمَّديّ بالعَرَبِيّة، والفارسيّة، والأوردويّة، كان يحوز على مكتبة شرقيّة عظيمة. كان عمله مُؤسَّسَاً على الدِّراسة الدقيقة لأفضل مادة متاحة في حينه. إنّ عمله غنيٌّ ومكتوب بشكلٍ نيّرٍ، ومن جهة أخرى متحرّر على نحوٍ لافت من الرأي المسبق. في مقدمته أعطى عرضاً لمبادئ نقد المصادر، التي لا زالت تستحق القراءة، هذا الموضوع الّذي طوّره في مقاله حول "قيمة المصادر التَّاريِخيّة المُحَمَّدية المبكرة"، المطبوع في كتابه "مناظرة المسلم" (لندن، 1897). لقد طبع عمل موير مراراً، لكنَّ الطّبعةَ الأخيرة الصّادرةَ في مجلد واحد من قِبَل ت. هـ . وير (إدنبره، 1912) هي الأكثر ملائمةً.

مجموعة من الأعمال الأصغر، والأكثر شعبيّة مُشيّدة بشكل واسع على أعمال هذه الفترة من بداية النّقدِ . والأكثر شهرة منها هي:

 1 ـ "مُحَمَّدٌ و سُلْطَتِه" لـ "جونستون"، (إدنبره ، 1901)

2  ـ "حياة مُحَمَّدٍ" لـ "سِل" (مَدراس ، 1913)

  3ـ "مُحَمَّدٌ، حياتُه وتعاليمُه" لـ "فولاستون"، (لندن ، 1904)

5      ـ Mohamet et le Coran  لـ "القديس إيلر"، (باريس، 1865)

5  ـ L’Islam et son Fondateur :   étude morale  لـ "شول" (باريس ، 1874)

 6 ـ Vie de Mahomet  لـ "ديلابورت"، (باريس ، 1874)

 7 ـ La Vie et la Morale de Mahomet  ، لـ "ألبر فوا"، (باريس ،1912)

8  ـ Muhammad und der Islam ، لـ "راينِرِ"، (لايبتيش ، 1905)

9  ـ Mohammed und die Seinen ، لـ "رِكِندورف" (لايبتيش، 1907)

10  ـ Das Leben des Muhammad ، لـ "كرِل"، (لايبتيش، 1884)

السِّيَر المَرَضِيِّة

[ PATHOLOGICAL ]

كان لا بدّ أنْ تعتري الدَّهشة الباحثين الأوربييّن بسبب تلك الإفادات الموجودة في المصادر حول النّوبات الغريبّة الّتي كانت توافي مُحَمَّداً، سيّما عِنْدَ الوحي.

إنّ الانطباع.. بأنّه كان عُرْضَةً للصَّرْاعِ تجد تأكيدها اللاّفت في الملاحظات المدوّنة لتجاربه أثناء الوحي ـ ولا يقللّ من أهميتها احتمال أن تكون الأعراض غالباً قد زُيّفت. العمليّة الّتي كانت تصحبها نوبة اللاوعي، الّتي تُرافق (أو تُسبق) أحياناً بصلصلة الأجراس في الأذنيْن أو بتخيّل أحدٍ حاضر، بإحساس الرعب، تلك التي تدفع المريض إلى التّعرق وإمالة الرأس، وإطلاق الزبد من الفمّ، وتجعل الوجه يحمرّ أو يبيض؛ وإلى الشعور بالصّداع. (مارغوليوث ، مُحَمَّد ، ص 46).

لَمْ تُسْتَوْعَب هذه الحقائق كثيراً من قِبَلِ كُتّاب الاستشراق، بيد أنَّ شبرِنغِر، الّذي كان طبيباً عاماً، أمسك بهذه الشواهد للصَّرْاع بوصفها حلاًّ مفتاحيًاً لشخصيِّة مُحَمَّدٍ. و قد قام بعمله في كتابه الهنديّ الأوّل، "حياةُ مُحَمَّد مِنَ المَصَادِرَ الأصليَّة" (اللّه أباد، 1851)، الّذي هو مسودة هزيلة، وتتوقف عند الهجرة من مَكّةَ، ولاحقاً في بحثه الضخم:

Das Leben und die Lehre des Muhammads  3 مجلدات، برلين، 1861 ـ 1865 

وأخيراً في:

Mohammed und der Koran: eine Psychologische Studie   هامبورغ، 1889

إنّ عمل شبرِنغِر في هذا الاتجاه ممتع أكثر منه مقنعاً، وقد تعرّض لنقد حادٍ. في مقاله في "كالكوتا ريفيو" لعام 1868 وصف السير موير عمله بأنّه: "مؤطّر بحب المفارقة، والميل إلى الاستهلال بالنّظريات المُشيَّدة على أرضيّات هشة. ويلاحظ هيرشفِلد: "إنّه يخطئ بكلِّ تأكيدٍ في أنّه يعزو نصيباً كبيراً في نشأة الإِسْلاَم إلى حالة [مُحَمَّد] العصبيّة أكثر مما تستحقها. إن النَّوْبَة الهلوسيّة والهستيرية عامل غيرُ قويٍّ بما فيه الكفاية لإنتاج بالعموم جَيَشَانٍ كالّذي سببه الإيمان الجديد" [5]. ويصفه هورغرونيه بأنّه "عرض مبالغ فيه ليقينيّة مُؤسَّسَة على دراساته الطّبية السّابقة" [6]. مهما يكن من أمر فقد وجد أتباعاً، وكان أبرزهم الدكتور فرانتس بول، العالم السابق للسّاميّات من كوبنهاغن، الّذي طرح صيغةً معدّلةً من هذه النّظريّة في كتابه  Muhammed's Liv (كوبنهاغن، 1903). ويستوعب بول لحد كبير الحقيقة التي لاُحظت بأنَّ ذوي الطّبائع الهستيرّية يجدون صعوبةً غير عاديّة وغالباً عاجزاً كليّاً في تمييّز الصِّيغ الزائفة من الحقيقيّة. وتسيطر على هؤلاء الأشخاص الأفكار القاهرة، ويستحيل عليهم النّظر إلى الأشياء على ضوئها الحقيقيّ، وهو يظنُّ بأنّ ذلك هو السبيل الأكثر أمناً لتفسير التّضاربات الغريبة في حياة النَّبِيّ. ومن الممكن أنْ نجد عرضاً لافتاً للرؤيّة البَاثُولُوجِيّة في بحث "حول هلوسة مُحَمَّد"، في عمل صغير لـ "ويليام إيرلاند"، بعنوان: "الجُلْطَة في الدِّماغِ: دراساتٌ في التّاريخ وعلِم النّفسِ" (نيويورك ، 1886).

كان العمل المؤيّد للتّحليل النّفسيِّ "جوانب الإِسْلاَم" (نيويورك، 1911) للدكتور ماكدونالد، من هارتفورد، تطوراً إضافيّاً لوجهة النظر الهامة هذه، حيث يخبرنا بأنّه يتطلّع إلى بحثٍ مستقبليٍّ مثمرٍ لحياة النَّبِيّ كي يكمل فرضيّة أنّها كانت حالةً بَاثُولُوجِيّةً بشكلٍ أساسي، وبأنَّ "مآله إلى ذلك الفساد إشكالية مرةً أخرى لأولئك الّذين قاموا بدراسة كيف أنَّ غَيْبُوْبَةَ الوسيط الأِشد صدقاً يمكن أن تشرع بالخداع في أي وقت" (م ن . ص 74).

قبل أنْ نترك هذا القسم علينا أنْ نضيفَ كلمةً أُخرى حول عمل شبرِنغِر "Leben Mohammeds" . لا يجب أنْ يؤدي المللُ من النّظريّة بالدَّارس إلى تجاهل هذا العمل، كونه الأكثر تحفيزاً من كلِّ الأعمال المتعلقة بسيرة مُحَمَّدٍ التي لدينا، وهو منجم من المواد، التي جُمعت بصبرٍٍ شديد ورُتبت بشكل متفوقٍ.

السِيَرُ السِّيا ـ اقْتِصَادِيّة

 

نقطة بدءٍ مختلفة تماماً أوحت بها لباحثين آخرين الشروطُ السِّيَاسِيَّةُ والاِجْتِمَاعيّةُ للجزيرة العَرَبِيّة زمن مُحَمَّدٍ. كانت الشروط الاجتماسيِّة للجزيرة العَرَبِيّة أيام ميعة صبا مُحَمَّد سيئةً. فلم تكن الجزيرة العَرَبِيّة في أحسن أوقاتها خصبةً، وفي ذلك العصر بالتحديد كانت جميع الأطراف الطّيبة واقعةً عمليّاً تحت سيطرة القوى الأجنبيّة ـ البيزنطييّن، الفارسييّن، والأحباش ـ الّذين كانوا يدفعون القبائل العَرَبِيّة أبعد باتجاه صحاريهم . ولم يكن الاتصال مع حضارة هؤلاء النّاس الأكثر تطوراً بدون تأثيرٍ، إذْ جعل العرب المُعْدِمين يرنون بعيونهم التواقة إلى الأشياء الأفضل الّتي بالكاد حلموا بها حتى الآن. فالقبائل نفسها كانت لا تهدأ  ساخطة، والظروف الاقْتِصَادِيّة كانت بائسة، وكانوا جاهزين للتجمع تحت أي راية تعطيهم أملاً بالخلاص الوطنيِّ. لقد كان مُحَمَّدٌ هو من رفع الرّاية، وعمل على جعلهم قوةً وطنيّةً قويّةً، التي ستضمن الجزيرة العَرَبِيّة للعرب.

لعلَّ كتابَ الدّكتور مارغوليوث "مُحَمَّدٌ و نهوض الإِسْلاَم" (لندن، 1905)، الدِّراسة الأكثر تألّقاً لحياة مُحَمَّدٍ قد ظهرت وهي تعكس هذه النظرة، والتي يمكن رؤيتها أيضاً في نفس مقاليْ الكاتب بصدد مُحَمَّدٍ في الـ ـ  Encyclopædia Britannica    الطبعة 11 و ـ  Encyclopedia of Religion and Ethics  المجلد الثامن. وحسـب هذه النّظرة كان مُحَمَّدٌ محباً لوطنه، واعياً بشكل رائع لفرص التّاريخ، والّذي أنشأ منهجية وحدة العرب في مواجهة الخطر العام، ووّظف فرص العصر الذهبية.

إنّ الرّجلَ الّذي بوسعه أنْ يُنظَّمَ قوةً مسلحةً يقودها نحو النّصر يمكن أنْ يظهر من خمول الذّكر إلى الأوتوقراطيّة في أيِّ مكانٍ. ولعلَّ كلَّ قرنٍ إِسْلاَميٍّ لديه حكايةٌ حول شخصياتٍ مشابهة. لقد نهضت سلالات العبّاسييّن والفاطمييّن، البُوَيهييّن، السَّلجوقييّن، والعُثمانييّن بنفس الطريقة؛ وفي أغلبها كان اللجوء إلى الدِّين يلعب دوراً مهماً. فنجاح المُؤسِّسِين كان يعود بشكل واضحٍ لا إلى الحقيقة الموضوعيّة للعقائدِ الّتي كانوا مرتبطين بها، بل إلى مهارتهم بوصفهم مُنظِّمين وزعماءً عسكرييّن.. كانت كفايته [أي مُحَمَّد] في تقدير صفات الآخرين غيرَ عاديةٍ: ومن هنا فإنَّ اختياره للتابعين بدا بعيداً عن الأخطاء. وفي المقام الثّاني، كان مطّلعاً بشكلٍ كاملٍ على نقاط ضعف العرب، و قد استعملها إلى أفضليتها القصوى. إنَّ قصص نجاحاته كما يقدمها ابن إسحاق، تشير إلى غياب تام للشّك الأخلاقيّ؛ لكنّها تظهر مزيجاً من الصّبر والشّجاعة والحذر؛ القدرة على القبض على الفرص، والارتياب بالإخلاص عندما لا يكون مدعوماً بالمصلحة، وهذا يفسر لحدٍ كبيرٍ موثوقيّة تحقق النتائج. (Encyclopedia of Religion and Ethics, vol. 7, p. 873 ) .

يمكن القول إنّه كان في المدينة لصَّاً بالضبط مثلما كان داود، ملك إسرائيل، في أيامه المبكرة. فعندما دخل مَكَّةَ، دخلها بوصفه زعيماً سياسيّاً أكثر من كونه نبيّاً، وقد اعترف المكّيون به بهذه الصفة. كانت الاعتبارات السِّيَاسِيَّة تملي تعاملاته مع اليهود والمسِّيحيّين إلى حدٍ كبير: لقد تعامل مع القبائل الوثنيّة بصفته عاهلاً ومجمل موقفه بالنسبة إلى الإمبراطوريّات المحيطة كان بصفته رجل دولة  "إنَّ الحقيقة الأساسيّة في فجر الإِسْلاَم هي أنَّه صار للحركةِ وزنٌ عندما كان مُؤسِّسُها قادراً على امتشاق السيف والإمساك به بنجاح". ولهذا عندما نسعى إلى تقدير أهميّة مُحَمَّدٍ، لا يجب علينا أن نحاكمه كمصلح صُوفِيٍّ أو دينيٍّ على الرَّغم من أنّه يمكن أن يكون حائزاً على عناصر منهما بل بالأحرى كرجل دولة واجه مشاكل سياسيّة محدّدة وملحّة بين أناسٍ غير متحضرين لحدٍ ما وفي لحظةٍ حاسمةٍ من التّاريخ.

إنّ رؤيةً مشابهةً كان يحملها العالم الإيطالي ليون كايتاني مع أنَّه لسوء حظنا ليس بين أيدينا صورته الكاملة للنّبيِّ. إلاّ أنّنا نملك على كلِّ حالٍ الخطوط الأوليّة لمعالجته في المجلّد الأوّل والثّاني من كتابه الضخم Annali dell' Islam (ميلان، 1905 ـ 1907)، وفي المجلّد الثّالثِ لمُؤلَّفِه  Studi di Storia Orientale (ميلان، 1914) يقترح كايتاني بأنَّ الانفجار العظيم، الّذي قذف بالجيوش العَرَبِيّة نحو فتح الأراضي الخصبة المحيطة، هو فقط آخر سلاسل الانفجارات المشابهة للشعوب السّاميّة، التي كانت تلفظها الجزيرة العَرَبِيّة في الأزمنة التَّاريِخيّة، بسبب من الضغط الاقْتِصَادِيّ النّاتج عن الجفاف التّدريجيّ في الجزيرة العَرَبِيّة. هكذا صار مُحَمَّد قائداً لهذه الحركة، وفق الأفكار الدّينيّة في الجزيرة العَرَبِيّة آنذاك، إضافةً إلى ذلك سِياسِيَّاً ونفعياً.

إنَّ طبعه المندفع، المقترن بكفاية سِيَاسيِّة نادرةٍ لرجل دولةٍ ومرشد للقوم، جعلت من مُحَمَّد نفعيّاً متفوقاً، مفعماً بثقة شديدة بالذَّاتِ، مكنته من أن يقذف بنفسه بدون تبصر مع خِفة نحو المغامرة حيث ورط أولئك الّذين تبعوه، وقد أثملتهم وأغوتهم أخلاقيّة المعلم العليا. Annali I205 /7.

وبدوره كان لدى الباحث د. س. هـ . بِكِر هذه النظرة، الّذي كان أحياناً محرراً لـ (Der Islam )، كتب في مُؤلَّفِهِ "الإِسْلاَم و المسِّيحيّة" (لندن، 1909، ص 29):

إنّ المسلمين المتعصبين لحروب الفتح، الّذين كان صيتهم ذائعاً وسط الأجيال المتأخرة، آمنوا وإنْ بقليلْ من الاهتمام بالدِّين، وأظهروا في بعض الأحيان تجاهلاً للمعتقدات الأساسيّة الّتي بالكاد يسعنا المغالاة بها. والحقيقة مُؤلَّفَةٌ كاملاً من الدوافع الّتي كانت تدفع الهجرات العَرَبِيّة. فهذه الدوافع كانت اقْتِصَادِيّةً، والدّين الجديد لم يكن أكثر من مطلب جماعة لتوحيد القوّة، بالرَّغم من أنه ليس من سبب للافتراض بأنَّ لا قوة أخلاق حقيقيّة في حياة مُحَمَّدٍ ومعاصريه المباشرين.

تطورٌ مثيرٌ للاهتمام ضمن هذا الجزء هو نظريّة البروفيسور أوبِرت غريم. حيث أصدر هذا المؤلِّفُ كتابَيْن حول مُحَمَّدٍ. أولهما "مُحَمَّد" (ميونستِر، 1892) ساعياً فيه إلى تفسير تطور الإِسْلاَم بوصفه ظاهرةً اشتراكيَّةً. فبعد أنْ درس ورفض نظرية شبرِنغِر بأنّ الحنيفيّة مصدرُ الإِسْلاَمِ الأصليِّ، أشار إلى أنّ الإِسْلاَمَ يمكن أن يُفسر ببساطة بوصفه اشتراكيّاً أكثر منه منظومة دينيَّة.

إنَّ الشروط الّتي اعتدنا على رؤية الحركات الاشتراكيَّة تظهر فيها في التَّاريخ، كانت في مَكَّةَ إِبَّان حياةِ مُحَمَّد. إذْ كانت شروط المعارضة داخل الهيئة الاِجْتِمَاعيّة قد أينعت إلى النقطة الّتي صارت فيها القطيعة وشيكةً. حيث طبقة غنيّة تملك كلَّ القُوّة بيديها، تتسيّد على طبقة كبيرة من المُعْوِزِين الّذين يعانون من ضغط الربا العديم الرحمة. ضد الطّبقة الأولى اندفع القُرْآنُ في اتهاماته المحقة بغزارة، فيما يتعلّق بأموالهم، وبصدد المُطَفِّفين الّذين يُخسرون النّاس أوزانهم ومكايِيْلَهم. تبذيرهم الأحمق للثّروة من جهة، والتّراكم المستمر بشكل حريص من جهة أخرى، وأخيراً عدم رضاهم، على الرَّغم من الوَفْرَةِ. وفي الجانب الآخر، كان الشاهد مؤلماً كيف أنه رُفض تقديم الصدقات إلى المساكين، والسَّائلين، وكيف يُحرم اليتامى من الميراث، والعبيد يناضلون عبثاً للحرية و الانْعِتاق. ومن أجل وضع نهاية لهذه الظروف المعادية، تحت ظل العدالة التكافليّة، قام مُحَمَّدٌ، الّذي كان قد اختبر بنفسه قسوة حرمان اليتامى الفقراء في أيام نشأته ـ مع أنّه صار لاحقاً من الطّبقة ذات الأملاك ـ بوضع تشريع صارم يوجب على كلِّ فردٍ دفع مقدار معلوم لدعم المَحْرُومِين. وبهذه الطريقة فإنَّ المساواة ستتأسَّس سلميّاً، باختلاف كليٍّ عن جميع المساعي الاشتراكيّة للأزمنة القديمة، التي تُجلي ميلاً قويّاً للتحوّلات القسريّة في العلاقات الاِجْتِمَاعيّة.

بالكاد وجدت هذه الأطروحة الجريئة قبولاً، ولدى ظهورها تعرَّضت لنقد لاذعٍ من قبل سنوك هورغرونيه [8]، الّذي لاحظ كِلاً من عدم صحة عمل غريم، الّذي يظهر محدوديات علمه؛ وكذلك عدم يقينيّة الأُسس الّتي بنى عليها نظريته.

للأسف فإنّ البروفيسور غريم ذو سمعة بالنّظريات الجامحة، كما تشهد عليه مطابقته الجديدة لبعض علامات الأجواء على الأحجار ـ كما وصفها بيتري ـ في سيناء، بوصفها خطَ يدٍ لموسى بالذات، وحتّى لو كانت نظريته تملك قاعدةً سليمةً، فإنَّ من المستبعد أنْ يكون الدَّافع الاشتراكيُّ قادراً على تفسير كلَّ الوقائع المأخوذة بعين الدَّرسِ.

النَّقدُ المُتَّقدِّمُ

لقد واتتنا الفرصة آنفاً لملاحظة أنّه إلى جانب القُرْآن و"سِيَر" ابن إسحاق و ابن هشام، وآخرين غيرهما، لدينا مصدر مهم آخر لحياة مُحَمَّدٍ ألا وهو الأحاديث. ففي الواقع وجدنا أن "السِيَرَ" المُبكّرة مُؤسَّسَةٌ بشكلٍ كبيرٍ على الحديث، وفي الفترة ما بين فايل إلى موير تتابع الكتّاب الأوربيّون على فرضيّة أنه لو تمَّ تمحيص كميّة معيّنة منها، فإنّه يمكن التوثّق من مجموعة مُعتبرة من الأحاديث الصّحيحة لغايات السِيِرَة. والدّفْعَة الأوليّة لهذه الفرضيّة جاءت من إيغناتس غولدتسيهر في عمله  Muhammedanische Studien  (هاله، 1889، 1890) ـ . وحتّى بعد التّمحيص الدقيق نجد أنَّ أقدم الأحاديث تعود بنا القَهْقَرى إلى القرن الأوّل الهجريّ، وأغلب هذه الأحاديث ضعيفة، و تلونت بالتحيّز الثيوقراطيِّ، وهي مختلطة بالمادة الأسطوريّة، ومحرّفة من أجل مصالح أُسرٍ محددة و أحزاب سياسيَّة.

لقد كان من المعتقد أنَّ النًّقد الدقيق مازال ناجحاً في إيجاد بعض الأُسس الأكيدة، لكنَّ تطوير عمل غولدتسيهِر على يد كايتاني وهنري لامنس بدأ بإجبارنا على الوصول إلى النتيجة التّالية:

حتّى المعطيات الّتي اعتبرنــاه عموماً موضوعيّةً تقريبــاً، تتكئ بشــكلٍ رئيس على الرِّواية المتحيّزة. إنّ الأجيـــال الّتي عملت على ترجمة حياة النَّبِيّ كانت قصيّةً عن زمنه كي تملك المعطيات أو الأفكار الصّادقة؛ وعلاوة على ذلك، فإنّه لم يكن نصب أعينهم هدف معرفة الماضي كما كان، بل بناء صورة له كما يجب أنْ يكون، حسب آرائهم. لقد قــام رواة الأحاديث برسم لوحات لآيــات القُرْآن التي تحتاج إلى شرح، بحيث توافق رغباتهم أو مُثُلُهم العليــا، ولجماعاتهم الخاصّة، أو حسب مجاز لامِنس المفضّل، يملئون المساحات الخاليــة من خلال سيرورة القولبة التي تســمح للملاحظ النَّقديِّ بتبيان أصل كلِّ صورة. ( Hurgronje, "Muhammadanism," pp. 23, 24 ) .

كنا قد أشرنا سابقاً إلى عمل كايتاني. أما لامنس فإنَّه لم يقدم لنا بعد "سِيرَةً نبويّةً" خاصة به، والتي ستبدو فتحاً لدى ظهورها. لقد أرضى نفسه لحدٍ بعيدٍ بإصدار عدد من الدِّراسات الأوّليّة، الّتي أطلق عليها "دراسات في السِّيرَةِ"، أسّس منهجه، محصّ مادته، وإذا جاز التعبير، مهدّ الأرض التّي يجب أنْ يُبني عليها. يكتب: "إنَّ منهجنا سيكون بحثا أحاديا monographic  أكثر من سِيَري. إنَّ الكلَّ ـ لو شـاهدنا قط نهايته ـ سـوف يشكّل ترجمة جديدة لحياة مُحَمَّدٍ" [9]. و لعلّ خير مقدمة إلى عمله هـو مقاله "القُرْآن والحديث: كيف أُلِّفت سيرة مُحَمَّد" [10] (باريس، 1910)، حيث بيّن أن الأحاديث هي مجرد توسعات بعضها فوق بعض لجملة عبارات وكلمات في القُرْآن و ليس لها مستند مستقل، وبالطبع، لا يمكن استعمالها كمصادر مستقلّة من أجل غايات السيرة. وفي سنة 1911 ظهرت في المجلة الأسيويّة دراسـة إضافيّة "عَصْرُ مُحَـمَّدٍ و التسلسل التَّاريِخيّ للسِّـيرَة" [11]، وفي السـَّنة التّالية الدِّراسـة المهمّة Fatima et les Filles de Mahomet (روما، 1912). حيث يعالج في هذا العمل أسطورة فاطمةَ في الكتابات الإِسْلاَميّة، ويظهر فيه بالتفصيل كيف أنه تطورت هذه السِّيرَة المفصّلة لفاطمة جرّاء تفشي الصراعات، والمحاسدة، والتناحر بين مذاهب الإِسْلاَمِ الأولى، الّتي هي خليط من العناصر المتنافرة التي أغلبها محرّف ومتضارب لحدٍ كبيرٍ. بيد أنّ هذا مجرّد حجر تمهيد للاستنتاج التّالي:

إنّ المنهج عينه، والمبادئ المتماثلة تحكم التّفصيل الدّنيويّ للسِّيرَة. فحول النّواة، الّتي يوفرها تفسير القُرْآنِ، نُسجت النّظريّات السِّياسيِّة المتنافرة، متراكبة بالأحلام الثيوقراطيّة، وأفكار مدارس اللاّهوت والفقه، مع نزعات الدّوائر الزّهديّة ومطامح الصُّوفيّة.

إذاً، كما يلاحظ غولدتسيهِر [12]: "بأنَّ ما أثّر على المشاعر الدِينيِّة ليس الصورة التَّاريِخيّة. بل اُستبدل في مكانها الأسطورة التَّقيِّة، مع مثالها بصدد مُحَمَّد."

إنّ الدّراسات الإضافيّة المهمة لـ لامِنس هي: "هل كان مُحَمَّد صادقاً؟" [13] (باريس، 1914)؛ و"الجمهورية التّجاريّة لمَكًّةً حوالي السّنة 600 ميلادي" [14] ( لإسكندرية، 1910؛ "الحُكْمُ الثّلاثيّ لأبي بَكْرٍ، وعُمَرَ وأبي عُبيدةَ " [15] (بيروت، 1909)؛ "الخليفة يزيد الأوّل" [16] (بيروت، 1921)؛ و"مدينـة الطّائف العَرَبِيـّة" [17] (بيـروت، 1922). على الدّارس أنْ يراجع مقال دكتور بِكِر بصدد Prinzipielles zu Lammens' Sirastudien  في (Der Islam ) المجلد الرابع، ص 263 ـ 69 .

إنّ السِّمة الغالبة في النّقدِ المتقدّم هي "العودة للقُرْآن". كون الأساس من أجل سيرة نقديّة في الأحاديث عديم القيمة عمليّاً [18]؛ ففي القُرْآن فحسب بوسعنا القول إنّنا نحوز على أرضيّة صلبة تحت أقدامنا. كما وضعها سنوك هورغرونيه، الّذي خطا بالنّقدِ المتقدّم هذا [19]:

بينما يمكن أنْ تكون آخر الأحكام هنا وهناك الّتي فحصت الأحاديث الإِسْلاَمية بكثيرٍ من الشّك والارتياب صحيحةً؛ فإنّه بغض النّظر عن ذلك يبقى مؤكداً على ضوء بحثهم، إنَّ منهج الفحص لا يمكن أنْ يبقى بدون تغيير. ويتأتى علينا السعي إلى جعل شروحنا للقُرْآن مستقلةً عن الأحاديث، وإذْ كان ذلك مستحيلاً فيما يتعلّق بأجزاءٍ، فإنّه يتوجب علينا الشّك في الشّروح، مهما كانت مقبولةً.

إذا ما كان القُرْآنُ مصدرنا الرئيس، فإنَّ الإشكالية التّالية هي التحقق كم ثابتة هي الأرضيّة الّتي يوفرها. لقد كان من المعتقد بأنّنا هنا في مأمن على الأقل، بيد أنَّ الأعمال المتأخرة مثل أعمال كازانوفا ومينانا، جعلت معتمديّة هذا المصدر محل شكٍ، لكنْ هذه مسألة كبيرة للغاية من أجل تناولها في الوقت الرّاهن.

المِيثُولُوجِي

لقد لاحظنا كيف أنَّه تمَّ استبدال صورة مُحَمَّدٍ التَّاريِخيِّة بالصّورة المثاليّة والأسطوريّة. وبالإمكان رؤية عينات من هذه الصّورِ المبالغة في مُحَمَّدٍ في "حياة القلوب" (ترجمة مِرريك، بوستن ، 1850)، وفي "بُردة الشيخ البُوصيِرِيِّ" [20]، (ترجمة ، باسِّت، مع التعليق، باريس، 1894). ومن المثير ملاحظة أنّ التأثير المسِّيحيّ كان في أساس هذا التّطور الأسطوريّ [21]، وكان من الطبيعي أن يسعى الدارسون لاقتفاء أثر سيرورة تطور هذه الصورة، وهي التي تعرفها غالبية العظمى من المسلمين اليوم. يعطي كويل في القسم الثّاني من مؤلَّفِه، "مُحَمَّدٌ و المُحَمَّدية" (لندن ، 1889)، رواية مبسّطة للخطوط الأساسيّة في تطور الأسطورة، لكن من أجل دراسة نقديّة لهذه الإشكاليّة على الدّارس أنْ يبدأ بمقال ميتز:

  Die Geschichte der Wunder Muhammeds  في Verhandlungen لمؤتمر الثاني حول تاريخ الدين (بازِل، 1905)،

ومقال هوروفيتس:  Zur Muhammadlegende  في Der Islam المجلد الرابع.

وعلى أيّ حال فإنّ العمل العظيم فيما يتعلق بهذا الجانب للموضوع، هو لـ "تور أندراي":

  Die Person Muhammads in Lehre und Glauben Seiner Gemeinde  ستوكهولم، 1918

إنّ خطوطاً أوليّة للمنهج مقدمة في مقاله:

 Die Legenden von der Berufung Muhammads في (العالم الشّرقيّ، المجلّد السّادس)، لكنّه أَنجز في كتابٍ أوسع تفصيلاً تطوّ‍ر وتشعّب النَّبِيّ ـ الأسطورة، وأظهر تناظراته بمفاهيم الرّجل الإلهيّ للمعتقد الدّينيِّ الزارادشتيِّ و الهيلينيِّ.

السِّيَرُ الآخرَوِيَّة

لقد أُشير مرراً بأنّ للصيغ الآخروية في القُرْآن نصيباً مهيمناً. فلا يمكن قراءة صفحات عدة دون مصادفة بعض الإشارات إلى نعيم المؤمنين المقبل في الجنّة أو عذاب الكافرين في الجحيم، أو وعيد اللّه بحساب عسير للكافرين. والأمر قد يبدو وَسْوَاسَاً لمُحَمَّد. ويشير الدكتور ماكدونالد:

إنّ المفهوم الّذي كان ينتاب مُحَمَّداً، بأنَّ ثمّة يومَ قيامةٍ قادماً حيث سيُحاسب الجميع، وأنَّ اللَّهَ هو الحاكم والدّيّان في يوم الحسابِ هذا. وأنّ قليلاً من سينجو.

آنذاك كان شعور الكارثة غامراً لدى مُحَمَّدٍ. إنّ العالم الخفيّ، الشيء المَهُوْل الّذي يثوي خلف هذا العالم الّذي نراقبه، الّذي يسبِّبه و يعمل من خلاله، كان قريباً بشكلٍ مرعبٍ. وعند كلِّ منعطفٍ كان يشعر بما صِيغ بشكلٍ جيدٍ "إحساساً بالغضب القادم". ( Aspects, pp. 70, 62 ) .

وقد رأى بعضُ الكتّاب المعاصرين، مثلاً، كازانوفا وهوروفيتس، أنّ ذلك هو مفتاح إشكاليّة شخصيّة مُحَمَّدٍ. وإنْ لم يتمّ فعلياً كتابة سِيرةٍ مُحَمَّدٍ على أساس هذه النَّظرة، بيد أنّها طُبقت للهجوم على إشكالات فرديّة كثيرة، وبالأخص تلك التي تنهض في محاولات التفسير القُرْآني. وقد تعزز الموقف بدراسة كازانوفا Mohammed et la Fin du Monde (باريس، 1911 ـ 1921). حيث يدّعي أنّ سرَّ رسالة مُحَمَّدٍ ثاويٌ في الحقيقة أنَّ مذهبه الأساسيِّ كان بأنّ "الأوقات الّتي أعلن دانيال ويسوع عنها قد أَزِفت: لقد كان مُحَمَّد آخر نبيٍّ اختاره اللّهُ لكي يرأس سويةً مع المسيح الّذي سيعود إلى الأرض لهذه الغاية لدى نهاية العالم والحساب الأخير (م ن، ص 8). لقد كان يؤمن بثبات و يعلّم بأنّ مجيئه، و نهاية العالم مرتبطان سببياً وأنه يجب أنْ يشهد الدَّمار النّهائيّ قَبْل موتِه. وعندما كان شبح الموت يطوف به، وحينما كان يشعر بأنَّ سنيه تمضي، كان يستبدُّ به همٌّ شديدٌ، ومن المعروف كذلك أنَّ أَدْنَى أتباعه آصرةً رفض في البدء تصديق نبأ موته. ويعتقد كازانوفا أنَّ بعض الظواهر الغريبة في القُرْآن يمكن شرحها بالحقيقة أنّه كان يتوجب إعادة تحرير الوَحْيِ بما ينسجم مع واقعة موته، وأنّ أشياءً كثيرة في التّطور الإِسْلاَميِّ المبكّرِ لاهوتيّاً ومن نواحٍ أخرى تعود إلى عين هذه النّقطة.

السِّيَرُ التّبريريّةُ

كنا قد أشرنا بأنّه في وقتٍ مبكّرٍ جداً من تجدد الاهتمام بالدِّراسات الشّرقيّة، كتب بولينفييه رواية أجمل فيها ذكر مُحَمَّدٍ، و التي استعملها غيبون لاحقاً. لم يكن عمله مرتكزاً على أيِّ دراسة دقيقة للمصادر الأولى، وهذا ينطبق على عملَيْن تقريظِيَيْن شـهيرَيْن، ونخصُّ بالذّكر منهما عمل كارليل، في دراسـته "البطلُ نبيّاً"، في "الأبطال و عبادة البطل"، وعمل بوسورث سميث، "مُحَمَّدٌ و المُحَمَّديّة" (لندن، 1873، الطبعة الثّالثة، منقّحة ومَزِيدة، 1889). لقد طُبع مقال كارليل مجدداً، ونشرته المدارس الإِسْلاَميّة في الهند على نطاق واسعٍ، بوصفه يمثل أفضل رؤية إنجليزيّة حول مُحَمَّدٍ، لكنّهم تغاضوا عن ذكر أنَّ كارليل استرد بالأخص كلَّ كلماته الجميلة في المقال من "البطل شاعراً" .[22]

لقد كان من المتوقع أنْ يكون أئمة المدرسة الحديثة في الإِسْلاَم ذوي التّعليم الإنجليزي، مجتهدين من أجل تقديم هذه المنافحات. لقد كتب كِلا الرئيسين من مدرسة أليغاره في الهند سيرةً تبريريّةً مستمدةً من وجهة نظر محددة. حيث نجدها لدى سيد أحمد خان في "مقالات بصدد حياة مُحَمَّدٍ ومواضيع إضافيّة أيضاً" (أليغاره، 1870)، وسيد أمير علي في عمله "حياة وتعاليم مُحَمَّدٍ"، والّذي صدر لأوّل مرة سنة 1873، ولاحقاً كجزء أول في مُؤلَّفِهِ "روح الإِسْلاَم" (الطبعة الأخيرة، لندن، 1923). إنَّ حُكْمَ مارغوليوث بصدد هذه المدرسة وُجه بنباهة خاصة نحو عمل أمير علي:

يسعى هؤلاء المدافعون إلى رفض سيرة ابن إسحاق حيثما تصدم القراء الأوربيين، وحينما لا يكون ذلك سهلاً؛ فإنّهم يقترحون دوافع نبيلة، أو يفترضون أنّ المسار الّذي اتبعه النَّبِيّ كان من أجل أنْ يصبح أقلَّ بغضاً لأولئك الّذين ينفتحون نحوه أحياناً. وعلى هذا النحو يُعلن بأنَّ تسامحه في مسألة تعدّد الزوجات كونه تقييداً مقروناً بالكبت الأقصى، واعتبر موقفه من العبوديّة تمهيداً يقود بالمثل إلى تحريرهم. بل إنه سـعى إلى ضرب مثلٍ على الزَّواج الأحاديِّ، ومع أنَّ النتيجة لم تكن مقنعةً، إلاّ أنَّ البراعة التي تطلبت من أجل ذاك كانت عظيمة للغاية. (Encyclopedia of Religion and Ethics, volume 8, p. 878 )

وبالإمكان إيجاد مثال على محاولة صادرة من مدرسة مختلفة في عمل م. هـ . كيداوي "معجزة مُحَمَّدٍ، مسبوقة بخطوط عامة لسيرَة مُحَمَّدٍ" (لندن، 1906)؛ لكنّ الأكثر تشويقاً هو العمل الأخير لمجموعة حداثيّة أُخرى، في المجلّد الفاخر الصادر عن نادي باريس للكتاب مخصوص لألف مجموعة، 125 من الرق اليابانيّ الإمبراطوريّ بسعر 18 جنيهاً للنسخة، و 875 من ورق يدوي بسعر 8 جنيهات للنسـخة. وهذا هو كتاب رباعي ضخم بخمس و ثلاثين صورة ملونة وتزيينات زخرفيّة عديدة، ومعنون "حياةُ مُحَمَّدً ـ نبيِّ اللّهِ" (باريس، 1920). وهو عمل مشترك للفنان الفرنسي إ. دينه وسليمان بن إبراهيم، ويقصد به مناهضة ترجمات حياة مُحَمَّدٍ الافترائيّة والقدحيّة التي ظهرت في الأقطار الأوربية خلال مجرى القرون. وقد أصدر المُؤلِّفانِ نفسـاهما كرّاسـةً بعنوان  L'Orient vu de l'Occident  (باريس، 1921)، يطلقان العنان فيه لنقدٍ قويٍّ بيدا أنه مسالمٍ لأعمال لامِنس، كازانوفا، هورغرونيه، وباحثين آخرين من مدرسة النَّقدِ المتقدّمِ.

الصُّوفيِّةُ

لدينا محاولة أكثر تأخراً تهدف إلى إعداد مبدأ جديدٍ لتفسير حياة مُحَمَّدٍ هي للبروفيسور ج. سي. أرشر في دراسـته العلميّة المطبوعة في سلسلة ييل الشـَّرقيّة، والمعنونة "العناصر الصُّوفيّة لَدُن مُحَمَّدٍ" (هافِن الجديدة، 1924). لقد شرع الكاتب بنقدٍ قويٍّ للنّظريّةِ البَاثُولُوجِيّةِ، وبينا أقرَّ بأنّه يمكن أنْ يكون هنــاك عناصر بَاثُولُوجِيّة في حياته، فإنّه شدّد على أنّ الأمر الجوهريّ في تجربته هو أنّه كان صُوفيّاً، ولهذا فإنّ كتابه كان للبرهنة على أنَّ "مُحَمَّداً الصوفي هو شخصيّة أعظم مما كنا نحلم." وزعم أنّ "مُحَمَّداً كان صُوفيّاً بالمعنى التّقنيِّ، وأنَّ ذلك، ليس في الموقف العقليِّ فحسب، بل في الممارســة العمليّة". لكنْ حينما ننظر إلى عرضه المذهل، فإنّ كلَّ ما نجده هو تأويل مصفى لنصوص قُرْآنيّة قليلةٍ، وأغلبها لسوء الحظِّ محل شكٍ، والنّظريّة القائمةُ على أسـاس غيرِ وطيدٍ القائلة بتأثير الزُّهاد المسِّيحيّين في حيــاة مُحَمَّدٍ المبكّرة. والنّظريّة مبنيّة تقريباً بالكامل على القُرْآن، وقد اضطر البحث الحديث إلى أنْ يُوضح بالتأكيد أنّه بالكاد يمكن الارتكاز على القُرْآن من أجل محاولات التّفســير النّفسيِّ. علاوة على ذلك وكما أشــار ماسينيون: "يمكننـا أنْ نؤكد بأنَّ بعض الآيــات الّتي لديها دلالة صُوفيّة بالنسبة لقراء محددين، لا يمكن أن تكون سوى اقتباس مبتذل بالنسبة لمُحَمَّد" [23]. (R.M.M., lix. 337)

إنّ محاضرات ريتشارد بِل أمام جامعة إدنبره، "أصلُ الإِسْلاَمِ في بيئته المسِّيحيّة" (لندن، 1926) هي آخر مسعى من أجل تزويدنا بوجهة نظر لتأويل حياة مُحَمَّدٍ وتعاليمه. إنَّ عمل بِل هو مجرد دراسة تمهيديّة؛ إذْ يعتمد كليّاً على القُرْآنِ، ولا يأخذ بعين الاعتبار الرّواية التقليديّة أو السِّيرة، ويرى أنّه بوسعنا من القُرْآن نفسه إيجاد المبادئ الرئيسة الّتي ستقودنا لاحقاً عبر متاهة الأحاديث. ويعتقد بِل بأنَّ الإشكاليّة تكمن في أنّه عشيّة مجيء مُحَمَّدٍ، أصبحت الأفكار الدينيّة الجديدة تتخلّل الجزيرة العَرَبِيّة، لحدٍ ما من جانب اليهود وبالأعم من قِبل المصادر المسِّيحيّة، التي أتت الجزيرة العَرَبِيّة من ثلاثة اتجاهات: نزولاً من سوريا إلى شمال غرب، من الرافدين إلى شمال شرق ومن الأعلى من الأحباش عبر جنوب الجزيرة العَرَبِيّة. وأحد براهين ذلك أنّ معظم المعجم الدّينيّ مستعارٌ إمّا من الأثيوبيّة أو السّريانيّة، وحتّى المصطلحات اليهوديّة، والمصطلحات الدّينيّة الفارسيّة الّتي جاءت من خلال السريانية. وعلى هذا النحو فإن: اللّه، القُرْآن، الفُرْقَان، صلوات، جهنّم، جنّة، فِرْدَوْس، زكاة، دين، الخ، كلّ تلك الكلمات من هذا المنشأ، والشّخصيات البارزة الّتي تتحرك على مسرح القُرْآن: إبراهيم، يونس، موسى، عيسى، إدريس كلها من مصدرٍ سريانيٍّ.

لقد كان مُحَمَّدٌ على اتصال مع عالم الأفكار الدّينيّة الجديد، بقدر ما تعرّبت قَبل زمانه، لكنّه اتصل لاحقاً بالمصادر اليهوديّة والمسِّيحيّة نفسها، ويدّعي بِل أنّ بإمكاننا رؤيته كيف كان يكتسب تدريجيّاً المعلومات أكثر فأكثر حول هذيْن الدينَيْن، وبالأخصّ حول المسِّيحيّة، ويطّور تعاليمه جنباً إلى جنب مع تزايد المعرفة. وعلى هذا النحو يمكننا أنْ نجد أنّ المفردات الدِّينيّة للسّور الأولى محددة بما يمكن أنْ يكون مستمداً من الشّعر المبكّر، والكلمات، التي تطبعت في العَرَبِيّة قبل مجيئه. ونجد في هذه الحقبة القليل عن الأنبياء أو طقوس الأديان العظمى. بعد ذلك صار يتعلّم ويستعمل المصطلحات الدينيّة الجديدة المُقتَرضة من المصادر المسِّيحيّة واليهوديّة، وشرع يتحدث عن الأنبياء. ومن الجلي أنّه لم يكن يعلم في ذلك الوقت بأنّ اليهود والمسِّيحيّين ليسوا على رؤية واحدة. وفيما بعد اكتشف ذلك وتغيّرت لغته بسرعة. وبالتالي لن يفسره بِل صوفيَّاً ولا مصاباً بالسَّكْتَة الدِّمَاغِيِّة، ولا حالةً بَاثُولُوجِيّة من أي نوع. نعم سياسيُّ، لكن من طبيعة دينيّة، الّذي كان يَشُقٌّ على نفسه غياب الدِّين لدى شعبه، وأعتقد أنَّ مهمته هي إعطاء العرب نظير الرسالة التي أعطاها الأنبياء للشعوب العظمية المحيطة.

بالتأكيد يوفر لنا هذا نقطةَ بدءٍ واعدةً، أفضل من أيّ واحدة اُقترحت حتّى الآن كي تنطبق على الحقائق البادية من القُرْآن، و يمكن أن يوفر لنا التطبيق المُوحى من جانب بِل مفتاحاً للعودة إلى بحثنا عن مُحَمَّدٍ التَّاريِخيّ، على الأقلِّ طالما بوسعنا أن نتوقع ذلك .

إنَّ النتيجة الّتي تتبدى لنا من استعراضنا القصير هي أنّه ما زال علينا الانتظار بعد من أجل القيام ببحث إضافيٍّ في المصادر الأولى، وإجراء نقاش أبعد وذلك للسّماح ببلورة رأي بحيث يتم وضع أُسس سليمة، قبل أن ينجز شيء كثير فيما يخص بناء السِّيرَة. ومن الجدير بالملاحظة، إنّ الباحثين الأكثر إطلاعاً على المصادر العَرَبِيّة قد اقتربوا أكثر من فهم حياة تلك المرحلة، باحثون أمثال مارغوليوث، هورغرونيه، لامِنس، كايتاني، وهم الأكثر حسماً تجاه دعاوي مُحَمَّد النّبويّة، ويتوجب الاعتراف بأنّه كلّما سار المرء أبعد في دراسته الخاصة للمصادر، كلّما صار صعباً عليه تفادي استنتاجات هؤلاء الباحثين.

حقوق النشر محفوظة للكاتب 2004 لا يسمح بإعادة نشر هذه المقالة أو جزء منها إلا بتصريح خطي من الكاتب مالك مسلماني. tammuzm@lycos.com

المراجع:

References

* The Muslim World, vol. 16: 327-48,1926

[1] Des Leban Mohammeds, 2 vols., Stuttgart, 1864.

[2] "Dans les écrits populaires, il s'y joint d'atroces calomnies, destinées à couvrir d'ignominie l'auteur du grand mal que la chrétienté voulait a'tout prix supprimer"

[3] Zwei Bücher gegen den Muhammedanismus.

[4] Vie de Mahomet, ou l'on découvre amplement la verité de l'imposture.

[5] "New Researches," p.20.

[6] Mohammadenism," p.42.

[7] Si fatto carattere impulsivo associato con esimie qualita politiche di uomo di stato e di pasiore di popoli rese Maometto uomo eminentemente opportunista, il quale animato da una cieca, immensa fiducia in se, si getto alla cieca nelle piu ardite imprese e si trascino appresso tutti i seguaci, inebbriati e sodotti dalla superiorita morale del Maestro.

[8] Revue de l'Histoire des Religions, volume 30, pp. 48 ff.

[9] Notre procédé,sera donc plus monographique que biographique. L'ensemble - si nous devons en voir la fin - formera une nouvelle Vie de Mahomet. ( "Le Berceau de l'Islam," p. vi).

[10] Koran et Tradition: comment fut composée la vie de Mahomet.

[11] L' Age de Mahomet et la Chronologie de la Sira.

[12] "Vorlesungen." p. 20.

[13] Mahomet fut il sincere?

[14] La République merchandise de la Mecque envers l'an 600 de notre ére.

[15] Le Triumvirat Abou Bakr, Omar et Abou Obaida.

[16] Le Califat de Yezid I.

[17] La cité arabe de Taif.

[18] Hurgronje, op cit, pp. 25, 26; Goldziher in "Kultur der Gegenwart" I. iiii, p. 100 seq; and ZDMG. 1907; Caetani, I, 197, Lammens, "Berceau, 17 p. vi; "Fatima", 97 p. 139; Nِldeke, ZDMG, vol. lii, WZKM, xxi, p.298

[19] "Mohammedanism," p.24.

[20] لإمام شرف الدين أبي عبد الله مُحَمَّد البُوصِيرِيُّ (1213 م ـ 1291 م): محدث وخطاط مصريّ. [م.]

[21] Becker "Christianity and Islam," p. 62.

[22] بمبادرة من المفكّر الرّاحل " هادي العلويّ " تمت ترجمة كراس (( البطلُ نبيّاً )) سنة 1996 على يد " سيناء مُحَمَّد الطّائي" الّتي كانت خريجة الأدب الإنجليزي لتوّها ، حيث صدرت عن " دار الكنوز الأدبيّة". وقد أراد "العلويّ" ـ حسب تقديمه للتّرجمة ـ تقديم مثالٍ للقارئ العَرَبِيّ ((للمقارنة مع سلمان رشدي ونظامه الإمبرياليّ وهو مثال يكرّس الفرقَ بين مجتمع الرَّأسماليّة الحرّة القائمة على المنافسة، حيث كتب كارليل، ومجتمع الرَّأسماليّة الاحتكاريّة الّتي تحوّلت مع زوال الغريم الاشتراكيّ إلى رأسماليّةٍ متوحشةٍ حيث يكتب سلمان رشدي)). والجدير ذكره أنَّ كارليل يعتبر القُرْآن ضعيفاً ويحكم عليه بأنَّه الكتاب الأكثر إثارة للضجر في العالم. [م.]

[23] on peut affirmer que plusieurs des versets qui ont une portée mystique pour certains lecteurs, ont pu n'avoir pour Muhammad que l'academisme d'une citation

=============================================================

 

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط