بسام درويش / Mar 19, 1998

تباً لها من بلاد أصبحنا فيها مجرد رقم.

لعنة الله على هذه البلاد وعلى الساعة التي وطأت فيها أقدامنا أرضها.

لقد فقدنا منذ أن حللنا بهذه البلاد هويتنا وتقاليدنا وحتى أسماءنا..

نعم، أصبحنا في هذا العالم الجديد مجرد رقم. لا بل أن كل واحد منا أصبح يُعرَف بأكثر من رقم؛ رقم أعظم أهمية من الاسم نفسه.

من قبل، لم يكن من الصعب على أحد منا إن أراد التعريف عن نفسه أن يذكر اسمه أو اسم أبيه أو اسم جده. أما الآن، فحين يطلب منا أن نملأ استمارة من الاستمارات، فإن هذه الأرقام ـ الأسماء الجديدة ـ  تبدأ بالاختلاط فنباتُ نضيع بينها ونحن نحاول أن نتذكرها أو نبحث عنها بين البطاقات والقصاصات التي تملأ محافظنا أو دروج مكاتبنا.

تاريخ الميلاد. رقم البيت القديم. رقم البيت الجديد. عدد سنوات الإقامة في البيت القديم والجديد. رقم التأمينات الاجتماعية. رقم حساب البنك. رقم بطاقة الائتمان (الكريدت كارد.) رقم السيارة. رقم رخصة القيادة. رقم الهاتف. رقم الفاكس. رقم التلفون المحمول. رقم جهاز النداء pager . ومؤخراً أضيف إلى هذه الأرقام الأسماء، مجموعة من الحروف تتوسطها نقاط  وأرقام وإشارات مختلفة، تمثل عنواننا الإلكتروني الذي أصبح لا مفر لنا منه.

عند طبيب العائلة لنا رقم، وعند طبيب الأسنان لنا رقم آخر، وحين ندخل المستشفى نصبح رقماً ويلاحقنا الترقيم حتى إلى الموت فإذا صار وأن حط جسدنا رحاله في مشرحة حصلنا أيضاً على رقم آخر. ناهيك عن الأرقام الكثيرة التي تُعطى لنا دون أن نعرف بها.

بين هذه الأرقام ضاعت حروف أسمائنا. أسماؤنا التي هي بحد ذاتها قد تأمركت إذ قد غيّرناها بمحض إرادتنا لتسهيل لفظها على إخواننا الأميركيين. فسمير وسامر وسمار وبسام وسعدون وسعيد واسماعيل وسامي كلهم أصبحوا يعرفون باسم "سام". وأحمد ومحمد ومحمود وحمدان وحمد ومالك أصبحوا يعرفون باسم "مايك". جميل أصبح جيم، وعلي وعلوان وعلاء أصبحوا آل، ونزيهة أصبحت نانسي، وعلوية أصبحت هيلين. وعلى هذا المقياس أو على غيره قس .

***********

نرجوكم عذراً على هذه المقدمة الطويلة!

إن ما قلناه هو في الحقيقة ترديد لما نسمعه من أبناء الجالية العربية. حديث أشبه ما يكون بنقيق الضفادع الذي لا ينتهي ولا يتغيّر. يضجرنا به المثقف والجاهل. نقرأه في الصحف والمجلات. نسمعه بمناسبة وغير مناسبة.

هل نحن نتحسّر حقاً على فقدنا لأسمائنا، أم أننا شعب يهوى النقيق ولا يعجبه عجب ولا صيام في رجب!..  أم ترانا في الحقيقة نسينا أننا طالما تحسرنا في الوطن لعدم وجود أرقام كتلك تنظم حياتنا؟

ماذا في رقم التأمينات الاجتماعية؟ أليس هو الرقم الذي كان يحلم بالحصولِ عليه عجائزُنا وهم يقفون في الطوابير الطويلة أمام مداخل السفارات الأميركية بانتظار أن تتكرم عليهم بتأشيرة السفر؟ الرقم الذي سوف يؤمّن لهم طعامهم وعلاجهم والعناية الطبية داخل منازلهم رغم كونهم غرباء عن هذا البلد.  

ماذا عن رقم الهاتف؟ أليس هو الرقم الذي يقدم مواطننا عريضة للحصول عليه وهو شاب، فلا يحصل عليه إلا في آخر سنوات عمره عندما يفقد الرغبة بالكلام أو القدرة عليه؟

ما العيب في رقم شهادة القيادة؟ وهل كانت هذه الشهادة إلا حلماً لكل مواطن في بلد أصبحت فيه ملكية السيارة من علامات الجاه والعز.

ما العيب في رقم البيت؟ ألعلنا تعوّدنا على أن نسكن بيوتاً لا عناوين لها وفي حارات طالما كان يتيه فيها ساعي البريد نفسه. ومن منا لم يبعث برسالة إلى صديق أو قريب له في الوطن وقد رسم على غلافها ما يشبه الخريطة ليسهّل على ساعي البريد إيصال الرسالة. (السيد فلان الفلاني، بناية أبو مصطفى عبد ربه، مقابل الحلاق أبو صبحي، فوق صيدلية القشاشيبي، طابق أول فني..)

ما العيب في رقم يعطى لنا في المستشفى أو عند الطبيب في بلد ألوف الناس فيه يحملون اسم جورج سميث أو جان وايت أو في بلادنا حيث ثلاثة أرباع السكان  يحملون اسم أحمد أو محمد بن أحمد؟

وما العيب في رقم حساب البنك؟ أم لعلنا تعودنا على المعاش الشهري الذي يتبخر في الأسبوع الأول من الشهر فتنتفي بذلك الحاجة إلى دفتر الشيكات أو دفتر التوفير وأرقامهما؟

وما العيب حتى في رقم السجن. أم أننا تعودنا على القبول بما يجري للمعتقل السياسي في الوطن حين يدخل السجن فلا يسمع له أحد بمقر ولا باسم ولا برقم.

ما العيب في كل الأرقام الأخرى؟

 

يا جماعة، "لا تكابروا بالمحسوس"، كما يقول مثلنا العامي. فأن يُعطى للإنسان رقمٌ يُعرَفُ به، افضل بكثير من أن يكون له اسم ويبقى هو نكرة. وهل الإنسان في عالمنا العربي إلا نكرة؟

إنه نكرة على باب الفرن وهو يمد يده بذل ليشتري خبز يومه ولا أقول ليشحذه. نكرة وهو يقف في الطوابير الطويلة ليشتري اسطوانة الغاز ثم إن توفّق بالحصول عليها، "ينتعها" على ظهره ويمشي بها المسافات ليصل بها إلى بيته. نكرة وهو ينتظر دوره لسنوات للحصول على أرخص سيارة كورية أو يابانية، يدفع أغلى الأسعار لها من عرق جبينه، بينما، ومن جيبه هو، يحصل أزلام الحكم على سياراتهم المرسيدس التي تُصنّع خصيصاً لهم وطبقاً لمواصفاتهم.

مواطننا نكرة وهو يحاول اجتياز الطريق من رصيف إلى آخر حيث لا يشعر بوجوده لا سائق سيارة ولا سائق دراجة. 

نكرة على باب الوزارة، لا بل نكرة وهو يقف بين يدي الحاجب الذي يقف على باب الوزارة. الحاجب  نكرة وهو بين يدي موظف في الديوان، والموظف نكرة وهو بين يدي رئيس الديوان، ورئيس الديوان نكرة أمام رئيس القسم، ورئيس القسم نكرة أمام الأمين العام، والأمين العام نكرة أمام الوزير والوزير نكرة أمام الرئيس. السائق نكرة وهو يقف بين يدي شرطي المرور. وشرطي المرور نكرة وهو يمد يده للسائق بانتظار البرطيل. الطفل نكرة، وهو يقفز من فوق سور المدرسة ليلعب في باحتها وعيونه تبحث عن "الناطور" خوفاً من عصاه. الزوجة نكرة بعين الزوج وبعين الشريعة. المتهم نكرة أمام القضاء إلا إذا دخلت يد محاميه جيب القاضي قبل المحاكمة. القانون نكرة في عين القاضي والقاضي نكرة في عين من هم فوق الشريعة وفوق القانون.

 

بعد كل هذا، أفليس أفضل لإنساننا العربي أن يكون رقماً يُعرَفُ به من أن يكون اسماً نكرة؟

"كفاكم مكابرة بالمحسوس"، ففي خزانة وبراد مطبخ كل منكم من المواد الغذائية المثلجة والمعلبة والمعبأة بأكياس أو غيرها، أكثر مما تحويه دكانة وحيدة تخدم سكان قرية من قرى الوطن.

"كفاكم مكابرة بالمحسوس"، فأنتم في بلد تفتحون فيه أفواهكم لتنتقدوا فيه حتى هذه النعمة التي تعيشون بظلها، وكنتم من قبل لا تجرؤون على تحريك شفاهكم للاعتراض حتى على إهانة يلحقها بكم أصغر موظف دولة.  

ألا فاشكروا الله يا قوم.. فبالشكر تدوم النعم!

================

نشرت في بيروت تايمز عدد 603  آذار، مارس  1998

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط