بسام درويش / Feb 06, 2005

حتى شهور قليلة مضت، كان هناك اعتقاد سائد عن العقيد معمر القذافي، بأنه رجل مغرور بنفسه وصاحب نظرياتٍ وقراراتٍ مجنونة؛ وقد عُرفَ عنه هذا الأمر حتى أنّ الرئيس الراحل أنور السادات، لم يتأخّر عن وصفه مراراً بأنه "ولد ليبيا المجنون". وعلى الرغم من كل التصرفات الغريبة للقذافي التي تؤهله لأن يكون موضع دراسة مخبرية، فإنه قد أثبت مؤخراً أن غروره وجنونه لم يصلا به حد الغرق. فبغض النظر عن كل تصريحاته المعدّة للاستهلاك المحلي التي لا زال يطلقها بين الحين والآخر، فإنه ليبدو واضحاً، أنّ الرجل قد استوعب تماماً درس العراق، فعرف حدّه ووقف عنده كما يقول المثل! وبذلك، جنّب نظام حكمه من السقوط، ولا نقول "جنّب شعبه"، لأن مصلحة الشعب هي عادة آخر ما يخطر على فكر حكام الفرد. فعلى مدى ستة اشهر تقريباً، كانت اتصالات تجري مع القذافي لتشجيعه على القيام بما يتوجب عليه القيام به. وأخيراً، اتخذ قراراً "حكيماً" برضوخه لمطالب الولايات المتحدة مع حفظ ماء الوجه. لقد فاجأ العالم ـ أو على الأقل الناس البسطاء ـ بقراره التخلي عن البرنامج النووي وعن أي جهود لانتاج أسلحة الدمار الشامل. لا بل فاجأ العالم ـ وحقا كانت تلك هي المفاجأة ـ بمناشدته دول أخرى، وبالذات سوريا، لفعل الأمر نفسه!

 

وقف القذافي بعد ذلك أمام شعبه وقفة الرجل المنتصر، يوهمهم أنه اتخذ ذلك القرار لكي يجعل من ليبيا مثالاً لكل دول العالم للوصول إلى عالمٍ مطمئن خالٍ من الأسلحة الخطرة ومن شبح الحروب. ولقد ترك العالمُ وبالذات الولاياتُ المتحدة العقيدَ وشأنه، يقول ما يريد أن يقوله، على مبدأ "لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم". ليقل القذافي ما يريد، وليلبس أي ثوب يشاء، فالمهم أنه قد وافق على تسليم كل ما لديه من مواد خطرة وأيضاً على فتح بلاده للمراقبين الدوليين بتفقد منشآته متى شاؤوا.   

 

جنون القذافي كان من النوع المعروف بـ "جنون العظمة"، وإعلانه عن تخليه عن خططه لإنتاج أسلحة خطرة، لم يتعارض مع هذا الجنون. لقد استطاع أن يرضي هذا الجنون بتحويل نفسه، من قائد مناضل جاء يجدد للأمّة الإسلامية دينها، إلى داعية سلام ورائد عالميّ له!

أنور السادات نفسه الذي وصف القذافي بالمجنون، كان هو أيضاً مصاباً بجنون العظمة. ربما كان جنونه يختلف عن جنون القذافي، ولكنه كان بالتأكيد مصاباً به. حين أمر قواته بعبور البحر الأحمر لغزو إسرائيل، اعتقد أنه سينزل في التاريخ كقائد سياسي وعسكري عبقري. النتيجة كانت مفجعة، لأن القوات الإسرائيلية استطاعت أن ترد الهجوم وتأسر عشرات الآلاف من الجنود الذين وجدوا أنفسهم محاطين بالعدو من كل جانب، في صحراء لا ماء فيها يشربونه ولا شجر يستظلون بفيّه. لا بل استطاعت القوات الإسرائيلية أن تتوغل في الأراضي المصرية على الجانب الآخر من البحر الأحمر وتحتل أجزاء جديدة منها. مع ذلك، حاول السادات أن يوهم شعبه بأنه انتصر، ولكنه كان يعرف في قرارة نفسه أن التاريخ لن يذكر له تلك الحرب كنصر إنما ككارثة، إضافة إلى ما أخذ يدور من أحاديث بأن فكرة العبور لم تكن أساساً من بنات أفكاره. وهكذا، جاءت زيارته المفاجئة إلى القدس وإعلانه عن رغبته بإحلال السلام مع إسرائيل. وبالفعل، فقد نزل اسم السادات في كتاب التاريخ كصانع سلام بعد أن سقط قتيلاً على يد مغتاليه من الأصوليين المسلمين.

كِلا القذافي والسادات، أرضَيا عنجهيتهما أخيراً باتخاذ قرارات يمكن أن يقال عنها أنها ـ على الأقل ـ جنّبت شعبيهما مآسي حروب هم في غنى عنها. وهكذا، تحول جنون الاثنين إلى ما يمكن أن نسميه ـ شئنا أم أبينا ـ حكمة!       

*********

على النقيض من ذلك، كان صدام حسين.

إننا إذا منحنا القذافي الدرجة الخامسة من أصل عشرة درجات على مقياس جنون العظمة، وإذا أعطينا السادات الدرجة "ثلاثة"، فلا شكّ بأن صدام حسين يستحق بجدارة الدرجة العاشرة. إنها درجة عالية جداً لا تسمح طبيعتها لأحد يصل إليها أن يقبل بالتفريط بها. جنون صدام انتهى به داخل جحر كفأر مرعوب أحاطت به الأفاعي من كل جانب. جنونه قضى على حكمه وعلى عائلته وحاشيته وجيشه، وتسبب ولا زال يتسبب في مقتل عشرات الآلاف من الأبرياء.

*********

لكن ماذا عن سوريا وحكامها؟..

في حين يمكن القول بأنه لم يكن هناك زعيم من زعماء سوريا، على الأقل في تاريخها الحديث، يمكن ـ إلى حدٍّ ما ـ أن يقال عنه بأنه عانى من جنون العظمة، فإنّ كل الدلائل تشير اليوم إلى أن النظام يعاني من نوع آخر من الجنون، ألا وهو جنون شبيه بجنون البقر!

********

إبان عهد الراحل حافظ الأسد، كان التعبير السائد لوصف الحكم هو "الدهاء السياسي". ولا بدّ من الإقرار بأن الأسد الأب كان يتمتع حقاً بطريقة مميزة في التعامل مع العالم، خصوصاً بعد انفراط عقد الاتحاد السوفييتي. لقد كان حافظ الأسد يعرف تماماً حدّه فكان يقف عنده. كان يفعل ذلك بعد مناورات سياسية تظهره بعد رضوخه للأمر الواقع وكأنه لم يتنازل عن شيء. لكنّ لا بدّ من القول أيضاً أنّ الظروف التي كان يعيشها العالم آنذاك، تختلف تماماً عن ظروف ما بعد الحادي عشر من أيلول.

لو قُدّر لحافظ الأسد أن يعيش إلى ما بعد الحادي عشر من أيلول، وإلى وقت القبض على صدام حسين في جحره تحت الأرض، لكان استخدم كل دهائه للسير بسورية في اتجاه معاكس يتماشى مع التغيرات التي تشهدها المنطقة، دون التفريط بحكمه أو تعريض البلد للخطر. قبضة حافظ الأسد على الإسلاميين كانت حديدية، وتلك القبضة كانت ستكون دون أي شك، الورقة الرابحة بيده التي كان سيلعبها مع الأمريكيين اليوم لضمان بقائه في الحكم. وذلك على العكس من ابنه الذي يعتقد اليوم مخطئاً أن ورقته الرابحة هي في إرخاء القبضة على الإسلاميين.

لقد عمل حافظ الأسد لسنين طويلة على الإعداد ليوم رحيله، وذلك بإقناع حاشيته بأن الحل الأفضل الذي يضمن استمرار حكم العصابة من بعده، هو أن يكون أحد أبنائه حلاً وسطاً بينهم. وهذا ما كان: رحل وخلّف ابنه وراءه على رأس الحكم ـ ولا نقول "حاكماً" ـ ولكنه لم يستطع أن يخلّف له دهاءه.       

********

جنون البقر، التهاب يصيب دماغ هذا الحيوان، فيتلفه ويشل حركته، وبالتالي يفقده السيطرة على أعصابه، فتصبح تصرفاته شاذة كالمجانين مما يؤدي به أخيراً إلى الموت.

أعراضُ هذا الجنون هي السمة الغالبة اليوم على النظام في سوريا. أعراضٌ يبدو أنها بدأت تفقده السيطرة على تصرفاته وعلى خواره ـ أي تصريحاته. لقد أصبح النظام كبقرة مصابة بهذا المرض، تركض إلى كل الاتجاهات وتدور حول نفسها بسوقٍ هزيلة تحملها أقدام متراقصة. تارة باتجاه روسيا وتارة أخرى باتجاه الصين، أو ملالي إيران أو الإسرائيليين أو الإسلاميين المحليين. 

النتيجة واضحة للعيان: جنون هذا "النظام ـ البقرة" سيؤدي أخيراً إلى سقوطه. روسيا والصين لن تضحيا بعلاقاتهما مع أميركا من أجل بقرة مدنفة، وموقفهما من غزو العراق يكفي دليلاً، كما أن الاثنين يعانيان من الإرهاب الإسلامي الذي تتزعم أميركا حملة إنقاذ العالم منه. ملالي إيران مصابون بالرعب يحسبون ألف حساب لليوم الذي يبدأ فيه الشعب الإيراني بحلق لحاهم. إسرائيل لن تجلس على مائدة المفاوضات مع نظامٍ مقبل على السقوط لا يستطيع أن يضمن دوام معاهدة سلام. أما عن الإسلاميين فحدّث!.. إنهم ينتظرون الساعة التي ينقضون فيها على ما تبقى من لحم البقرة ينهشون منه، ولكنهم بالتأكيد لن ينعموا بخلافتها لأنهم سيموتون بدائها.

 

الاتجاه الوحيد الذي يمكن لهذا "النظام ـ البقرة" أن يأمل بالحصول منه على العلاج قبل استفحال مرضه، هو أميركا.

تُرى، بعد أن فقد القدرة على تحريك دفة عقله، هل تهبّ لعَونِه ريح قوية من الداخل، تقذف به إلى الاتجاه الصحيح فتغسله من خطاياه، وتجعل منه "نظاماً مولوداً من جديد"؟ (ـ Born-Again Regime! ـ)  

***************

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط