بسام درويش / Oct 24, 1996

نشرت جريدة "المسلمون" السعودية في عددها الصادر يوم الجمعة 13 أيلول 1996 مقالاً لكاتبه عمر الأنصاري، تحت عنوان: "شريعة الإسلام متوسطة بين شريعتي التوراة والإنجيل". والمقال هو إعادة سرد لمحاضرة ألقاها الشيخ عبد الله البسام، عضو هيئة كبار علماء السعودية، في مدينة مكة تحت عنوان: "مقارنة بين الأديان الثلاثة تظهر فضل شريعة الإسلام".

 

في مطلع المقال وبين فقراته، أبرزت الصحيفة مقتطفات من محاضرة الشيخ جاء فيها: "إن تعاليم الكتابين المقدسين التوراة والإنجيل امتد إليها التحريف وعبثت فيهما أيدي الأهواء والأغواء، الأمر الذي طمس معالم الهداية فيهما، وأما القرآن العظيم فقد حفظه الله من الزيادة والنقصان وصانه الله من التغير والتبديل." وجاء فيها أيضاً وبالخط الكبير أنَّ: "مقارنة القرآن بالكتب السماوية لا تكون بعد تحريفها.. بل قبل ذلك"، وهكذا: "لم يعد بقاء لشريعة غير الشريعة الإسلامية".   

 

جريدة "المسلمون" هذه، لو كان انتشارها مقتصراً على أرض الحجاز فقط، لما كنا قد اكترثنا بالرد عليها إذ لا شك في أن أحداً لن يكون قد سمع بها أو عرف بوجودها. ولكنها، إذ وسعت دائرة توزيعها لتشمل أقطاراً عديدة من هذا العالم ومن بينها الولايات المتحدة الأميركية، فقد أصبح الرد عليها أمراً واجباً، لعل المشرفين عليها يعودون إلى التقوقع حيث كانوا، مقتصرين ترهاتهم ومغالطاتهم على قرائهم المحليين.  

 

محاضرة الشيخ عبد الله البسام التي نشرتها الصحيفة، تحوي من المغالطات ما هب ودب، والرد عليها كلها يحتاج إلى مئات الصفحات، لذلك فإننا نكتفي هنا بالرد على ما جاء فيها من افتراء على الإنجيل باتهامه بالتحريف. ولعل الرد على هذه التهمة بالذات يفنّد بقية ما جاء في المحاضرة كلها. 

 

من المعروف بأن الإنجيل هو كتاب محرّم ممنوع التداول في السعودية منعاً باتاً، وتداوله هو من الجرائم التي تستوجب العقاب الشديد، ولذلك فأبناء السعودية بشكل عام لا يعرفون شيئاً عن هذا الكتاب. طبعاً، يستثنى منهم بعض فقهائهم ومن بينهم الشيخ عبد الله البسام هذا، إذ لا شكّ في أنه قد اطّلع عليه حتّى يتسنّى له أن يصفه بالتحريف، اللهم إلاّ إذا اطّلع على بعض صفحاته ورمى بالأخرى كما يفعل الكثير من المسلمين خوفاً من أن يشوّش بتعاليمه أفكارهم ويبعدهم عن الدين الحنيف. وعلى كل حال، فإن الشيخ عبد الله البسام، حتى لو قرأ الإنجيل بكامله، فإنه لن يؤاخذ أبداً على اعتقاده بتحريفه وفساده وعدم صلاحية مقارنته بالقرآن.. لا يؤاخذ على ذلك لأنه اطلع عليه بعد أن كبرَ وتشرّب لسنين طويلة ما يتعلّمه كل مسلم منذ نعومة أظفاره عن فساد الإنجيل وتحريفه، فتجاوز بذلك مرحلة الليونة التي يمتاز بها العقل البشري خلال المراحل الأولى من عمره.

 

وللدخول في صلب الموضوع، نبدأ قبل كل شيء بتبيان المستندات القرآنية التي اعتمد عليها الشيخ البسام والتي يعتمد عليها عادة غيره من علماء المسلمين في توجيه تهمة التحريف للإنجيل.

 

يستشهد الشيخ بما يذكره القرآن: "ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه.."، ثم يتابع استشهاده بآية أخرى تقول: "وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله، قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق.. ما قلت لهم إلاّ ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد". بعد ذلك يتجاوز الشيخ حدود الذوق والأدب في تعليقه فيقول الشيخ: (هذه هي تعاليم الكتابين التوراة والإنجيل حينما كانا رطبين طاهرين { كذا ! }، لم تعبث بهما أصابع التحريف ولم تمتد إليهما عوامل الهوى والضلال ولم يستخلفهما الانحراف والتغير في اللفظ والمعنى والهدف المنحرف والقصد السيّئ { كذا}، أما بعد أن طرأ عليهما التحريف وامتد إليهما التبديل وعبثت فيهما أيدي الأهواء والأغواء فقد تغيرت معالمهما وانطمست علامات الهداية منهما وانمحت إشارات الدلالة فيهما فصارا اسماً على غير مسمّى ورسماً على غير هداية ودلالة، فانقلبا ممسوخين {كذا} وعن طريق الهداية مسلوخين، ولنستمع إلى قول أصدق القائلين يصف التوراة بعد تحريفها وتبديلها، قال الله تعالى: "فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون." وقال تعالى: "أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون".. وها هو الإنجيل بعد تحريفه وتبديله: قال تعالى: "من الذين قالوا إنّا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكّروا به.")

=============

تلك كانت بالضبط كلمات الشيخ البسام! 

ويظهر واضحاً، أن الشيخ، إذ يعتبر الإنجيل لفساده، غير صالحٍ للمقارنة بالقرآن، فإنه يلجأ إلى مقارنة القرآن بما يقوله القرآن نفسه ليثبت تحريف الإنجيل، وهذا أمر لا يقبله المنطق السليم، ولذا فسنحذو نحن حذوه ونستعمل منطقه الأعوج، فلا نقارن الإنجيل بالإنجيل ولا الإنجيل بالقرآن، بل سوف نرضي "سماحته"  فنكتفي بالقرآن مصدراً للرد على ما يقوله هو والقرآن معاً.

 

نبدأ بالرد على الشيخ من بابه الواسع فنقول له، أنه لم يتنقَّص الإنجيل بشيء في اتّهامـه بالتحريف وعدم الطهارة، إنما هو قد تنقَّص القرآن واتَّهمه من حيث يدري أو لا يدري، بالتناقض والتحريف، ولا نقول عدم الطهارة، لأننا أرفع من أن ننزل إلى مستوى عباراته الخبيثة التي وصف بها كتاباً مقدساً يجله قرآنه ويرى في المسيح رسولاً لا يدانيه في عظمته رسول آخر.. لا بل إنه يكفي أن نرى في احتواء قرآنه ذاك على اسم المسيح حافزاً لنا على عدم وصفه بهذه العبارات الخبيثة.  وسيكون هذا موضوع بحث لنا في المستقبل القريب . 

 

هذا الكتاب الذي يتهمه الشيخ بالتحريف ويصفه بالنجاسة، هو باعتراف القرآن، "كلمات الله وهدى ونور وموعظة للمتقين": (وقفَّينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيلَ فيه هدىً ونورٌ ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدىً وموعظةً للمتقين. وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون. سورة المائدة: 46-47 ). وهو أيضاً كلام الله أطلق عليه القرآن اسم (الذَّكرِ)، وهو الاسم نفسه الذي أطلقه على التوراة أيضاً إذ قال: (وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون. سورة النحل 43) وأيضاً: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر {أي كتاب موسى} أن الأرض يرثها عبادي الصالحون. سورة الأنبياء 105) كما أطلق القرآن هذا الاسم على نفسه إذ ذكر أن الله قال مخاطباً "النبي" محمد: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلّهم يتفكّرون. سورة النحل 44)

 

إذن، فالذكر هو التوراة والإنجيل والقرآن.

الإنجيل أيضاً كما التوراة، يدعى في القرآن: (الكتاب)، جاء ذكره مرات عديدة.

فالقرآن أو الفرقان أو البينات أو الذكر أو الكتاب أو التوراة أو الإنجيل، كلهم في نظر القرآن تنزيل "من الله تعالى"، أي كلماته أعطاها لهؤلاء المرسلين.. هذه الكتب كلها يقول عنها القرآن أنها محصنة من التبديل أو التحريف إذ يصرح بذلك بشـكل لا التباس فيه: (إنّا نحن نزلنا الذِّكرَ وإنّا له لحافظون. سورة الحجر 9) وأيضاً: (لا تبديلَ لكلمات الله. سورة يونس 64) وأيضاً: (لا مبدِّلَ لكلمات الله. سورة الأنعام 34) وأيضاً: (لا مبدل لكلماته. سورة الكهف 27  وسورة الأنعام 115) وأيضاً: (سنة الله التي خلت من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلا. سورة الفتح 23) وأيضاً: (فهل ينظرون إلا سنَّة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا! سورة فاطر 43)

 

هلاّ تساءل الشيخ البسّـام عما دفع الله إلى نقض عهده ليسمح للناس بتبديل كلماته والتلاعب بها؟

 

كيف يريد لنا هذا الشيخ أن نعتقد بإله له القدرة على أن  يحفظ قرآن أو كتاب أو ذكر المسلمين ولكنه يعجز عن حفظ كتبه الأخرى التي أعطاها لمرسليه الأولين رغم وعده بأنه لن يسمح لأحد بتبديلها؟.. وإذا ما فقد الشيخ ثقته بقدرة "الله تعالى" على حفظ كلماته، فكيف لنا أن نثق نحن أيضاً بأن عثمان بن عفان حين أمر بحرق كل نسخ القرآن مبقياً على واحدة منها فقط، لم يخطئ بإحراق النسخة الصحيحة منه؟.. هل يمكن أن يخطئ الله ولا يخطئ عثمان، وهل يكون عثمان أعظم حفظاً لكلمات الله من الله نفسه؟  

 

نحن نفهم من القرآن أن الله قد أمر "النبي" محمد حين  خامره الشك في تصديق الوحي المنزّل عليه أن يسأل أهل الكتاب: (فإن كنت في شكٍّ مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك، لقد جاءك الحق من ربك فلا تكوننّ من الممترين. سورة يونس 94) . فإذا كان هؤلاء يقرأون كتباً محرفة مزوّرة فكيف ينصح الله محمداً أن يستشيرهم ويستشير كتبهم؟.. أما إذا كانت كتبهم الموجودة بين أيديهم قد جرى تحريفها بعد ذلك، فليسمح لنا فضيلة الشيخ أن نقول: أصلح الله إخواننا المسلمين.. لماذا حفظوا كتابهم ولم يعملوا على حفظ كتابنا رغم أن كتابهم يستند في مصداقيته على كتابنا؟.. لا بل إلى من يلجأ المسلمون بعد ذلك للاستشارة حين يكونون في شك مما أنزل الله على رسولهم؟..   

 

همسة أهمسها في أذن الشيخ عبد الله البسام:  طالما أن الله قد انحاز إلى صفوف المسلمين فحفظ كتابهم ومسخ كتابنا، فما الخوف إذن من السماح لكتابنا المسخ من دخول السعودية؟.. أليس الله بقادر على أن يمسخه بشكل أعظم فلا يدعه يؤثر على عقول أبنائهم؟..

 

إن الشيخ البسام، رغم إيمانه الشديد بعدم صلاحية الإنجيل للمقارنة مع القرآن، فهو مع ذلك يستشهد بهذا الكتاب المحرّف ليظهر فضل الإسلام على المسيحية، ولكنه ومما يدعو للضحك، لم يجد في هذا الإنجيل المحرّف ما يعيبه عليه سوى تسامحه الشديد حين يذكر قول المسيح: "من ضربك على خدك الأيمن فحول له الآخر!"، ويرى أن الإسـلام هو أفضل وأعدل وأكثر إنصافاً وحكمة من المسيحية مستشهداً بالآية القرآنية: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى. سورة البقرة 178) كما ويتحاشى الاستفاضة في شرح هذه الآية التي تعني أن الرجل الحر لا يعاقب بالقتل إذا قتل عبداً بينما يعاقب العبد بالقتل إذا قتل رجلاً حراً أو عبداً آخر، كما لا يعاقب الرجل بالقتل إذا قتل أنثى. فهل هذا هو العدل الذي يريد لنا الشيخ أن نؤمن به؟.. 

 

يلوم الشيخ الإنجيل المحرف أيضاً لعدم سماحه بالطلاق إلاّ لعلة الزنا، فهل يعني بذلك أنه يحاول إقناعنا بأن الشريعة التي تسمح بتعدد الزوجات وبالطلاق بمجرد ذكر كلمة الطلاق ثلاثاً، هي الشريعة المثلى؟ إذا كان هذا هو ما يعيب به على كتابنا المحرف فنعم التحريف هو!

 

وأخيراً ، تلاعب الشيخ بالكلمات حين قال أن النصارى لا يتحاشون جماع المرأة الحائض، ولا نعرف من أين أتى حضرة البحاثة بهذا النبأ. نقول أن الشيخ تلاعب بالكلمات لأنه استعمل هنا كلمة "النصارى" عوضاً عن "النصرانية" ليوحي لقرائه وكأن المسيحية تسمح بذلك، ونحن في الواقع لم نسمع من مسيحي يقول بما يقوله هذا الشيخ المخرّف كما ولم نقرأ في الإنجيل أي حديث عن لسان المسيح يتعلق بهذه الأمور.  إنها أحاديث اختص بها القرآن الذي أفرد لها من آياته العدد الوفير، واختصت بها كتب الحديث التي احتوت على جزء كاملٍ عن الحيض والحائضات. ومن الأحاديث التي وردت في هذه الكتب ما نُقِل عن عائشة قولها: "كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد كلانا جُنُبٌ وكان يأمرني فأتَّزر فيباشرني وأنا حائض وكان يخرج رأسه إليّ وهو معتكفٌ فأغسله وأنا حائض." وتقول عائشة أيضاً: "كانت إحدانا إذا كانت حائضاً فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يباشرها أمرها أن تتّزر في فور حيضتها ثم يباشرها، قالت وأيّكم يملك إربه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يملك إربه؟"  ولينظر القارئ هنا في حديث عائشة هذا وما فيه من تحدٍّ للمسلمين بقولها لهم أن ليس بينهم من كان يملك إربه كالنبي، وهو إشارة واضحة إلى أن العادة كانت منتشرة بين المسلمين. كما فليتأمل القارئ في هذا الحديث نفسه حيث يبدو واضحاً أيضاً أن محمداً لم يكن يملك إربه أبداً، لأنه رغم ذلك العدد الكبير من الزوجات والإماء اللواتي كان يملكهن، فهو لم يكن لديه من الصبر ما يجعله ينتظر أياماً قليلة ليباشر عائشة بعد خلاصها من حيضها، فكان حسب قولها، يطلب منها أن تضع إزاراً فوق فرجها ليباشرها.

 

هل يجد الشيخ البسّام أحاديث كهذه في الإنجيل المحرّف غير الطاهر الذي بين أيدي المسيحيين الآن؟

 

كلمة أخيرة للشيخ البسام ولهيئة كبار العلماء التي هو عضو فيها: لقد أهداني والدي منذ نعومة أظفاري قرآناً اقرأه دون أن يدعوه مسخاً بل قال لي: "إقرأ وتعلّم، إذ لا يجوز أن تؤمن بدينك وأنت مغلق العينين". فافتحوا أنتم النوافذ أيضاً ولا تخشوا نور الشمس.

( نشرت في بيروت تايمز عدد 530 تشرين الأول 1996 )

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط