هشام محمد / Mar 25, 2004

يصف الدكتور تركي الحمد في كتابه الموسوم "السياسة بين الحلال والحرام: "أنتم أعلم بأمور دنياكم"[1] الأصواتَ التي تبشر من حين لآخر بسقوط الحضارة الغربية بتجلياتها القيمية والأيدلوجية، بأنها إفراز لفكر رغبوي يؤطر طروحاتها التي لا تسندها رؤى موضوعية وتاريخية بقدر ما تعبر عن تمنيات بائسة بزوال هذا الغرب المتفوق وغير القابل للأفول على الأقل في المدى المنظور. يمضي الكاتب في دحر هشاشة هذه التصورات الرغبوية اعتماداً على امتلاك الغرب لـ "خطاب مفتوح" ينطوي على آليات تتيح له التكيف مع المتغيرات والقدرة على نقد ذاته بمنأى عن التعصب والإدعاء المفرط بامتلاك الحقيقة الأزلية، وهذا على الأقل ما يفسر بقاء الغرب واحتفاظه بالأسبقية الحضارية في وقت انهار المعسكر الاشتراكي ذو "الخطاب المغلق" والذي فشل في التأقلم مع الأزمات والمعطيات الجديدة فكانت النتيجة السقوط المدوي. 

بالرغم من إيماني بما انتهى إليه المفكر تركي الحمد إلا أني أرى أن التاريخ يحتفظ لنا بثمة أيدلوجيات وفلسفات مازالت متشبثة بالبقاء بغض النظر عما يختبئ  تحت جلدها من بذور الفناء الداخلي.  فالحركة الوهابية كنموذج ساطع للأيدلوجية الدينية المنغلقة كرست نفسها للأسف كممثل ووريث للحضارة الإسلامية خلال الأربع العقود الأخيرة، خاصة بعد إخفاق التجارب الليبرالية والقومية العربية الممسوخة، بالرغم من أنها ـ أي الوهابية ـ لا تمثل اغراء للغير باعتناقها لانكفائها على ذاتها، واجترارها الرتيب للنصوص التراثية، وتعاطيها الطفولي مع قضايا العصر ومستجداته بعقلية ساذجة غارقة حتى النخاع في الماضي البعيد. 

قد يقول قائل أن الوقت مازال مبكرا للحكم على قدرة الوهابية في الاستمرار وأن قوانين التاريخ ستسقط تلك الأيدلوجيات المنغلقة.  غير أني أميل إلى الاعتقاد أن الوهابية (نسبة إلى محمد بن عبد الوهاب) ما هي إلا نسخة شبه مكررة للمذهب الحنبلي (نسبة إلى أحمد بن حنبل) وقد أعيدت طباعته بعد انقضاء ما يربو على ألف عام تفصل بين الرجلين.  وهذا التصور ينسجم شكلاً لا مضموناً مع مغالطات الوهابيين بأنه لا يوجد ما يسمى بالوهابية ولكنها حركة (تجديدية!)  أعادت الإسلام إلى سياقه التاريخي وينابيعه العذبة الأولى.  سأفرد السطور التالية لاستجلاء بعض من الملامح والقسمات المشتركة بين الحنابلة في العراق خلال القرنين الثالث والرابع الهجري والوهابيين في السعودية خلال القرن الهجري الخامس عشر، وهذا ليس بمستغرب مادام أن الاثنين يتّكآن على النقل مقابل العقل، والحديث مقابل الرأي، والظاهر مقابل الباطن.

1 ـ التأكيد المستمر على عظم وأصالة مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كواجب عضوي يلتزم بتطبيقه كل مسلم في ظل تمييع واضح لمفاهيم وضوابط وآليات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الأمر الذي تسبب في تفجير الكثير من المصادمات مع الأفراد والعامة.  يورد رشيد الخيون في كتابه القيم "الأديان والمذاهب بالعراق"[2] في معرض حديثه عن المذهب الحنبلي بعض من الممارسات الغوغائية التي طالما افتعلها الحنابلة اللذين قويت شوكتهم مع الخليفة المتوكل ـ الذي ويا للعجب اشتهر بإغلاقه لباب الاجتهاد وبغروب العصر العباسي الأول الذهبي ـ لقد زاد شغب الحنابلة وتدخلهم السافر في أدق الشؤون بذريعة الحفاظ على الأخلاق العامة، فكانوا ـ على سبيل المثال ـ  يهاجمون المواخير (بيوت الدعارة) ويحطمون الآلات الموسيقية، ويتحرشون بالجواري، ويتحققون من نوع العلاقة بين كل امرأة ورجل يسيران معاً في الأزقة، فضلاً عن مهاجمة مجالس الفكر والفلسفة، والتضييق على المثقفين وأصحاب الرأي، كما فعلوا تماماً بالمؤرخ ابن جرير الطبري.
تنهض تلك الممارسات اللاإنسانية من الأجداث بعد مرور ألف عام لتمور في شوارع الرياض وجده والخبر وبريده وأبها ناشرة الرعب والخوف.  تعود هذه المرة لا كممارسة تطوعية بل في صورة جهاز حكومي يمتلك ميزانية مالية ضخمة تخصص لدفع رواتب الكوادر البشرية، وشراء أحدث السيارات، وأجهزة الاتصالات الحديثة، واستئجار المراكز المتكاثرة كالخلايا السرطانية في أوردة وشرايين الأحياء السكنية.  يعود مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في صيغة وهابية قميئة وخشنة لا تتورع في مداهمة المطاعم والمقاهي للتأكد من هوية كل شاب وشابة ولطرد كل امرأة تتجرأ للذهاب بدون محرم، ولا تكف عن مشط الأسواق بلا كلل ولا ملل لمطاردة النساء
اللواتي لا يتقيدن (بالإسلام الوهابي) الذي يحرم كشف الوجه ولبس عباءة على الكتفين، ولا تخجل من ضرب العمالة الأجنبية واقتيادها بالقوة أوقات الصلوات، ولا تمل من طي الشوارع آمرة الناس عبر مكبرات الصوت باللحاق بالصلاة وإقفال المحال التجارية.
 
2 ـ التضييق على أصحاب المذاهب الأخرى وتكفيرهم في صورة تنم عن كره وعداء لمن لا يوافق هواهم.  فالحنابلة كفروا حينها الجهمية لقولهم بخلق القرآن ونفي الصفات، وكفروا المعتزلة للسبب نفسه ونفي القدر، وكفروا الشيعة لتفضيلهم علي وسبهم للصحابة، وخاصموا الشافعية التي خرج من رحمها المذهب الحنبلي، وتصادموا مرارا بالأشاعرة.  إن أحمد ابن حنبل لا يجد بأساً في سبيل قمع المذاهب الأخرى والاستفراد بالإسلام أن يتخذ موقفا براغماتيا من خلال تقديمه النصح للخليفة المتوكل بالا يستعين بأهل الأهواء (يقصد المذاهب الأخرى!) وأن يستعيض بدلاً عنهم إن لزم الأمر باليهود والنصارى.
تلك النظرة التحقيرية لكافة المذاهب تلقفها الوهابيون اللذين لم يكفوا منذ ظهورهم على التحرش المادي والمعنوي بأصحاب المذاهب الأخرى.  فمازالت ذاكرة التاريخ طرية بأحداث نجران التي استهدفت الإسماعيلية قبل ثلاثة أعوام وبمذابح الشيعة في أوائل الثمانينات دون أن نغفل الهجمات الوحشية لجيش الأخوان الوهابي أيام الملك عبد العزيز ضد (الكفرة!) في العراق والحجاز.  غير أن المشكلة الأصلية تتجسد في أساليب التعليم والتثقيف المتبعة والتي لا تكف عن مبادلة العداء للغير وعن غسيل أدمغة أجيال مختطفة بالكامل إلا من رحم ربي.  اقرأ معي ما كتبه اثنان من الوهابية في كتابهما "الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة: سلسلة دروس في العقيدة
ـ 1ـ [3] 

ـ "الصنف الثاني: المنتمون للإسلام، وهم على شيء من الانحراف والظلال، أو على الكفر، أو على الجهل وهم مع الأسف كثير ممن يدعي الإسلام من الصوفية، والرافضة، والباطنية: الإسماعيلية، والنصيرية، والمقابرين.."
ـ "ألقاب الإسماعيلية: يلقبون بالسبعية، والملحدة... وهم يحاولون هدم كل النصوص التي قام عليها الإسلام... أسس هذا المذهب جماعة من المجوس حين رأوا قوة الإسلام لا تقهر، وعزة المسلمين  فتية لا تغلب، فامتلأت قلوبهم بالحقد على الإسلام والمسلمين.."
ـ "كشف علماء المسلمين أن حقيقة معتقدهم (يقصد الإسماعيلية) الدعوة إلى الإلحاد وإنكار الله سبحانه وتعالى، الكفر بالنبوات والدعوة إلى إبطال الشرائع، إنكار البعث والحساب والجزاء.."   

تلك الطروحات الفكرية الإقصائية والانتقائية تحتل حيزاً هائلاً في بنية الثقافة الدينية السعودية، في الوقت الذي يضيق الخناق على الرؤى العصرانية المعتدلة ويحارب أصحابها بلا هوادة.  ولا يبدو أن في الأفق  ثمة محاولات جادة للتخفيف من النغمة التكفيرية التي تغلف كتابات الوهابيين والتي تتكدس على رفوف المكتبات وتتسلل سمومها بهدوء مميت إلى عقول الكبار والصغار معاً مادام أن هؤلاء ـ أي الكتّاب ـ لم يتورطوا في شرعنة ومناصرة الحركات الإرهابية ضد الدولة السعودية.  وهنا ينفتح سؤال عن فعالية الخطوات الحكومية الأخيرة للتقريب بين الطوائف الدينية والتي اكتفت بترميم الواجهة الخارجية والمقاربة بين رموز التيارات المختلفة بينما تركت الساحة شاغرة لكثير من الموتورين يصوبون سهام التكفير في كل الاتجاهات الأربعة ويتواطئون على أدلجة فئات المجتمع وتعبئتهم ضد الغير.
(للبحث تتمة)
******************
[1]  تركي  الحمد، السياسة بين الحلال والحرام: أنتم أعلم بأمور دنياكم، بيروت، دار الساقي، 2001، ص91- 100
[2]  رشيد الخيون، الأديان والذاهب بالعراق، كولون، منشورات الجمل، 2003، ص 389- 419
[3]  ناصر القفاري وناصر العقل، الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة: سلسلة دروس في العقيدة (1)، الرياض، دار الصميعي للنشر والتوزيع، 1992، ص 12، 126، 128 

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط