هشام محمد / Nov 12, 2005

ـ 1 ـ

روي أن علي بن أبي طالب دخل يوماً جامعاً بالكوفة، وفيه رجل من أصحاب أبي موسى الأشعري وقد تحلق الناس حوله يستفتونه، وهو يخلط الأمر بالنهي، والإباحة بالحظر. فسأله علي: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ فقال الرجل: لا، قال علي: هلكت وأهلكت، ثم أخذ بأذنه وفتلها (= فركها) وقال له: لا تقصّنَّ في مسجدنا بعد.


النسخ في اللغة إزالة الشيء
وإلغاؤه، واستبداله بحكم جديد. جاء في القرآن "ما ننسخ من آية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها" (سورة البقرة: 106). والنسخ قي القرآن قسمه فقهاء المسلمين ومفسّروهم إلى ثلاثة أنواع: (1) ما نسخ حكمه وبقي خطه، (2) ما نسخ خطه وبقي حكمه، (3) ما نسخ حكمه وخطه. يضرب ابن سلامه في كتابه الموسوم بالناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم (www.annaqed.com) أمثلة على كل نوع. فمن أمثلة النوع الأول وهو ما بقي في ثلاث وستين سورة: الصلاة إلى بيت المقدس، والصيام الأول، والصفح عن المشركين والإعراض عن الجاهلين. أما من أمثلة النوع الثاني فهو ما يروى أن عمر بن الخطاب قال: لولا أكره أن يقول الناس زاد في القرآن ما ليس فيه، لكتبت آية الرجم وأثبتها، فوالله لقد قرأناها على رسول الله (ص): "لا ترغبوا عن آبائكم فإن ذلك كفر بكم. الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم". أما النوع الأخير، فمنه ما يروى عن أنس بن مالك أنه قال: كنا نقرأ على عهد الرسول (ص) سورة تعدلها سورة التوبة، ما أحفظ منها غير آية واحدة "ولو أن لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليها ثالثاً، ولو أن له ثالثا لابتغى إليها رابعا، ولا يملى جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب".


ـ 2 ـ

بغض الطرف عن ما يتردد عن احتواء مصحف الصحابي أبيّ بن كعب على سورتين مفقودتين وهما سورتا الحفد والخلع، وعن ما يقال عن إسقاط مصحف الصحابي عبد الله بن مسعود للمعوذتين، وعن ما يشير إليه المفسرون والفقهاء من وجود تباينات هائلة بين نسخ المصاحف المتعددة أقلها تفاوت الصياغات والتعابير اللفظية، فإننا سنسقط كل هذا ونسلط الضوء على مصحف الخليفة عثمان بن عفان باعتباره النسخة المتداولة والمقبولة اليوم بين المسلمين. كما هو معلوم، يضم مصحف عثمان 114 سورة، منها 43 سورة لم يمسسها لا ناسخ ولا منسوخ. أما باقي السور فيحوي بعضها على آيات ناسخة، أو منسوخة، أو كلاهما. ووفقاً لابن سلامة فإن عدد السور التي دخلها الناسخ دون المنسوخ يبلغ ستة سور. أما السور التي دخلها المنسوخ دون الناسخ فعددها أربعون سورة. وأخيراً فإن عدد السور التي دخلها الناسخ والمنسوخ فعددها خمسة وعشرون سورة. المشكلة التي ربما لا يتنبه الكثير لخطورتها أن وجود النسخ في القرآن يصطدم من حيث المبدأ بفكرة أزلية القرآن منذ القدم، وهو ما أشار إليه المفكر سيد القمني في كنابه الموسوم ب (الإسلاميات، ص 568) نقلاً عن القمص زكريا بطرس (انظر إلى حوار الأديان: قضية الناسخ والمنسوخ في القرآن. www.fatherzakaria.com


وعموماً، فهذا ليس مجال مناقشة كيفية التوفيق بين إدعاء سرمدية النص الإلهي من جهة وواقع تقلبات وتحولات النص من جهة أخرى. ما أريد استجلاءه هنا أن الجزء الأكبر من الآيات الناسخة لا تميل إلى التشدد والتصلب مع غير المسلمين فحسب، بل أنها تحرض على جذب الآخر إلى الإسلام بقوة السيف وإلا فإن دمه وماله وعرضه ستكون نهباً لسيوف المسلمين. أما الجزء الأكبر من الآيات المنسوخة فهي تشع بروح التسامح واللطف وعلى مد جسور الحوار الودي مع المختلف من دون إكراه أو ترهيب. فعلى سبيل المثال فالآية المعروفة بآية السيف "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد" (سورة التوبة: 4) قد نسخت كما كتب ابن سلامة ما يساوي 124 آية من القرآن (!). وإليك نماذج من الآيات التي صارت بموجب النسخ منتهية الصلاحية.


"لنا أعمالنا ولكم أعمالكم" (سورة البقرة: 139 ).
"لا إكراه في الدين" (سورة البقرة: 256).
"فاعرض عنهم وعظهم" (سورة النساء: 63).
"ما على الرسول إلا البلاغ" (سورة المائدة: 99).
"فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنت عليهم بوكيل" (سورة الأنعام: 104).
"فإن كذبوكم فقل لي عملي ولكم عملكم" (سورة يونس: 41).
"أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" (سورة يونس: 99).
"فاصفح الصفح الجميل" (سورة الحجر: 85).
"فإن تولوا فإنما عليك البلاغ" (سورة النحل: 82).

ـ 3 ـ

لا أذكر من مطالعتي لكتب التراث الإسلامي وجود نص صريح منسوب للنبي محمد يقر فيه بإيقاف العمل بتلك الآيات المنسوخة واستبدالها بآية السيف، لكننا في المقابل نجد شبه اتفاق بين مفسري القرآن على أن آية السيف قد نسخت ما سبقها من آيات. هذا الاعتقاد له ما يبرره تاريخياً، خاصة وأن سورة التوبة تعتبر من آخر ما نزل علي النبي. أضف إلى ذلك، أن النص القرآني يتسم بديناميكية عالية تجعله يسير يداً بيد مع المستجدات الحياتية داخل مجتمع يثرب وتطور العلاقات السياسية والعسكرية مع غير المسلمين. فعندما كان المسلمون أقلية صغيرة، تفتقد إلى عناصر القوة في بداياتها، كان من المنطقي أن يتلبس النص القرآني روح التسامح وأن يعتمد سياسات مرنة لاستمالة الأتباع وتجنب الصدام مع الملأ القرشي. أما عندما اشتد عود دولة يثرب الفتية، وصار لها أظافر وأنياب، فلم يعد هناك مكان لنصوص رخوة، يتعارض العمل بها مع متطلبات بناء سلطة مركزية تفرض نفوذها بحد السيف على مكونات مجتمع الجزيرة.


بالرغم من إيقاف العمل بآيات التسامح والصبر على الابتلاء والدعوة بالحسنى والكلمة الطيبة، إلا أن تلك الآيات مازالت تدخر لليوم الأسود الذي تنحسر فيها قوة الإسلام، وتضعف فيها شوكته، وتشدد فيها الضغوط من القوى الخارجية. خذ مثلاً، عندما تقوم الجماعات التكفيرية الإسلامية المتشددة بأعمال تفجير وقتل هنا أوهناك، ينبري رجال الدين لإعلان براءة الإسلام من تهمة الإرهاب ومما تلطخت به سمعته من دم بالتذكير بآيات نزلت على النبي إبان دعوته السلمية لصناديد قريش في بدايات الإسلام المبكرة، متجاهلين أن الجماعات الإرهابية بدورها تلوح بآية السيف وغيرها من آيات تحريضية على القتل.


من المحتمل جداً أن تكون آية السيف فعلاً قد أسقطت ما قبلها من آيات، لكن العمل بمقتضاها يؤدي إلى جملة من النتائج الخطيرة والمهلكة، كما يتبين أدناه:

تحويل الدين من كونه خيار فردي وخلاص إنساني إلى أيدلوجية تفرض بالحديد والنار، وهو ما عاد مقبولاً في عالم تتقدم فيه حقوق الإنسان وتزداد فيه الحريات.

تحويل العالم إلى ساحة حرب ستحرق المسلمين قبل غيرهم من الشعوب والأمم إذ لا قبل للمسلمين مواجهة الآخر بإمكانياته العسكرية المتطورة.

اكتساب المزيد من العداء والكراهية ليس من قبل اليهود والنصارى بل حتى من أصحاب الديانات الأخرى، إذ أن الخطاب القرآني الموجه للمسلمين بالقتل ينسحب على كل من لا يؤمن بإله الإسلام.

اتساع دائرة التكفير وارتداد العنف إلى داخل الوسط الإسلامي، وذلك عندما تنتهز الجماعات المضطهدة أو المشددة تلك النصوص وتوظفها في تبرير اختلافها - السياسي في الأصل - عن الحكومات القائمة، وهو ما نجد له أمثلة أكثر من أن تحصى منذ خلافة علي ابن أبي طالب إلى يومنا هذا.


ـ 4 ـ

هناك شواهد تاريخية تثبت أن الخليفة عمر بن الخطاب قد قام بإيقاف العمل ببعض الآيات القرآنية، مثل قطع يد السارق في عام الرمادة وتوزيع الأراضي التي حازها الجيش الإسلامي. على الرغم من أن عمر تولى خلافة المسلمين بعد عامين فقط من وفاة الرسول وانقطاع الوحي إلا أنه كان يملك من الشجاعة القدر الكافي لتعطيل النصوص القرآنية الجامدة وعجزها عن مواكبة الواقع المتحرك لإمبراطورية باتت أكثر تعقيداً من مجتمع يثرب الصغير. واليوم لا تجد بعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من يطالب بإعادة طبقة العبيد وبحيازة الرجال للإماء للتمتع والتسري مع العلم أن القرآن والأحاديث لم يذهبا إلى تحريم الاسترقاق. إذا كان الأمر كذلك فما الذي يمنع من إعادة النظر في آية السيف وأمثالها من آيات تضغط نحو مزيد من العنف والكراهية، وتقيم جدار من العزلة عن الآخر بدلاً من الانفتاح عليه؟ مازلت أذكر رد أحد الأصدقاء بشأن آية السيف بقوله: "ماذا بمقدورنا أن نفعل؟ نحن كمسلمين لا نملك خيار التخلي عن آية السيف". من العجيب حقاً أن يقذف فقهاء المسلمين بمائة وعشرين آية من أجل آية واحدة. ومن الغريب أن يتخلى فقهاء ومفسرو القرآن عن آيات تبشر بقيم إنسانية نبيلة وتؤسس لأخلاقيات راقية بآية يتيمة تحمل تصريحاً مباشراً بالقتل. إذا كانت آية السيف قد مهدت لخدمة مشروعات احتلال الأراضي الأجنبية تحت مظلة الجهاد فهل من مبرر لها في عالم اليوم؟

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط