مالك مسلماني / May 16, 2005

تواجه سوريا منعطفاً تاريخياً شديد الدقة، وهي تعيش حالة ترقب لما تحمله الأيام، ذلك أن نذر العواصف تلوح في سمائها، وكل هذه المؤشرات تنبئ بتغيرات مفصلية في البناء السياسي الداخلي؛ فالوضع الدولي الضاغط على النظام من أجل القيام بإصلاح منظومته السياسية، والتبدل الكبير في اللوحة الجيوبوليتيكة الإقليمية والدولية؛ كل هذه الأوضاع الدقيقة جعلت سوريا اليوم في مهب الريح. ومن الصعب التكهن بالمآل الذي سيتجه إليه حال سوريا جراء هذه العوامل. ولا ريب إن ثمة العديد من السيناريوهات قيد الدراسة في الدوائر الغربية بشأن سوريا ما بعد سقوط النظام؛ ومنها صعود الإسلاميين للسلطة. ويبدو أن ثمة ميلاً ظهر مؤخراً للتعاطي الإيجابي مع القوة الإسلامية الرئيسة في سوريا من جانب دول أوروبية. وهذا ما يمكن تلمسه من النقاش الذي جرى مؤخراً بين وزراء الاتحاد الأوروبي بصدد وثيقة تحض الدول الأعضاء على فتح حوار مع الحركات (movements) الإسلامية في الشرق الأوسط، والرأي الذي بدأ يجد أنصاراً له بأن هذه الحركات يمكن أن تشكل بديلاً للأنظمة العربية الديكتاتورية، وبنفس الوقت تكون قادرة على ضبط الجماعات (groups) الإسلامية، التي تتأخذ من السلاح الوسيلة الأولى للوصول إلى الحكم.

 

قيادة الإخوان المسلمين في سوريا لم تتردد عن توظيف هذه المتغيرات العالمية، فأصدرت في تاريخ 3 من نيسان (أبريل) 2005 بياناً بعنوان: "النداء الوطني للإنقاذ".

كانت صياغة البيان بعيدة عن اللغة الإسلامية المباشرة، وهي صياغة موجهة للخارج وليس للداخل؛ ولكن مع ذلك فإن البيان الموجه إلى السوريين يكشف أن محدد الخطاب الأول هو اللّه، وأنه ينطلق من واجبات الإسلام:

" معذرةً إلى ربنا، وقياماً بحقّ النصيحة التي أوجبها علينا إسلامُنا الحنيف، ووفاءً لوطنٍ تهونُ من أجلِ وحدته وحمايته كلُّ التضحيات".

 

إن هذا الباعث الذي يدّعيه البيان هو المسألة التي يجب أن تكون موضع البحث عندما يدور النقاش حول دور الحركات الإسلامية في العالم العربي؛ فإذا كنا لا نستطيع أن نقلل من قوة هذه الحركات شعبياً، فإن الحاجة للتغيير الديمقراطي في العالم العربي تشترط البديل الديمقراطي، لا الثيوقراطي. والحركات الإسلامية الشعبوية، التي تسّور نفسها بالمؤمن المستلب روحياً وعقلياً والمتعصب لمبادئها، هي النقيض المطلق للديمقراطية كون هذه الحركات تتشكل من ذرات البشر الخاضعين لسلطان اللاعقل وتحت مظلة العمامة، من كائنات مسحورة بأبواق المساجد، وبريق سيوف "المجاهدين" المغمسة بالدماء، من بشر منومين بمغناطيس أئمة المنابر.

 

إن البديل الديمقراطي لا يمكن أن يكون حركات تتأسس منظوراتها على النصوص الدينية بحيث تبقى الديمقراطية رهينة تفسيرات رجالات الدين. إن المرجعية الوحيدة للتنظيمات الإسلامية المتطرفة كما "المعتدلة" هي مرجعية النص القرآني الذي يتمتع بالثبات في أحكامه، والهامش المتاح لعلماء المسلمين هو شرح النص المقدس (قرآناً وحديثاً)، ومن هنا فإن رجال الدين يمارسون عملية إعادة إنتاج نفس القيم والمفاهيم الحقوقية التي صِيغت منذ عهد الإسلام الأول.

 

لا شك أن حقبة واعدة بدأت ملامحها تترسم مع سقوط بغداد، هي بدء النهاية للديكتاتوريات العربية؛ والبديل الذي يجب أن يكون لهذه الأنظمة هو بديل يوفر الشروط الأساسية الإنسانية من الحرية والديمقراطية، كما الكرامة الإنسانية. وهذه الشروط تتنافى مع المنظور الإسلامي، ذلك إن المجتمع وفق الترسيمة الإسلامية ينقسم إلى طبقات تتحدد أهميتها وموقعها حسب معيار الانتماء الديني، ووفق تموضعها في سلم العصبية العربية.

 

ففي أساس الشريعة الإسلامية نجد المفاضلة بين المسلم وغير المسلم، وهذا يعني تقسيم العالم إلى دارين: دار الحرب (دار الكفر) بمقابل دار الإسلام، وهذا التقسيم يفرض عقيدة تجعل المسلم يرى أن العلاقة مع الخارج هي علاقة عداء وحرب ما دام الإسلام لم يهيمن بعد على العالم؛ وما السلام بين الأمة الإسلامية وغيرها من الأمم إلاّ هدنة عابرة تنتهي بحصول المسلمين على العدة والعدد لغزو العالم مجدداً.

من جهة أخرى، ثمة في الإسلام أساس كبير للاحتراب الإهلي، حيث يعيش المسلمون في حالة فتنة بين المذاهب، وهي ترتكز على الإدعاء الذي يعلنه المذهبان الرئيسان في الإسلام (السنة والشيعة) بأنهما يمثلان الفرقة الناجية. وهذا يعني تكفير أتباع المذاهب "الهرطوقية"؛ وهذا ما يجعل الأقليات الدينية عرضة لحملات الإبادة من جانب الأغلبية؛ وبأقل الحالات قسوة فإن أتباع المذهبيين الرئيسيين سيمارسان اضطهاداً على أتباع المذاهب الإسلامية المنشقة عن هذين المذهبين. دعْ عنك ادّعاءَ كل طرف من هذين المذهبين أنهما يمثلان الإسلام الصحيح. وكل هذا أسس للصراع الدموي الذي نشهد أثاره في شبه الجزيرة الهندية بين السنة والشيعة، كما في التطرف الإسلامي السني بصيغته الوهابية في العراق الذي يقوم بحملة مجازر ضد الشيعة، مستلهماً رؤى القاعدة.

 

ربما يجد المرء بعضاً من رجال الدين الذين حاولوا التعاطي بمرونة مع بعض المستجدات في الساحة السياسية العالمية، وذلك تحت تأثير الهزات الارتدادية لزلازل 11/9؛ وبضغط من الحكومات العربية التي توظفهم، لكن هذا التعاطي شيء، وسن تشريعات ديمقراطية شيء آخر. إن المرونة التي يبديها موظفو الأنظمة العربية من رجال الدين هنا أو هناك لا تؤسس للديمقرطية، لأنها تفتقد المفاهيم الديمقراطية. وعندما يقوم تنظيم الإخوان المسلمين السوري في بيانه المشار إليه بالمطالبة بـ: لاعتراف بمكوّنات المجتمع السوري وخصوصياتها: الإثنية، والعقائدية، والمذهبية، والثقافية، والسياسية.. في إطار الوحدة الوطنية، واعتمادِ مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات، وتكافؤ الفرص أمام جميع المواطنين، وإلغاءِ كلّ أشكالِ التمييز والإقصاء ". فإننا ندرك أن البيان هو مجرد ورقة سياسية يريد التنظيم اعتمادها لدى الغرب؛ ذلك إنه كيف يمكن لتنظيم الإخوان أن يعترف بمكونات المجتمع العرقية والعقائدية، والثقافية والسياسية وهو يرتكز على رؤية إسلامية سنية، وهي رؤية تكفر جميع الأطياف المذهبية الإسلامية في سوريا (العلويين، الدروز، الإسماعليين)، كما تكفر كل من يعلن أن العقل هو رائده.

 

إن الاعتراف بالتعددية القومية والدينية والثقافية الذي يبدي التنظيم السوري للإخوان استعداده لإعلانه هو مجرد اعتراف مرحلي، مؤقت تمليه الظروف وموازين القوى الداخلية والإقليمية كما العالمية. إن القضية التي يتوجب على الإخوان طرحها وقبل غيرهم هي تجاوز الأحادية العقائدية، وهي قضية غير متاحة لهم ما داموا محكومين بالرؤية الدينية الإسلامية للعالم. إن شرط الديمقراطية هو شرط غير قابل للتحقق على يد الإخوان، لأن الديمقراطية نفي لهم. وإذا كان البعث قد تحكم بمصير سوريا بالشعارات القومية، فإن هذه الشعارات تبقى مع ذلك شعارات دنيوية، قابلة للتفكيك، أما في حالة الحكم الديني فإن الشعارات والمنطلقات هي إلهية ـ سماوية. فإذا ما قيد للإخوان التربع على عرش السلطة في سوريا، فإننا سنقول بأن الهرم الاستبدادي والفساد الذي استغرق بناؤه من البعث أربع عقود من الحكم، سينجزه الإسلاميون في غضون أشهر قليلة.

ومن الجلي أن الإخوان المسلمين في سوريا بعيدون عن القيام بمراجعة للأسس الفكرية لجماعتهم، لا بل أن التنظم بعيد جداً عن أن يكون قادراً على مراجعة تاريخه السياسي الحديث، إذْ تناسى معدو البيان أن التنظيم كان هو الطرف الآخر في الاقتتال الدموي الذي عانته سوريا في ثمانينات القرن الماضي، فإذ كانوا يلقون باللوم على النظام فحسب، فإنهم يغفلون دورهم في سفك دماء السوريين، وإثارة النعرة الطائفية في سوريا، لنقرأ:

"وأننا لسنا طلابَ ثأر، ولا دعاةَ انتقام، ولن نقابلَ الظلمَ بالظلم، بل نحتسبُ عند اللَّهِ ما أصابنا".

 

إن التعاطي الإيجابي من جانب أوروبيين، وإذا حدث من جانب الأمريكيين سيكون محاولة من أجل دمقرطة المجتمع على أسس النازية، وهي ستدفع سوريا بإتجاه أكثر ظلامية، وأكثر مأساوية، وكل ما سيتمخض عنه أن الغرب سيخلق ساحة إضافية لدار الإسلام، والتي ستكون ذات يوم قاعدة لمحاربة دار الكفر. إن الرهان على الإسلاميين بأي شكل هو بناء قواعد كامنة للإرهاب، وإطالة أمد الحرب العالمية الرابعة.

 

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط