سيمون جرجي / Jun 14, 2007

في العاشر من الشهر الجاري نشرتْ جريدة "إيلاف" الإلكترونيّة لقاءً صحفيّاً حاورَ السيّد أسامة العيسة فيه القس الدكتور متري الراهب، وهو قس ينتمي إلى الكنيسة اللوثريّة الإنجيليّة في فلسطين، هالنا ما وردَ فيه من أخطاءٍ تاريخيّة وعلميّة، تُعتبر شوكة في قلبِ المسيحيّين الناطقين بالعربيّة والسريانيّة، إضافةً إلى قلبه للمفاهيم وتزويره للحقائق خدمةً للإسلامِ والعروبة هذه الفكرة التي أبرزها مسيحيّون لبنانيّون في القرن التاسع عشر.

أصدرَ هذا القس كتاباً سماه "مسيحيّ فلسطينيّ" هدفه تعريف العالم الغربيّ بوجود المسيحيّين العرب وخصوصاً الفلسطينيّين منهم، ومن ثُمّ أكّد على أنّ هذا الوجود ممتدٌّ منذ نشأة المسيحيّة في فلسطين! ويحقّ لنا التساؤل هُنا: أين كان هؤلاء المسيحيّين العرب في فلسطين قبل نشأةِ الإسلام؟ وإذا ما تحدثنا عن أبرشيّات العرب التي انتشرت في الشرق قبل الإسلام وبعده فما مدى ارتباطهم الحقيقيّ بالمسيحيّين الناطقين بالعربيّة اليوم؟

 

بديهيٌّ هو الكلامُ عن العربِ اليعاقبة والنساطرة و"النصارى" وفئاتٍ أخرى حسبتها الكنيسة على مرّ العصور بدعاً حادت عن طريق الإيمان الأورثوذكسيّ، وهذه الفئات العربيّة هي التي انتشرت في جنوبِ وشمال ما بين النهرين وفي جنوبِ سوريّة وشرقِ الأردنّ وفي شبه الجزيرةِ العربيّة. وعلى عكس ما يقول لا توجد مصادر تُشير إلى تواجد عربيّ مسيحيّ في فلسطين (ونعني بها اليهوديّة والجليل والسّامرة) قبلَ نشأةِ الإسلام.

فالعودة إلى زمن الكنيسة الأولى في تلك المنطقة تؤكّد لنا على استعمال الآراميّة لغةً شعبيّةً عامّةً إلى جانب اليونانيّة لغة الثقافة والمُثقّفين، واللاتينيّة لغة الحُكمِ والقانون (الإدارة). وعندما استند على كتابِ أعمال الرّسل في الإشارة إلى العرب الذين تواجدوا هناك في زمنٍ ليتورجيٍّ يهوديّ مشهور هو "العنصرة"، نسي أن يقول إنّ جميع هؤلاء ينتمون إلى ما يُسمّى "اليهود الأتقياء" وهم الذين يشتركون في العبادة اليهوديّة دون أن ينتموا إلى "العِرْق" اليهوديّ، وقد جاؤوا إلى أورشليم من أجلِ احتفال العيد فقط لا أكثر وما يؤكّد هذا الكلام هو لوقا نفسه وفي الكتابِ نفسِه حيث يقول: "أَليسَ هؤلاءِ المُتكلّمونَ جليليّين بأَجمَعِهم؟ فكيف يسمعهم كلٌّ منّا بِلُغةِ بلدِه؟" (أع 2/7-8). فكيف يجعل منهم قسّنا الدكتور سكاناً أصليّين؟

 

ومن ثُمّ يقيم لنا مُقارنةً مُضحكة عندما يتحدّث عن سريانيّة مسيحيّي العِراق وقبطيّة مسيحيّي مصر مع عربيّة مسيحيّي فلسطين، ويستند في كلامِه على حركة ترجمة اللاهوتِ المسيحيّ التي قامَ بها رُهبان "دير مار سابا" في القرنِ التاسع عشر! وفي هذا نقولُ إذا كنّا نمتلك وثائق ومؤلّفات مسيحيّة منذ نشأة الجماعات الكنسيّة الأولى حتى نشأة الإسلام بالقبطيّة والسريانيّة فأين هي تلك العربيّة المُختصّة بفلسطين وعربها المسيحيّين؟ وهل استفاقَ فجأةً هؤلاء بعد تسعة عشر قرناً ليُثبتوا عربيّتهم عن طريق بضعة ترجمات لاهوتيّة لا تُغني فتيلاً.

 

لستُ هُنا في صدد الحديث عن التراثِ العربيّ المسيحيّ الذي انتشر قبلَ الإسلام على أيدي العربِ المسيحيّين، والذين اعتنقوا بغالبيّتهم العُظمى الإسلامَ ديناً، ولم يبقَ من هذا التراث سوى بعضَ النقوش وما خلّفه لنا التقليد الإسلاميّ؛ ولا عن انتشارِه ما بعد الإسلام على أيدي عُلماء من مصر وسوريّة وما بين النهرين، وهو لاهوتٌ كُتب أساساً بالعربيّة، شجّعته حركة الترجمة المشهورة التي قام بها الأمويّون في دمشق وبلغت عصرَها الذهبي مع العباسيّين في بغداد، على أيدي السّريان اليعاقبة والنساطرة والملكيّين الناطقين بالسريانيّة. لكنّي أعيبُ عليه هذه القفزة التاريخيّة الكبيرة والمُقارنة الخاطئة فقط من أجلِ إثبات عروبته الزائفة وانتمائه العلنيّ للإسلام، وبئس الانتماء!

 

وأظنّه يسخرُ من الباحثين عندما يتحدّث عن المجلّدات الخمس التي جمعها أحد العلماء الألمان للإشارة إلى المخطوطات العربيّة المسيحيّة التي تتجاوز العشرة آلاف، ويتغافل عن أنّ معظمها مترجم عن اللغات الأخرى المحليّة والعالميّة كالسريانيّة والقبطيّة والأرمنيّة واليونانيّة ثُمّ اللاتينيّة ولغاتها لاحقاً مع البعثات التبشيريّة الكاثوليكيّة في بداية العصرِ الحديث، وقلّة قليلة منها مكتوبة أصلاً بالعربيّة. ويتزايد عبثُه بالتاريخ عندما يجعل المسيحيّين الذين بنوا صرحَ الحضارةِ الإسلاميّة في أوائل نشأتها عرباً، بينما كانوا سُرياناً على اختلاف مذاهبهم، وقد قاموا بأوائل الترجمات نقلاً عن السريانيّة التي كانت قد رسّخت علومها في الفلسفة والحضارة الهلينيّة. ولابُدّ هُنا من ذكر شيخ المُترجمين "حُنين بن اسحق" الذي كان يُفضّل نقل المؤلّفات أوّلاً إلى السريانيّة ثُمّ منها إلى شقيقتها العربيّة.

 

وفي معرض حديثه عن الاستعمار الإسلاميّ العنيف، الذي سمّاه بالفتوحات زوراً وبهتاناً، يقول وبوقاحةٍ تامّة: "إنّ الإسلامَ حافظَ على الوجودِ المسيحيّ في الشرق، وأعطاه الفرصة كي لا يندثر، وأن يقوى". باللهِ عليكِ يا صديقي أقفلْ فمَك قبل أن تنطق بمثل هذه الترّهات، وهل ترجو أن نشكرك على تلك "الفرصة" التي أعطاناها الإسلامُ كي لا نندثر؟ عن أيّ حفاظٍ تتحدّث؟ عن المجازر التي ارتكبها خالدُ بن الوليد بحقّنا في طريق لعنته العمريّة؟ أم عن اندثارنا واندثارِ حضارة شرقِنا الماضية على أيدي الجرادِ الإسلامي، قاضمِ الحضارة والمدنيّة؟ أيّة قوّة تُبشّرنا بها قد أُلنا إليها؟ أليسَ الإسلامُ هو السببُ الأوّل الرئيسيّ في اندثارِ مسيحيّي الشرقِ بقوّة السّيف والجزية؟ أم نسيت كيف اعتنقت القبائل العربيّة المسيحيّة الإسلامَ، ولم يبقَ منها إلا القليل القليل؟ بعبارتِك تلك نلتَ درجة الصّفر في التاريخ والحقيقة، والدرجة الأولى في التزوير والتمليق!

 

ثُمّ أنشدنا مؤرخنا القس بحثاً حول نظام "الملّة" العثماني، جاعلاً نشأته في القرون الوسطى، بينما تعودُ في الحقيقة إلى بداية "العصر الحديث"! وبعدها غاصَ في شرحه والتعريف بهويّته ذامّاً إيّاه قائلاً إنه "خلق أحياء مسيحية وأحياء إسلامية، مثل ما حدث في القدس وبيت لحم". وفي هذا يبتعدُ كثيراً عن تعريف هذا النظام الذي هو أساساً "نظامٌ قانونيّ" كان المُحامي الأوّل عن الأقليّات الدينيّة. وهو الذي كفل قانونيّة "الشرع الخاصّ" بكلّ ديانة موجودة على أراضي الدولة العثمانيّة، كما أنّه الأوّل من نوعه في هذا المجال، إذ وللمرّة الأولى في تاريخ الإسلام ينالُ المسيحيّون حقوقاً خاصّة تميّزهم عن المُسلمين، يخضعون من خلالها إلى المحاكم الكنسيّة في بعض الشؤون المُحدّدة. وبالتالي تعترفُ الدولة بكيانهم السياسيّ شبه المُستقلّ ضمن الكيان السياسيّ الأكبر للدولة كاملةً، وهو أصلاً غير موجود في الفكر الدينيّ الإسلامي.

 

ينتقل المُحاور أسامة ليطعن بالعهد القديم والنزعات التي استخرجتها منه الصهيونيّة اليهوديّة، فيؤكد له القس متري بأنّ الكتاب يحملُ تفسيراً تاريخيّاً يُبعده عن الانحراف إلى النزعات السياسيّة إذا ما تمّ ضمن سياقه الكامل، ويقفز مُباشرةً إلى مُقارنةٍ غير متكافئة على الإطلاق عندما يجعل "الفقه الإسلامي" مُساوياً (من حيثُ دراسة العلوم) للاهوت المسيحيّ، ونلفت انتباهه هُنا، إلى أنّ "الفقه" يُعادل "الحقّ القانوني" في المسيحيّة، بينما يُقابل "اللاهوت" الكنسيّ ما ندعوه "علم الكلام" عند المُسلمين. وتحضرني السّاعة تلك العبارة التي سمعتها من أحد الأصدقاء قبل فترةٍ قصيرة "كارْ مو كارَك بيخربْ ديارَك"! وبشكلٍ آخر لا تُبحرْ في مياه لا تعرف عنها شيئاً وإلا غرقتَ وأغرقتَ من معك فيها.

 

ويُشدّد في إحدى العبارات المُهترئة على أنّ الإنسان لا يُمكنه أن يكون "مُسلماً" و"عُنصرياً" في الوقتِ نفسه! وهل نُعيدُ عليه ذكرَ العنصريّة التي يحملها القرآن والتقليد الإسلاميّ بما فيه من "حديثٍ" و"فقهٍ" و"كلام"؟ وهل هُناك أشهر من سورة "التوبة" في العُنصريّة والتمييز؟ ولنقتطف منها، على سبيل المثال وليس الحصر، تلك الآية المشهورة في الدعوة إلى هذا: "فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ". وللتذكير فقط يا صاحبنا نُلفت انتباهك إلى أنّك من المُشركين عند المُسلمين، فبوركت على هذه الآخرة التي كرّستها آنفاً بأقوالك المُلتوية.

 

ونرغبُ أن نؤكّد على أنّ المسيحيّين الذين ينتمون إلى الكنائس الشرقيّة الأنطاكيّة يعودون إلى أصولٍ سريانيّة ويونانيّة، وتواجد العرب المسيحيّين انتهى مع دخول الإسلام إلى الهلال الخصيب. ودليلُنا هو أنّ الكتب التي استعملتها هذه الكنائس في طقوسها تعتمد في لغاتها على اليونانيّة والسريانيّة، وهل يُعقل أنّ العامّة في تلك الفترة كانت تُصلي بلغاتٍ لا تفهمها؟ بينما تلك الترجمات العربيّة الليتورجيّة التي تمّت في مرحلةٍ متأخّرة جداً، والتي بدأت في الكنيسة الملكيّة، جاءت لتثبت وتؤكد ما قلناه آنفاً، فعندما ترسّخت جذور العربيّة بين العامّة، احتاجت هذه الأخيرة إلى نصوص تصليها بلغةٍ تفهمها.

 

وأخيراً نُشير إلى أن الأديار التي كانت مُنتشرة في فلسطين والتي غصّت مكتباتها بمخطوطاتٍ يونانيّة وسريانيّة ما هي إلا بُرهانٌ على أنّ مسيحيّي تلك المنطقة ما كانوا يمتّون إلى العربيّة بصلةٍ تُذكر.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط