هشام محمد / Oct 15, 2008

في المرة السابقة تحدثت عن ختان الذكور، وعن زيف الادعاءات الدينية التي ترجعه إلى النبي ابراهيم، تلك المزاعم الدينية لم تعد اليوم تملك القدرة على الصمود أمام ما حملته الفتوحات المعرفية واجلته الاكتشافات التاريخية.  لقد عرفت الجماعات البشرية منذ بدايات تشكل الوعي الانساني الختان، ولم يبدأ مع خليل الله ابراهيم كما تزعم المصادر اليهودية والاسلامية.  الختان  كطقس بدائي، قد يرشح عن دلالات دينية حملتها عقائد الخصب والفداء، أوعن تعبيرات اجتماعية طبعت العلاقة الهرمية ما بين الذكر والأنثى.  وبالرغم من الجهود الجبارة والمشكورة التي بذلها علماء الانثروبولجي لاماطة اللثام عن تلك الممارسة البدائية، إلا أن هناك مازال المزيد من الأسرار المظلمة، وربما ستضيئها لنا الأيام مستقبلاً.

 

وإذا كان الجزء الأول من المقال قد استهدف نزع الشرعية الدينية التي يتمترس وراءها ختان الذكور، وذلك من خلال عرض لبعض التجارب البشرية التي سبقت بزمن بعيد التاريخ المفترض لشخصية النبي ابراهيم المثيرة للجدل، فإن هذا الجزء الثاني والأخير سيتناول موقف المؤسسة الطبية قديماً وحديثاً من الختان.  وكما نهل الجزء الأول من المقال الكثير من الكتاب القيم للدكتورة سهام عبد السلام فإنني في هذا الجزء سأواصل تلخيص أبرز ما خطته الدكتورة سهام عن دور المؤسسة الطبية التقليدي في الترويج للختان والدفاع عنه قبل أن تتوصل فيما بعد إلى نتائج علمية تتناقض مع خرافة قيام الختان بأي دور علاجي أو وقائي. 

 

هل الختان يعالج الأمراض؟

سادت أوروبا في القرن التاسع عشر مخاوف من انتشار العادة السرية بين المراهقين من الذكور ليس لأنها فقط خطيئة دينية منذ العهد التوراتي، بل لأنها صورت وكأنها مشكلة طبية.  لقد وجد الآباء في ممارسة العادة السرية تفسيراً مقنعاً لتمرد أبنائهم وعصبيتهم ووقاحتهم.  لهذا اقترح الأطباء أنواع مختلفة من الوسائل لاجتثاث هذه "المشكلة"، مثل اعطاء الأولاد نوع من الأغذية والمشروبات لتثبيط النزعات الجنسية، أو أنواع من احزمة العفة تحول دون ملامسة الذكور اعضائهم التناسلية، أو باستخدام النصح والتخويف، أو وضع القضيب في جبيرة من الجبس أو في جراب من الجلد.   وفي حالات شاذة لجأ الطبيب إلى اخصاء الذكر "المريض".  وكبديل لتلك الطرق المرهقة، روج الأطباء للختان كضمان لصحة أفضل، وحياة أفضل، وعصبية أقل.  أما لماذا الختان تحديداً؟ فالسبب يرجع إلى اعتناق الأطباء آنذاك نظرية تسمى بالانعكاس العصبي قبل أن يهتدي الأطباء إلى أن الاصابة بالميكروبات هي من تلحق الأذى بالانسان.  ملخص هذه النظرية يقول أن استثارة الأعظاء التناسلية سوف تنعكس على المراكز العصبية العليا، مسببة جملة من الأمراض، منها الشلل والصرع والجنون.  وبفعل هذه النظرية، لم يتردد الأطباء من استئصال اجزاء من الجسم لعلاج العقل، مثل إزالة البظر للإناث والغلفة للذكر.  فيما بعد، كشفت نتائج التجارب العلمية أن الختان لا يعالج أي من هذه الأمراض، ولا يردع الأولاد عن ممارسة العادة السرية.  لكن هل كان هذا كافياً ليعزف الأطباء عن ممارسة الختان؟ الإجابة للأسف كانت بلا.

 

هل الختان يقي من الأمراض؟

حلول النظرية الجرثومية مكان نظرية الانعكاس العصبي لم يفرغ الختان من محتواه، وسرعان ما تنبه الأطباء إلى دور الختان الصميم في وقاية الانسان من الاصابة بالأمراض مستقبلاً (!).  ومن المؤسف أن جل الأطباء تعصبوا لدور الختان المتوهم في وقاية الانسان من الأمراض استناداً على ما جاء في كتاب ألفه روميندينو عام 1881، مزج فيه – والكلام للدكتورة سهام – المعتقدات الفلكلورية بالقناعات الذاتية.  ومن ضمن ما كتب روميندينو الذي كان ينظر باحتقار شديد إلى غلفة الذكر:

الغلفة بقايا تذكارية من مخلفات التطور، لذلك تعتبر زائدة لا لزوم لها في الانسان الحديث... وللغلفة تأثير خبيث يفعل فعله بأشد الوسائل خفاء وأبعدها عن الظهور، مثلها مثل الجان والعفاريت في القصص العربية الذين يمكنهم أن يطولوا ضحيتهم عن بعد، فيوجهوا له ضربة قاضية على حين غرة.  فالغلفة بالمثل تجعل الرجل ضحية للأمراض والمتاعب، وتجعله غير صالح للزواج ولا للعمل، وتحوله إلى شخص بائس معرض للتوبيخ والعقاب طوال حياته.  ففي سن الطفولة تجعله يتبول على نفسه ويمارس العادة السرية التي تضعفه جسدياً وعقلياً وأخلاقياً، وقد ينتهي به الأمر إلى أن يصير نزيل السجن أو المصحة العقلية.  لذلك تتعلق حياة الرجل بتخلصه من هذا الجزء الذي يعد أعدى أعدائه. 

فبعد أن تهافت الإدعاء القائل بقدرة الختان على العلاج من الأمراض، تحول التبرير إلى دوره المفتعل في الوقاية من الأمراض، وأهمها السرطان.  ففي عام 1932 اجرى أحد الأطباء بحثاً انتهى فيه إلى أن سرطان الأعضاء التناسلية يعد أقل ظهوراً وسط الجماعات اليهودية والإسلامية بسبب ممارستهم للختان.  إلا أن نتائج هذه الدراسة كانت محل انتقادات واسعة بسبب تجاهله لأبسط قواعد البحث، حيث اعتمد على العدد المطلق للمصابين بالمرض دون أن يأخذ بنسبة كل طائفة إلى اجمالي السكان، فضلاً عن اهماله لاعتبارات أخرى مثل المستوى الاقتصادي والاجتماعي والعادات الصحية.

 

هل الرضيع لا يشعر بالألم؟

يعتقد الجميع أن التسريع بالختان سيجنب الطفل الآم مضاعفة فيما لو اجريت له العميلة بعد أن يكبر،  ولهذا لا يعطى الطفل تخديراً اثناء الختان.  هذا الاعتقاد الشائع بين الناس دفع دافيد تشامبرلين في عام 1991 إلى كتابة دراسة عنوانها "المواليد لا يحسون بالألم: قرن من الانكار في الطب".  يقول تشامبرلين أن الأطباء كانوا دوماً يتعاملون مع الطفل كآدمي ناقص للأهلية.  ففي النصف الأول من القرن العشرين، ظن الأطباء أن رد فعل الطفل للألم انعكاس عصبي يحدث دون وعي منه.  وقد فسروا هذا بأن القشرة المخية لدى الرضيع لم تتطور بعد.  إلا أن الأبحاث الحديثة برهنت على العكس، فالطفل يشعر تماماً بالألم، ويعبر عنه بالصراخ وبتعبيرات الوجه.  فعند الختان، يزداد معدل تنفس الطفل وضربات قلبه، ويهبط مستوى الاوكسجين، ويزيد مستوى الكورتيزون في الدم.  أما بعد الختان، فيتغير نمط نوم الطفل، وينسحب تدريجياً من المجتمع، ويختل نمط رضاعته وتفاعله الطبيعي مع الأم. 

يرى تشامبرلين أن ذوي الطفل يختنون طفلهم لتلبية الضغوط الاجتماعية.  وللتكفير عن قسوة هذا القرار، يحاول الأبوان اقناع نفسيهما بأنّ الطفل مازال صغيراً بعد على الشعور بالألم.  أما لماذا يتصرف الطبيب بقدر عال من الصلف والتعالي على الآم الطفل؟ فيقترح تشامبرلين أن الطبيب ينفذ إرادة المجتمع الذكوري الذي يتعامل بقدر من الفوقية مع الأقليات المستضعفة (الأطفال هنا).  وقد يرجع الانكار إلى أن الطبيب يحاول الظهور بمظهر العالم، بما التصق بهم من سمات تقليدية، أهمها تبلد الاحساس وعدم الانزلاق وراء العواطف.  وربما مازال بعض الأطباء مؤمنين بالتصور القديم بأنّ الألم ضروري ومقدس.  وهناك دلائل على أن إنكار الأطباء لآلام الطفل يعبر في الأصل عن التحيز ضد الضعفاء.  ففي بداية دخول التخدير إلى الممارسة الطبية في امريكا، لم يكن يعطى لأي شخص، إذ كان الأطباء يحجبونه عن الزنوج والآسيويين والألمان والأيرلنديين والبحارة والجنود والقرويات والفقراء، بزعم انهم أكثر قدرة على تحمل الألم.

وضّمن رونالد جولدمان في عام 1997 دراسته المستفيضة للختان في كتابه "الختان: الصدمة الخفية".  يقول جولدمان: "إن الأطباء يتجاهلون الآم الأطفال الذين يتعرضون للختان لأنهم مواليد رضع لا يمكنهم مقاومة الختان أو منعه عن انفسهم.  وقد ثبت بدراسة التشريح والتوصيل الكيميائي داخل الخلايا العصبية ووظائف الأعضاء وسلوكيات الرضع أنهم يتأثرون بالألم بنفس كيفية تأثر البالغين به، لكن بقدر أشد". 

وبحسب الجمعية الأمريكية لأمراض الأطفال لبحث موضوع الختان أن نمط نوم الطفل وتعامله مع أمه يتغيران بعد الختان، وأن قدرته على تحمل الألم تقل.  كما عبّرت الأمهات أن يوم ختان الطفل كان الأسوأ في حياتهن، وأن الطفل يصرخ كما لو كان أحد قد ذبحه.

    

لماذا يقبل الطبيب بعمليات الختان؟

يفسر جورج دينيستون في مقالة نشرت عام 1994 تحت عنوان "وباء يسببه الأطباء" قبول الاطباء الأمريكين تختين الذكور في ضوء نظرية الانكار.  فوفقاً لهذه النظرية، يقترح دينستون أن الأطباء الذين سبق وأن أجري لهم ختان في طفولتهم سوف يحققون فوائد نفسية عندما يقومون بتختين الرضع الذكور عندما يكبرون.  كيف؟ تعمل آلية الانكار على تخفيف شعور الفرد بما لحقه من أذى نفسي أو تخفيف شعوره بالذنب لاصابته غيره بالأذى.  ومما يساعد الفرد (= الطبيب) على الانكار أن تتكرر أمامه التجربة المؤذية أو يكررها في غيره.  فبعد كل عملية ختان، يؤكد الطبيب لنفسه أنه مازال بخير وأنه بريء من ايذاء الأطفال. 

ويحلل جولدمان في دراسة منشورة عام 1999 بعنوان "التأثير النفسي للختان" الدوافع التي تحرك الطبيب لاجراء الختان.  يرى جولدمان أن تعرض الفرد لصدمة يخلق لديه دافعاً قوياً لتكرارها في غيره تحت غشاء رقيق من المبررات الواهية.  فالطبيب لضمان استمراره في تختين الصغار يقوم بترويج أوهام، مثل أن الغلفة غير مفيدة للطفل، وأن الطفل لا يشعر بالألم.  ويكمل جولدمان تحليله بالقول أن الأطباء المتعصبين للختان يرفضون بعناد القبول بالنتائج العلمية التي تتناقض مع افكارهم، وبذلك يصابون بالجمود الفكري، ويدافعون باستماته عن معتقداتهم القديمة للتشويش على الشكوك التي تثار حول ممارساتهم.  ويضيف جولدمان أن الأطباء يدعون أنهم يقومون بالختان بناء على طلب الوالدين.  لكنهم في واقع الأمر يخفون عن الأهل المعلومات الصحيحة حول وظائف الغلفة ومضار الختان.  أما الآباء والأمهات فيقولون أنهم يطلبون الختان لأنّ الأطباء يجرونه، وبما أنهم يقومون به فهو بالتأكيد صحي ومفيد للطفل.  وهكذا يتحالف الطرفان ضمنياً لإجراء الختان كونه مقبول اجتماعياً.

وينتقد جولدمان الدور المريب الذي لعبته "العلوم الطبية" في إدامة عادة الختان المضرة وحمايتها بدلاً من مكافحتها والتحذير منها.  يفسر جولدمان أن هذا السلوك المخجل للمؤسسة الطبية يعود إلى أن العلوم ليست محايدة تماماً، بل تتشكل توجهاتها حسب منظومة القيم الثقافية السائدة في المجتمع.  وأحد الأساليب الملتوية التي تسلكها المؤسسة الطبية لإطالة أمد هذه العادة الاجتماعية القديمة هو الباسها ثوب المصداقية عن طريق البحوث الطبية التي تفتقد إلى الدقة.  ألا يذكرنا هذا بأساليب علماء العصر في عالمنا الاسلامي، أمثال زغلول نجار ومصطفى محمود، الذين لا يملون من لوي عنق الحقائق لكي تنسجم مع ما يثار من أكاذيب مضحكة حول اعجاز القرآن والسنة.

 

ما أهمية الغلفة؟

يبدد مقال نشر عام 1999 بعنوان "الغلفة" بواسطة كريستوفر كولد وجون تايلور الأوهام السائدة بين قطاع واسع من الأطباء حول عدم أهمية غلفة الذكر.  يشرح الكاتبان التطور الجنيني للغلفة، وتركيبها التشريحي والمجهري، ووظائفها المتعددة.  تتكون الغلفة في أجنة الذكور والإناث على قدم المساواة، وتكون ملتحمة برأس القضيب أو البظر في السنوات الأولى من العمر لوقايتهما من التهيج بفعل افرازات الجسم، ثم ينفصلان تدريجياً بشكل طبيعي، ويتم ذلك في سن يتراوح ما بين 4 إلى 17 سنة.  تتكون الغلفة مجهرياً من خمس طبقات من الأنسجة الغنية بالأوعية الدموية والأعصاب الحسية المتخصصة في الشعور باللمس الخفيف.  وتعد الغلفة أكثر اجزاء الأعضاء التناسلية حساسية، وتقارن حساسيتها بأطراف الأنامل وحافة جفن العين والشفاة.  وتوجد بالغلفة أيضاً ألياف عضلية شبيهة بالألياف الموجودة بكيس الصفن.  تلعب هذه الألياف دوراً محورياً في حماية مجرى البول من التلوث في الرضع والأطفال بأن تعمل كصمام يسمح بمرور البول للخارج ويمنع اي مواد في الاتجاه المضاد من الخارج إلى الداخل.  وكلما اقترب الذكر من البلوغ، تتناقص الألياف العضلية وتزداد الألياف المرنة حتى يتوازنان بما يسمح بحركة الغلفة بالراحة أثناء الممارسة الجنسية.  كما توجد بالغلفة خلايا مناعية تعتبر من خطوط الدفاع الأولى للجسم عند التعرض لتلوث أو عدوى ميكروبية.  وتفرز الغلفة مادة طبيعية مرطبة تيسر الجماع دون ضيق للطرفين.  وكما تلاحظ فالختان يجرد الذكر من كل وظائف هذا التركيب الحيوي الذي حبته به الطبيعة!

ماذا بعد؟

لقد اقلع بعض الأطباء عن الختان بناء على ما وصل إليهم من معلومات علمية محايدة.  وأخذ البعض منهم على كاهله نشر الوعي بين الناس.  وفي هذا الصدد، ألف بيللي راي بويد كتاب بعنوان "فضح الختان: اعادة النظر في عادة طبية وثقافية"  أن بعض أطباء الأطقال الأمريكين قد امتنعوا تماماً عن تختين الأطفال بعد مراجعات علمية.  ففيما يتعلق بالبعد الطبية للختان، يصف بويد التركيب العضوي للغلفة ووظائفها.  وينتقد بويد استمرار تورط المؤسسة الطبية الحديثة في إجراء الختان والدفاع عنه حتى بعد أن اسقطت البحوث العلمية كل الحجج الواهية التي رافقت الختان منذ زمن بعيد، مرة تحت تبرير العلاج، ومرة تحت تبرير الوقاية من العادة السرية، والأمراض الجنسية، وسرطان العضو الذكري، وعنق الرحم، والتهاب المسالك البولية، وأخيراً الأيدز. 

أما فيما يتعلق بالبعد الثقافي، فيرى بويد أن الختان يمارس بواسطة اتباع الديانات في المجتمعات التي تنتشر بها هذه العادة حتى لو لم يرد بها نص ديني موثوق.  ويمضي بويد بالقول أن الكثير من اليهود الذين وجدوا انفسهم في صراع بين مشاعرهم الغريزية تجاه أطفالهم وبين تلبية نداء الموسسة الدينية، قد أخذوا موقف نقدي شجاع من الختان، واكتفوا في الاحتفال الديني بالمولود بالصلوات، على اعتبار أن الجوانب الروحية هي فحوى العهد الإلهي دون حاجة لايقاع الألم بالطفل وسفك دمه.

ماذا عنا هنا في عالمنا الاسلامي؟  هل ستتراجع عمليات الختان في المستقبل؟  لا أحب أن اكون متشائماً ولكن الأمور هنا تسير للخلف.  نحن في هذه البقعة من الأرض نتعهد بجمع قمامة الأديان القديمة وحراستها من الضياع، والويل كل الويل لمن يريد أن يضرم النار في هذا الركام المتعفن، أو أن يفتح النوافذ لينسكب الضوء والهواء إلى الداخل.  الختان، كباقي المماراسات الاسلامية، محاط بطبقة سميكة اسمها العادات الاجتماعية، وتحتها طبقة أخرى أشد سمكاً اسمها الدين.  والتجارب هنا تبرهن يوماً وراء يوم أن الخرافة مقدمة على الحقيقة، والدين فوق العلم، وإذا اصطدم الدين بالعقل فلا حاجة لنا بالعقل. 

هشام محمد:  affkar_hurra@yahoo.com

================

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط