الاسم لدى الناقد / Mar 03, 2004

السيِّد محرِّر موقع " الناقد" المحترم

تحية طيبة وبعد

أسمح لي في البداية أن أعبّر لك عن إعجابي الشديد بمجلتكم المتميزة وكل ما فيها من أفكار مستنيرة يندر أن نصادفها في هذا الزمان الصعب.

ما دفعني للكتابة إليكم هم قراءتي للمقال المعنون بـ "مجادلة الأنبا جرجي مع الشيوخ المسلمين" المنشور في مجلتكم بتاريخ 18/ 3/ 2004، والحقيقة أن هذه المجادلة - سواء أكان لها أساس تاريخي حقيقي أم لا- ذات قيمة كبيرة لأي مهتم بموضوع الحوار بين الأديان (كجزء من الحوار بين الثقافات المختلفة) وهو أمر لا تزال له بلا شك أهمية كبيرة في واقعنا الحضاري والثقافي حتى الآن، والقيمة الكبرى لهذه المجادلة هي أنها تثبت للمسلمين الجاهلين بحقيقة دينهم واستناداً لأساسين لا يمكن أن يرفضوهما الأول هو كتابهم المقدس (القرآن) والثاني هو المنطق العقلي البحت، تثبت لهم صحة العقائد الأساسية للدين المسيحي.

 

لكن ما حزَّ في نفسي وأنا أقرأ هذه المجادلة طرحها لموضوع خلافي بين الطوائف المسيحية له تاريخ سيء كعامل شقاق أساسي في الكنيسة التي كانت واحدة، وأعني موضوع الطبيعتين (ولاحقاً الفعلين أو الإرادتين) عند السيِّد المسيح، وكنتُ أتمنى لو لم تحتوِ المجادلة على ما احتوتُه بخصوص هذا الموضوع واكتفت بإثبات الحقائق الإيمانية المسيحية الأساسية التي يتفق عليها جميع المسيحيين.

 

أنا لستُ مختصاً باللاهوت (في الحقيقة أنا طبيب بشري)، لكن باعتبار أن كثيراً من الذين سيقرؤون المجادلة سيظنون أن موضوع "الطبيعتين" كما طُرح فيها هو من الحقائق الإيمانية العقائدية للدين المسيحي (خاصةً مع تأكيد توطئة المجادلة - التي أعتقد أنها من تأليف الراهب المرسل الكاثوليكي الذي قام بتحريرها - على سلامة عقيدة الراهب جرجي باعتباره من الروم الملكيين كاثوليكيّ المعتقد)، فإنني وجدتُ نفسي مضطراً للتعقيب على هذا الأمر.

 

إن أيّ دارس للتاريخ الكنسي يعرف أن هذا الموضوع أثير لأول مرة في الكنيسة عند محاولة بطريرك القسطنطينية نسطوريوس في القرن الخامس الميلادي تفسير سر التجسّد بطريقة خاصة، وهذا ما أدى لاحقاً لانشقاقات كنسية عديدة بلغت ذروتها في المجمع سيئ الذكر مجمع خلقيدونية عام 451 م الذي شقّ الكنيسة الواحدة وأضعف الإمبراطورية البيزنطية بالصراعات والاضطهادات الدينية خلال القرن السادس الميلادي، الأمر الذي كان العامل الأساسي لاحقاً في سقوط سورية ومصر بسهولة بيد المسلمين، هذا مع عدم إغفال دور الراهب النسطوري بحيرا في النشوء الفكري للإسلام في القرن السابع الميلادي.

 

ما سأذكرُه ليس فتحاً جديداً للجدال الذي اكتسب سمعة سيئة عندما سُمي جدلاً بيزنطياً، لكنني سأستخدم نفس المجادلة موضوع المقال لتوضيح بعض النقاط؛ أعتقد أن الأنبا جرجي كان موفّقاً للغاية في مثاله الذي طرحه لتوضيح ضرورة آلام المسيح لتحقيق فداء الإنسان دون الإخلال بعدالة الله، وأذكّر أنه شبَّه في هذا المثال تجسّد السيِّد المسيح بتسربل الملك بزي العبيد ليظهر للعبد الشرير بصورة عابر طريق عادي، وأسمح لنفسي بأن أضيف للقصة من عندي أن الملك عندما تنكَّر بزي العبيد أوكل لأحد عبيده الأخيار تسيير شؤون المملكة وأعطاه السلطة باسم الملك بل أنه سمح له بارتداء الزي الملكي لكي تعرف الرعايا أن سلطته شرعية كونها مستمدّة من السلطة الملكية الأساسية، وأسأل الآن هل تغيّرت الطبيعة الأساسية للملك (أي جوهره) عندما تسربل بزي العبيد؟!! ألم يبقَ هو الملك حتى عندما ظهر للناس كعبد فقير؟!! وبنفس الوقت هل تغيّرت الطبيعة الأساسية للعبد الخيّر (أي جوهره) عندما ارتدى الثوب الملكي؟!! هل أصبح هو الملك لظهوره بهذا الثوب؟!! في كلتا الحالتين هناك علاقة بين المُلك (الذي تُقصَد به هنا الطبيعة الإلهية) وبين العبودية (التي تُقصَد بها الطبيعة البشرية)، وفي كلتاهما يخالف الجوهر الحقيقي للأمور المظهر الخارجي لها، لكن شتّان ما بين الحالتين!!!

 

لا أظنّ أن هدفي من هذه التشبيهات خافٍ على أحد، فما أقصده أن العلاقة بين الطبيعتين كانت عند تجسّد السيّد المسيح –حسب المعتقد المسيحي- هي كحالة الملك الذي ظهر بصورة العبد مع بقاء طبيعته الواحدة (أي جوهره الإلهي المساوٍ للآب حسب ما يؤمن كل مسيحي) كما هي "عظيمٌ هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد" (تيموثاوس3،16)، لم تكن العلاقة بين الطبيعتين حين التجسّد أبداً كحالة عبد خيّر سُمح له بأن يرتدي الزي الملكي وأن يمارس السلطة الملكية (مؤقتاً) وأن يظهر للناس كأنه الملك، الحالة الثانية يمكن تشبيهها بما حدث مع بولس الرسول عندما قام بقوة الروح القدس بشفاء الرجل المقعد في مدينة لسترة حيث ظنّ الناس هناك أنه إله "إنّ الآلهة تشبهوا بالناس ونزلوا إلينا" (أعمال 14، 12) لكنها حتماً ليست حالة تجسّد السيِّد المسيح، وكما سيبقى الملك ملكاً حتى لو تسربل بزي العبيد، وسيبقى العبد عبداً ولو لبس الزي الملكي، ظلّ سيدنا يسوع المسيح عند تجسّده هو الله (بجوهره وطبيعته الواحدة)، وظلّ بولس الرسول إنساناً (بجوهره وطبيعته الواحدة) حتى عند قيامه بالمعجزات باسم يسوع الناصري.

 

إن الحديث عن الطبيعتين بدلاً عن الجوهر الإلهي والطبيعة الواحدة في السيّد المسيح بعد التجسّد سوف يؤدي حتماً للخلط بين الحالتين المختلفتين للعلاقة بين الطبيعتين الإلهية والبشرية اللتين ذكرتُهما أعلاه واللتين يجب التمييز بينهما تماماً، وهذا ما نراه في الحقيقة في المثال غير الموفَّق الذي جاء على  لسان الأنبا جرجي في المجادلة موضوع كلامنا حين تكلم عن الطبيعتين فشبَّه اتحادهما خلال التجسّد بالسيف الذي تمَّت تحميته بالنار فاكتسب السيف فعل النار حيث يقول (كذلك الجسد.. صار يفعل فعل اللاهوت)، هذا المثال غير الموفَّق برأينا يمكن تطبيقه على حالة بولس المذكورة أعلاه وحالة كل الأنبياء والرسُل الذين قاموا بمعجزات (أي فعل لاهوتي) مع بقاء طبيعتهم الأساسية بشرية (كما يبقى السيف سيفاً حتى لو تمَّت تحميتُه بالنار) ولا يجوز تطبيقه إطلاقاً على حالة تجسّد السيِّد المسيح. إن الخلط والالتباس اللذين يؤدي إليهما تمثيل كهذا لسر التجسّد (وهو كما رأينا نتيجة لاستخدام مفهوم الطبيعتين في السيِّد المسيح) يمكن أن يؤدي للانزلاق إلى ما انزلق إليه بعض أتباع نسطوريوس (ومنهم الراهب بحيرا المشهور على الأرجح) حين غالوا في تأكيد فصل الطبيعتين بعد التجسّد لدرجة أن أتباعهم اللامباشرين (تلاميذ بحيرا) رفضوا الاعتراف بألوهية السيّد المسيح، فأصبح السيّد المسيح عندهم إنساناً ذا طبيعة بشرية حلَّ عليه قبسٌ إلهي (طبيعة إلهية) فصار يقوم بأفعال لاهوتية، وقد رفض هؤلاء الاعتراف بالمسيح أبناً وحيداً لله، لأن هذا التعبير يتضمن حتماً أن جوهر المسيح مساوٍ لجوهر الآب كما أن جوهر أي أبن مماثل لجوهر أبيه. إن خطر هذا الانزلاق هذا الانحراف الكامل عن إيمان الكنيسة المسيحية هو الذي جعل آباءنا قديماً يرفضون الصيغة الخلقيدونية عن الطبيعتين في السيِّد المسيح (ويدفعون بدمائهم ثمن هذا الرفض).

 

إن خطأ نسطوريوس الأساسي كان حين حاول أن يدرك بعقله الإنساني المحدود ماهية الطبيعة الإلهية غير المحدودة، وأنا شخصياً لا أعتقد أنه كان إنساناً سيئاً بل أعتقد أنه كان صالحاً وكان مسيحياً يؤمن بالحقائق الإيمانية الأساسية وبالتالي بألوهية السيِّد المسيح، لكننا كبشر أي ذوي طبيعة بشرية (وأحدنا حتماً نسطوريوس نفسه) نستطيع نوعاً ما أن ندرك (ولو بطريقة مبهمة أحياناً) ماذا تعني هذه الطبيعة، ندرك صفاتها وندرك قدراتها وندرك الحدود التي لا تستطيع أن تتجاوزها، ولكن هل نستطيع أن ندرك ماهية الطبيعة الإلهية؟!! لقد ظنَّ نسطوريوس (والخلقيدونيون من بعده) مثلاً أن الإحساس بالألم انتقاص من الطبيعة الإلهية، فأصرّوا على مفهوم الطبيعتين بعد الاتحاد ليجنّبوا الطبيعة الإلهية (التي قولبوها حسب عقلهم الخاص) هذا النقص المزعوم، والحقيقة أن نسطوريوس كان منسجماً مع ذاته عندما قال بالأقنومين في السيّد المسيح أكثر من الخلقيدونيين الذين كانت صيغتهم عن الأقنوم الواحد (وبالتالي الجوهر الواحد) والطبيعتين غير المختلطتين في السيِّد المسيح بعد الاتحاد تحمل تناقضاً داخلياً مع ذاتها (وأنا أستعير هنا تعبيراً لمار سويريوس بطريرك أنطاكيا الشرعي في القرن السادس الميلادي)، قد يقول البعض أنني عندما أرفض تعبير الطبيعتين في السيِّد المسيح بعد الاتحاد، وأصرّ على الطبيعة الواحدة والجوهر الواحد الإلهي (المساوي للآب) في السيّد المسيح، أخلط ما بين كلمة الطبيعة وكلمة الجوهر، وأنا أرجو أن يتطوع هذا البعض ليفهمني ما هو الفرق الحقيقي بين هاتين الكلمتين؛ وقد يتهمنى آخرون ممن اعتادوا على تسمية معتقد أمثالي بالمونوفيزيتية أنني أنكر إنسانية السيّد المسيح، وأجيبهم بأننا –كما قلتُ أعلاه- بشر ندرك ماهية الطبيعة البشرية وندرك الحدود التي لا نستطيع أن نتجاوزها فنصبح كالآلهة، لكن من قال لهم بأن الطبيعة الإلهية التي لا نستطيع إدراكها ولا نعرف حدودها لا تستطيع أن تتمثل كل ما في الطبيعة البشرية الانسانية؟ وبالتالي من قال لهم أن السيّد المسيح الله الكلمة المساوي للآب في الجوهر والطبيعة عندما ظهر بالجسد وصار إنساناً كاملاً فيه كل صفاتنا (عدا الخطيئة) فإن ذلك يعني أنه أصبح ذا طبيعتين (أو لاحقاً كائناً فصامياً ذا إرادتين)؟!! هذا الكلام ليس دعوة للا أدرية أو اللاعقلانية عند مناقشة الأمور الإيمانية، فاللجوء لهذين المذهبين الفلسفيين لن يفيدنا كمسيحيين إذا أردنا مجادلة أتباع الأديان الأخرى، لكن بنفس الوقت يجب ألا نرتكب خطأ الآباء القدماء ومنهم آباء مجمع خلقيدونية وكذلك نسطوريوس المسكين الذين أدّى إصرارهم على ادعاء معرفة صفات الطبيعة الإلهية لنتائج تعاكس تماماً ما كانوا يتوخون.

 

أذكّر هنا أن نزع الألوهية عن السيّد المسيح على يد الأتباع اللامباشرين لنسطوريوس كانت نتيجته أن فقَد الدين (وحتماً لا أقصد هنا الدين المسيحي) دوره التوجيهي الأخلاقي الإنساني كضمير جمعي في المجتمع، فالدين يجب أن يكون كالمنارة يهدي الجميع إلى الدرب الصحيح نحو الله الذي هو الخير المطلق، ولقد كانت تعاليم السيّد المسيح وأعماله على الأرض بالفعل تمثّل هذه المنارة، فكما يدل ضوء المنارة السفن على الطريق الصحيح في عرض البحر (دون أن يستلزم ذلك بالضرورة أن تصل هذه السفن إلى هذه المنارة) تدلّنا هذه التعاليم وهذه الأعمال (وبالخاصة محبته المطلقة للجميع حتى الأعداء منهم وتضحيته بذاته من أجل خلاص البشرية) على ما يجب أن نسعى إليه ونبتغي تحقيقه (حتى لو عجزنا عن الوصول الفعلي لهذا الأمر باعتبارنا بشراً ضعفاء لا يمكن أن نُقارن بالرب الإله)، بدل ذلك أصبح الدين للأسف الشديد تشريعاً لعقائد غريبة تقدّس الغرائز الحيوانية وتدعو لإفناء الآخر فكرياً وجسدياً.

دكتور س. ش.

=============

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط