نبيل فياض / Dec 23, 2003

لا ينكر أحد أنّ النظام في ما يسمّى بالمملكة العربيّة السعوديّة، التي تنبّأ زلماي خليل زادة بتقسيمها إلى دولتين شيعيّة غنيّة وسنية فقيرة عام 2005، يتخبط الآن ضمن دائرة صغيرة من الإحباطات الخانقة التي لا يبدو أن ثمّة مخرجاً على المدى المنظور منها: الجحيم الذي أدخل السعوديون والوهابيون أنفسهم ـ والمنطقة ـ فيه.

 

تشخيص الأزمة السعودية القاتلة سهل للغاية؛ ولا حاجة بنا إلى الذكاء الخارق كي نضع أصابعنا فوق الجروح النازفة: لا يمكن اجتثاث الإرهاب دون اجتثاث للبنى المعرفيّة المنتجة للإرهاب. لكن الواقع يقول، إن الإسلام عموماً ديانة قامت على الإرهاب ورفض كافة أشكال وجود الآخر المخالف: هل يمكن أن ننسى ما فعله الصحابة بامرأة عجوز اسمها أم قرفة، التي ربطت بدابتين وشقت إلى نصفين، مهما كانت الأسباب؛ وهل نتذكّر حادثة العرنيين الذين قطع النبي محمد أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ورماهم في الحرّ حتى ماتوا، مهما كانت الأسباب؛ وهل ننسى الاغتيال الإرهابي لشاعر يهودي تجرّأ على هجاء النبي ذات مرّة؛ وهل تناسى التاريخ، إذا تناسى الناس، قصّة الجاريتين اللتين كانتا تغنيّان، بأمر من مالكهما، أشعاراً بهجاء النبي، الذي أمر بدوره حين غزا مكّة، أن تقتلا وإن تعلّقتا بأستار الكعبة؛ وهل ينسى أيضاً ما فعله النبي ببني قريظة حين أمر بالكشف عن عانة كل ذكر منهم ـ  النساء، كالعادة، يسبين ـ فإذا اكتشف أنه أنبت، قتل؛ وهل يمكننا أن ننسى ما فعله المسلمون، بقيادة خالد بن الوليد، فيما سمّي بحروب الردّة، خاصة جريمة قتل مالك بن نويرة، الذي قتله خالد لأنه أعجب بزوجته فاغتصب المرأة ليلة ذبح زوجها وصنع من رأس القتيل إثفية قدر؛ وهل يمكن أن ننسى ما كتبه البطريرك صفرونيوس عن العرب البرابرة الذين غزوا القدس في زمنه؛ وهل سكت الزمان مرّة عن تذكيرنا بأحكام أهل الذمّة ومواقف أسوأ منظريّ الإرهاب في تاريخ الكون، الحاخام ابن تيميّة، من المخالفين له في الرأي بمن فيهم بعض المسلمين؟؟؟

 

النظام السعودي، منذ نشأته الأولى، بنى كل ادعاءاته بالأولوية على هذا التراث الإجرامي غير الإنساني؛ وغسل دماغ أجيال كاملة من أن دينهم هو دين الله الوحيد وأنهم هم ورثة الله على الأرض ولا يجب في هذه الحالة السماح لغير أتباع إلههم أن يرثوا شيئاً: هل تكفي الإشارة إلى فكرة دار الإسلام ودار الحرب التي سوّق لها النظام السعودي ـ الوهابي على نحو مملّ؟ بالمقابل، فالمجتمع الدولي لا يمكن أن يقبل الآن بهذه التوافه الإجراميّة خاصة إذا عرفنا أن تأثيراتها القاتلة تكاد أن تطيح بالعالم كلّه. لا مانع لدينا، في أي مكان في العالم، من أن يقفل أحدهم عقله وعينيه ويدعي أن الشمس لا تشرق؛ لكننا سنمانع حتماً أن نجبر على أن نقفل عقلنا وأعيننا كي لا نرى الشمس المشرقة.

 

مع كل الأزمات التي تكاد تطيح الآن بالنظام السعودي لتحالفه العضوي مع الحركة الوهابية، فهنالك في سوريا من يعيش خارج الزمان والمكان محاولاً بكلّ طاقاته استيراد أسوأ ما أنتجته الوهابيّة على مرّ الزمان، تحت رايات نضاليّة هذه المرة: ونقصد بذلك الطالبانيّة. في سوريّا الآن نوع من التغاضي ـ إذا لم يكن التحالف ـ  مع تيارات الإرهاب الإسلاميّة على اعتبار أن تلك التيارات قابلة جدّاً للاستخدام ضد كلّ ما هو غربي أو إسرائيلي: فهل يعرف أولئك الذين يستوردون هذه الوحوش، في بلد تعددي للغاية كسوريا، ماذا سيفعلون بوحوشهم في حال تم التوصّل إلى حل سلمي سوري أميركي إسرائيلي؟ هل تساءل أولئك عن مصير سوريّا في حال توقف النضال الخارجي واضطرار الإرهابيين الإسلاميين البحث عن منافذ جديدة لطاقاتهم المتأججة؟  إن حديث جماعة القاعدة عن توقف استخدام سوريّا كمعبر يعني ببساطة أن سوريا كانت تستخدم معبراً للقاعدة حتى تم إلقاء القبض على بعض القاعديين ومعهم أكثر من عشرين مليون دولار! وهل هنالك قاعديون نائمون آخرون غير أولئك الذين تمّ القبض عليهم، خاصة وأن من يمشي في شوارع حلب أو دمشق لا يفشل في ملاحظة وجود كثير من العناصر ذات المظهر القاعدي من سوريين وغير سوريين؟

 

هنا لابدّ أن أكرّر أن ما حصل معي في سوريا، ككاتب علماني، من التيارات الإرهابية الإسلاميّة المتحالفة ـ المتواطئة مع بعض الدولة، يكشف بسهولة هائلة أن الانفجار الذي يحرص بعضهم على تأجيله، قادم لا ريب. ففي مسيرتي الأدبية الفكرية كانت قناعتي أن مواجهة البنى المعرفية الإرهابية لا تكون بالسيف والبندقية: بل بكشف الأصول المتداعيّة لهذا التراث الذي يدعونه بالمقدّس. من هنا كانت نقاشاتي مع بعض رجال الدين السوريين وردودي التي أعتقد أنها موضوعية على ما طرحوه من آراء. حتى جاء النجاح المدوّي لأحد أعمالي، "يوم انحدر الجمل من السقيفة"، الذي طبع في دمشق ست مرات في خمسة أشهر! ولأن المشايخ أفشل من أن يردّوا موضوعيّاً على ما قدمته من آراء استندت كلها إلى تراثهم المقدّس أو نصف المقدّس، فقد لجأوا إلى خيولهم الطرواديّة ضمن النظام لمنع العمل: وهذا ما كان.

 

عام 1996، اتفقت مع بعض الباحثين الألمان (حتى لا يتعب أحدهم ذاته، فنحن نشترك جدّاً مع الغرب الكافر في معظم منظومةِ قِيَمِهِ) على القيام بمشروع ثقافي مضمونه ترجمة أعمال سورية لبنانية هامة إلى اللغة الألمانية، وترجمة أهم الأعمال الاستشراقيّة الألمانية إلى اللغة العربية. بل قمت مع اثنين من الباحثين الشبان الألمان، ميشائيل موترايش وشتيفان دانه، بترجمة أحد أعمال الباحث الشهير يوسف هوروفيتس، رحلة محمد السماوية (نشرناه تحت عنوان: حكايا الصعود)، ومن بعده الفصل الأول من كتاب هاينريش شباير، الحكايا الكتابية في القرآن (نشرناه تحت عنوان: القصص الديني) إضافة إلى عمل بحثي بعنوان نيتشه والدين.  ولمّا كانت أعمالي تنفّذ كلها في جونيه، واحة التنفّس الوحيدة في شرق أوسط التلوث، فقد ارتأى بعض الأصدقاء أن ألتقي الحاكم الفعلي لكل ما هو فكري ـ ثقافي ـ معرفي في سوريّا: الرفيق أحمد ضرغام، رئيس ما يسمّى بمكتب الإعداد القطري. وكنت موقناً، لسذاجتي، أن اللقاء سيكون فرصة هامّة لتبادل الرأي حول مشروعي الثقافي الذي كنت أعتقد أنه هام. لكن الحقيقة أن الرفيق البعثي أحضر لي بعد قدومي إليه مباشرة الرفيق البعثي الآخر، بشير نجّار، الذي كان وقتها رئيس المخابرات العامة في سوريا! (لمن لا يعرف، مات هذا الرفيق في السجن بتهم فساد أقرب ما تكون إلى روايات كافكا!) ولمّا أفهمت الرفيقين أني لا أستطيع العمل في المجال الاستخباراتي (لا أمتلك هذه الموهبة العظيمة)، تمّ الاتفاق على منع أعمالي كلّها، حتى وإن كانت، كما قلت ذات مرّة، في امتداح العظمة البعثيّة. ولمن لا يعرف أيضاً، فإن الموافقات على الكتب التي حزت عليها في سوريّا، لم تُعطَ لي إلاّ حين وضعت أسماء مؤلفين غيري على أغلفتها، وأخص منها بالذكر: النصارى، حكايا الصعود وحكايا الطوفان, بل أن كتابي المترجم عن بولتمان، المسيح والميثولوجيا، منع من قبل الرفيق أحمد ضرغام حين وضعت اسمي عليه، وحين أعدت الكتاب ذاته (النسخة ذاتها، فقط بدّلتُ اسم المترجم من نبيل فياض إلى أمية نصوّر) نال الكتاب موافقة مباشرة من هذا المكتب الإعداد القطري. هنا عرفت أن اسمي عند بعض الرفاق صار أكثر إزعاجاً من اسم شارون؛ هذا إذا كان شارون مزعجاً لهم أصلاً. وعرفت أكثر أن حقوقي، كمواطن سوري، هي أقل بكثير من حقوق أي حاخام من الذين كانوا يصلّون يوماً في كنيس الافرنج قرب شارع مدحت باشا الدمشقي.

 

ولأني، بكلّ أسف، أحمل بكالوريوس صيدلة، ارتأيت في هذا الجو الضرغامي الخانق أن أعمل في مجال الدواء! وهنا كانت الفاجعة. قبل أن آخذ الرخصة بافتتاح المحل في إحدى بلدات ريف دمشق المسمّاة بالناصريّة، والتي كانت ضمن أملاكنا كإقطاعيين سابقين ـ  وأنا أفخر بهذا رغم أنف الإعلام السوري الذي عمل كلّ ما في وسعه لتشويه صورتنا ـ  تفاجأت بشيخ يدعى راتب خضرة (فشل جامعيّاً وحامت حوله التهم حين اشتغل عاملاً في محطة بنزين فالتجأ إلى الله لغسل شبهاته) يرسل بعض البسطاء إلى مكان عملي مهددين بالويل والثبور إذا لم أغادر قريتهم المؤمنة فوراً!!! فهم لا يقبلون بوجود الكفّار في تلك الناحية المسرفة في انغماسها الأخلاقي!!! وبعدها بستة أيام، وكنت أعمل ليلاً، جاءني مجموعة من الملثّمين وهدّدوني بالقتل إن لم أغادر المكان فوراً. اتصلت بالأمن السياسي فرع ريف دمشق، وكانت النتيجة أن الشيخ الذي تهجّم على مكان عمل رسمي لم يوقف للحظة واحدة، مع العلم أن من يطلق النار في فرح في سوريا يوقف أمنيّاً لفترة لا تقلّ عن أربعة شهور. وقيل بعدها إن التيار الوهابي، بإمكانياته الماديّة الهائلة وعلاقاته الأخطبوطيّة، استطاع إخراج الشيخ الوهابي كالشعرة من العجين إلى درجة أن مدير الناحية التي نتبع لها، واسمه أحمد الزعبي (طرد من عمله لاحقاً بتهمة تهريب دخان!!!)، أتلف حتى ضبط الشرطة الذي فتح بحق شيخنا الجليل.

 

بعدها بفترة قصيرة، قامت مجموعة من العاطلين عن العمل، بالتعاون مع ضابط في الأمن الجوّي (علوي، لكنه، ككثيرين في هذا الوطن، ضعيف تجاه النقود) بتلفيق تقارير (مسألة أقل من عادية في الوطن) تفيد أني معاد للنظام، وكانت حبكة توقيفي متقنة إلى درجة لا توصف: لكن خطأ ارتكبوه أدى بأصحابه إلى السجن!!!

نحن نعيش في سوريّا على حد الخنجر: فمن جهة بعض المسؤولين الذين لا همّ لهم سوى تجميع أوراق النقد، ومن جهة، الوهابيون الذين لا همّ لهم أيضاً إلا تصفيتنا بكل ما أوتوا من قوّة ومن نقود.

 

لا أنكر أني صرت أتمنى مغادرة هذا البلد إلى أي مكان في العالم: دون استثناء. العمر يضيع يوماً فيوم بين التوتر والإرهاب والخوف من الموت أو الاعتقال في أية لحظة. ولا أملك هنا سوى التمني على هذه الدولة التي تكاد أن تنفجر من ولعها بالحركة الوهابيّة، أن تحاول استبدالنا، كأقليات علمانيّة أو مسيحية أو ما شابه، بأولئك الإسلاميين الذين يملأون ساحات أوروبا وأميركا، خاصّة وأننا متهمون ـ  والتهمة ليست غير صحيحة ـ  بالانتماء الفكري إلى الغرب: والإسلاميّون يريدون العيش في ظل عمائم طالبانيّة، وليس أفضل من حلب أولاً ودمشق ثانيّاً، وطنين طالبانيين من الدرجة الأولى.

 

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط