بسام درويش / Oct 01, 1993

كان لموت الوالد العجوز وقعٌ شديد الإيلام على أولاده وأحفاده بالرغم من يقينهم بأن اليوم الذي سوف يغادرهم فيه لا بدَّ آتٍ.. فهو إضافة إلى أنه قد أصيب بمرض عضال أقعده الفراش خلال السنتين الأخيرتين من عمره فإنه قد أخذ عمره وعمر غيره كما يقول العامة من الناس. لقد شعر هو نفسه بأنه أصبح حملاً على العائلة.. ولو أنَّه أعطي الخيار لفضَّل أن يرحل فيستريح ويريح.

 

لا جدال في أننا كشرقيين أرحم من غيرنا بآبائنا وأمهاتنا. نرعاهم متى كبروا ونجد في وجودهم بيننا بركةً ما بعدها بركة، وفكرة إرسالهم إلى مأوى للعجزة يهتم بشؤونهم نيابة عنا غير واردة. طبعاً لا بد من الذكر هنا أننا أرحم بهم كأفراد وليس كمجتمع أو دولة!

 

توفي العجوز، وقام البيت وقعد.  الوفود بدأت تتوالى ومطبخ سيدة البيت أصبح أشبه بمطبخ مطعم يفتح ليلاً نهاراً. إبريق قهوة يخرج وإبريق يدخل، الجو في غرف البيت أصبح شبيهاً بسماء لوس أنجلوس بسبب كثرة المدخنين.

 

ولأن الناس ينظرون إلى أولاد الفقيد الراحل على أنهم من ميسوري الحال فكان لا بد من أن تكون السفرة (أي طاولة الطعام) على قدر الشهرة، ـ كما يقول المثل ـ فكان تقديم الطعام والشراب لا يتوقف منذ الصباح وحتى المساء، وعبارة "الله يرحمه" كانت تترد باستمرار يرافقها الرذاذ المتطاير من الأفواه التي لا تزال تمضغ الطعام.

 

العجوز كان مسجى وحيداً، وبعيداً عن البيت في قاعة شركة خاصة تهتم بجثث الأموات ريثما تتم التحضيرات لمراسم الدفن، والعملية تأخذ يومين أو ثلاثة.. وخلال هذين اليومين أو الثلاثة، بقي البيت يعج بالمتوافدين زرافات ووحدانا.. القهوة لا تنقطع، الطعام لا ينقطع، الدعاء بالرحمة لا ينقطع وصوت "سيفون" المرحاض في الحمامات أيضاً لا ينقطع!

 

ونقل جثمان الفقيد الراحل أخيراً إلى الكنيسة ليصلى عليه. بعد الصلاة، لحق الجميع بالسيارة التي تنقله إلى المقبرة للوداع الأخير. هناك كرر المعزون دعاءهم بالترحم على الفقيد وطول الصبر والعمر لآل الفقيد وأولاده وأقربائه، وبعد ذلك كان لا بد من إطعام جموع الآخذين بالخاطر كي "لا يأخذوا على خاطرهم.". وللحفاظ أيضاً على سمعة العائلة، أُعِدّت في قاعة الحفلات قرب مبنى الكنيسة، المناسف والمقبلات والحلويات، وكذلك القهوة طبعاً.. أكل الناس وشربوا وترحموا على الفقيد للمرة الألف، وبعد ذلك أيضاً كان لا بد لهم أن يتوجهوا إلى البيت ليؤكدوا أسفهم ومشاركتهم اللوعة والحزن ولشرب القهوة أيضاً.

 

القصة لا تنتهي هنا، فلأن بعض المعزين هم من الأقرباء الذين قطعوا مسافات طويلة ليكونوا قرب أولاد الفقيد في ساعة حزنهم، كان لا بد لهم من المبيت ومساعدة أهل البيت أيضاً في استقبال الناس الذين استمر توافدهم لبضعة أيام بعد انتهاء مراسم الدفن.

 

ولا ننسى طبعاً المراسم والولائم في ذكرى مرور أسبوع على الوفاة، وفي ذكرى الأربعين، وأيضاً عند بعض الناس ذكرى مرور سنة. بعدها يقول الناس للفقيد: لا تؤاخذنا يا أخ!  أكثر من ذلك ليس في مقدورنا أن نعزي وقد حان وقت نسيانك.. رحمة الله عليك!

 

وفاة أحدهم في هذا البلد تكلف بكل تأكيد أكثر من الولادة!.. والكلفة ترتفع لتصبح أضعاف الأضعاف حين نضيف عليها عاداتنا العشائرية التي لا معنى لها أساساً.

عشرة آلاف من الدولارات، أو أكثر أو أقل، لو قدمت إلى جمعية خيرية باسم الفقيد أو إلى طالبٍ محتاج من أبناء الجالية كمنحة دراسية، لكانت قد أراحت عظام الفقيد في قبره وأبقت ذكراه خالدة في قلوب الناس أكثر من المناسف وتوابعها التي سرعان ما ينساها المعزون بمجرد هضمها!

الرحمة على الأموات هي من اختصاص الرب، والأحياء هم بالتأكيد أولى برحمتنا من الأموات.

************

نشرت في بيروت تايمز أكتوبر 1993

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط