بسام درويش / Apr 29, 1993

يُعرِّفُ المنجد العربي في اللغة والأعلام الوطن على أنَّه المكان الذي يقيم فيه الإنسان، وُلِدَ فيه أم لم يولَدْ.  وإذا نظرنا إلى تعلُّقِ الإنسان بوطنه وولائه له على أنهما أمران طبيعيان لدى كل شعوب العالم، مثلهما في ذلك كمثل تعلُّقِ الفرد بأهله وولائه لهم أو الحيوان ببيته ودفاعه عنه، فلمن يكون إذن، أو بالأحرى لمن ينبغي أن يكون ولاء الإنسان حين يصبح له وطنان عوضاً عن الوطن الواحد. وطنٌ وُلِدَ فيه وآخر يقيم فيه؟!

 

لا يشكُّ أحدٌ بصعوبة السؤالِ، لأنَّ الإجابة عليه تخضع لصراعٍ مريرٍ بين قوتين جبارتين تتحكمان في أكثر أمورنا الحياتية، تافهةً كانت أم عظيمة، وهما قوة العقل وقوة العاطفة. هاتان القوتان تتحكمان في قراراتنا ومصائرنا.. في زواجنا وطلاقنا وتربيتنا لأولادنا وعلاقاتنا الإجتماعيَّةِ وخلافاتنا وحروبنا ومشترياتنا... وحين يحصل الصراع بين هاتين القوتين، من النادر جداً أن يكون هناك لا غالب ولا مغلوب.

 

حين نفكِّر في الوطن الأم، نرى فيه ذكريات وأقرباء وأصدقاء وجيران وحاراتٍ قديمة وحلاّقاً كان يقصُّ شعرنا لسنين عديدة ومقهىً وحمّاماً شعبياً وغير ذلك مما يجعل قلوبنا تفيض حناناً كلما طاف بذهننا خيال الوطن. وفي بحر التشوُّقِ والحنين ننسى أو نحاول أن نتناسى كل ما من شأنه أن يعكِّرَ صفو هذه الذكريات!

 

وحين ننتقل بفكرنا إلى حيث نقيم، إلى موطننا الجديد، نجدُهُ مقراً لنا ولعائلتنا ومصدراً لرزقنا، وفرصةً للإبداع لم تكن متوفرة لنا حيث كنا لأسباب أكثر من أن تُحصى، لا بل نجد  فيه حقوقاً قد حصلنا عليها بمجرد الإقامة أو التجنُّسِ لم نكن نجرؤ في وطننا الأم حتَّى على المطالبة بها.

 

إنَّ معاجم اللغة لم تفِ الوطن حقَّه بتعريفه على أنه مكان ولادة الأنسان أو إقامته. فالبيت هو أيضاً وطنٌ صغير للإنسان، ولكن ما نفع بيتٍ، وُلدنا أو أقمنا فيه، إذا كان لا سقف له، ولا ماء ولا كهرباء، ويشاركنا فيه من يمنع عنا الحقّ بتحسينه أو التصرُّف به، بالرغم من كوننا شركاء في ملكيَّته ؟..

أفلم يكن وضعنا في وطننا الأم على هذه الصورة ؟..

 

الجواب على هذا التساؤل بنعم مصدره العقل. والجواب بلا، لا ينبع إلاَّ من العاطفة لا بل من مصدرٍ أخر أيضاً يُدعى الجهلُ أو التجاهل وهما أمرانِ صنوان!

 

معاذ الله أن يُفسَّر كلامي على أنه دعوةٌ إلى كراهية الوطن الأم أو إلى حمل السلاح ضدّه، فوطني قطعةٌ مني شئت أم أبيت، وفي قوانين هذا البلد ما يعفي المواطن من حمل السلاح في وجه شعبه ووطنه الأصلي. ولكني أرى جحوداً وإجحافاً في الطعن في بلدٍ استضافنا ومنحنا كل حقوق المواطنية، عند كلِّ نزاعٍ أو خلافٍ ينشأ بينه وبين حاكمٍ عربي. أو كلما ألقي القبض على عربي بتهمة الاشتراك بعمل يمس أمن هذا البلد، حتى ومن قبل أن نعرف نحن إذا كان اتهامه مبنياً على حق أو باطلٍ. وإذا كان لا يمكننا أن ننكر أن التعصب هو طبيعة إنسانية فإن مواقف كتلك يمكن بالتأكيد اعتبارها مغالاة وتطرُّفاً في التعصُّبِ، عرقياً كان أم دينياً. وبالتالي فإننا نضع جاليتنا كلها تحت المجهر ونجعلها عرضة للشبهة والنقمة وربما الانتقام.

 

ضيوفاً كنّا في هذا البلد أم مواطنين مقيمين، لا يمكننا أن نتجاهل ما علينا من واجبات تجاه هذا الوطن. ونحن إن أردنا أن نكون عنصراً فعَّالاً في إدارة أموره وتوجيه سياسته فالخطوة الأولى هي أن نكون جزءاً منه بكل ما تحمله الكلمة من معنىً، فليس من العدل أن نطالب بالحقوق ونتجاهل الواجبات!

 

إذا كنا نعتبر هذا البلد وطناً ثانياً لنا فأنَّهُ سيصبِحُ لأولادنا من بعدنا، وطناً أولاً، ومن ثم لأولادهم، وطناً وحيداً. لا أولاً ولا ثانياً. لذلك، فمن حقِّهم علينا أن نترك لهم فخر الانتساب الينا ليقولوا لأيّ كان: لقد قدَّم أجدادنا لهذا الوطن ما قدَّمه أجدادكم.

 

لنا في المهاجرين الأرمن الذين وجدوا في بعض الأقطار العربية كمصر ولبنان وسورية والعراق والأردن ملجأ لهم، بعد أن هربوا من الشيوعية ومن فتك العثمانيين، مثالٌ يُحتذى به. إنَّهم مع احتفاظهم بعاداتهم وتقاليدهم ولغتهم التي علموها لأولادهم وأحفادهم، لم يبخلوا على أوطانهم الجديدة بعطائهم، بل شاركوا في نشاطاته الإجتماعية والسياسية وحملوا السلاح مدافعين عنه عند الملمات وقدَّموا من أجله الشهداء، ولم يقف إيمانهم بدينهم حائلاً بينهم وبين الولاء للبلد المضيف الذي يدين بغير ما يدينون به. ونرى كثيراً منهم وقد هاجروا للمرة الثانية من البلاد العربية إلى أميركا يفتخرون بقولهم، لمن يسألهم عن أصلهم، أنهم سوريون أرمن أو لبنانيون أرمن أو عراقيون أرمن..

ويحضرني هنا قول شاعرنا المتنبي:

وما بلدُ الإنسان غيرُ المُوافقِ                         ولا أهلُهُ الأدْنونَ غيرُ الأصادقِ

وقد عنى به أنَّ كلَّ بلد وافقك فهو وطنك وكل أهلٍ صفوك فهم أهلك.

وكذلك قول البحتريِّ وفيه من البساطة ما يغني عن الشرح:

وأحبُّ أوطانِ البلادِ إلى الفتى                        أرضٌ ينالُ بها كريمَ المطلبِ .

*************

نشرت في بيروت تايمز 29 نيسان 1993 العدد 348

 

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط