هشام محمد / Nov 01, 2005

ـ 1 ـ

من العبارات التي تجري دوماً على ألسنة المسلمين – العامة منهم والخاصة – بلا وعي أو تفكير أن القرآن يحوي كل ما يتصل بأمور الدين والدنيا. يكفي أن تبدي بعض الشك أو التحفظ على مصداقية هذا الاعتقاد الراسخ ليرد عليك محاورك بالآية القرآنية "وما فرطنا في الكتاب في شيء" (سورة الأنعام: آية 38) أو "ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء" (سورة النحل: آية 89). والحق أن هذا الإدعاء الساذج يفتقد إلى التأصيل النظري والبرهان العملي، بل أنه يصطدم بداهة مع وجود مصادر تشريعية مكملة للقرآن. فلو أن القرآن انطوى حقاً على كل أسرار الدين والدنيا لما كانت ثمة حاجة إلى السنة النبوية كمصدر إضافي ولا إلى العقل البشري ليجترح الحلول ويضع الاقتراحات لمواجهة غياب النص القرآني في ملء فضاءات الحياة المتسعة ومستجداتها.


ربما كان القرآن كافياً للتفاعل مع إيقاع الحياة البطيء نسبياً فترة الدعوة المكية وتأسيس دولة المدينة، وهذا ما يمكن استنباطه بوضوح من الآيات التي كانت تعطي إجابات على تساؤلات الصحابة أو توفر الدعم الإلهي لسلوكيات النبي وتوجهاته. أما بعد وفاة النبي، ومع تسارع وتيرة الفتوحات الإسلامية فقد صار الواقع الجديد أكثر تعقيداً، الأمر الذي جعل من القرآن عموماً عاجزاً عن اللحاق بمعطيات الحياة المليئة بالحراك الحياتي. ولهذا نجد أن الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب يسقط صراحة، وبشجاعة نادرة قلما تجدها في غيره بعض الآيات القرآنية، لانتفاء أغراضها أو لعدم ملائمتها لمتغيرات ظرفية معينة. فمن المعروف تاريخياً أنه أوقف العمل بحد قطع يد السارق في عام الرمادة، ومنع توزيع الأراضي المفتوحة على الجنود لتوفير مصادر الرزق للأجيال القادمة، وأسقط سهم المؤلفة قلوبهم بعدما اشتد عود الدولة ولم تعد بحاجة إلى شراء تحالفات مع غير المسلمين.


ـ 2 ـ

إذا افترضنا جدلاً أن الآيتين القرآنيتين المذكورة أعلاه قصدتا تلبية احتياجات المسلم على المستوى الديني لا الدنيوي، فهذا الفرض لا يصمد أمام طغيان السنة النبوية لا على جوانب العبادات مثل الصلاة والزكاة والحج فحسب بل حتى على جوانب المعاملات مثل التجارة والأحوال الشخصية والعقوبات. فكما هو معلوم، فالآيات القرآنية ترسم الخطوط العامة دون انشغال بالتفاصيل الصغيرة التي تعنى بها الأحاديث النبوية. فعلى سبيل المثال، القرآن يأمر بالصلاة دون تبيان لصفتها وشروطها وأركانها ونواهيها وما إلى ذلك، وهي ما يدخل ضمن وظائف السنة النبوية. لكن دور السنة لم يتوقف عند الحدود التوضيحية أو التفصيلية، بل أنها في أحيان تقوم بإزاحة النص القرآني وتعطيله. ولعل أبرز الأمثلة التي يستحضرها المرء هنا ما يتعلق بعقوبة رجم الزاني المحصن بالرغم أن القرآن يقر عقوبة الجلد بدلاً من الرجم. وفي هذا الخصوص، يورد إبراهيم فوزي (تدوين السنة، رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الثانية، 1995، ص 21-22) بعض الأمثلة على حالات ينحني فيها الحكم القرآني أمام سلطة الحديث. فمن أمثلة ذلك، ما يروى عن عامر بن سعد بن أبي الوقاص أنه سمع من أبيه قبيل وفاته أنه قال نقلاً عن النبي أن الأب لا يرث أكثر من ثلث التركة، وهذا ما أخذ به بعض الفقهاء متجاهلين ما جاء في القرآن. وبالمثل، روي عن امرأة تدعى فاطمة بنت قيس أنها ذكرت بأنها قد طلقت زمن النبي، وأبى زوجها أن ينفق عليها، فذهبت تشتكي أمرها للنبي، فقال لها: "لا نفقة لك ولا سكن، فاذهبي وانتقلي إلى بيت ابن أم مكتوم، فكوني عنده، فهو رجل أعمى، تضعين ثيابك أمامه فلا يراك". ورغم أن عمر بن الخطاب قد أنكر هذا الحديث الآحاد إلا أن بعض من الفقهاء مال إلى قبوله والعمل به حتى وإن تناقض مع القرآن صراحة. نخلص من ذلك أن القرآن، من منظار ديني، لا يكفي لوحده لاعتبارات كثيرة منها عمومية ألفاظه، واستغراقه في الإشارة إلى أخبار الأوليين وأساطيرهم، وتذكيره إلى ما ينتظر المؤمن من نعيم والكافر من جحيم. وإذا وضعنا هذا جانباً، فإن السنة النبوية بما تكتنزه من رصيد متراكم من الأحاديث المنحولة والتي لا ينكرها منصف قد نجحت في أحيان كثيرة في إقصاء النص القرآني.


ـ 3 ـ

أما على المستوى الدنيوي، فإن الشقة بين القرآن والدنيا بعيدة، وتزداد المسافة بعداً كلما تقدم الزمان واستجدت المتغيرات. ولو أن القرآن وضع – مثلاً – نظاماً للحكم لما وقعت الخلافات الدموية بين أصحاب النبي وما خلفته من آثار وجراحات مازالت تشطر المسلمين إلى فرق متحاربة حتى يومنا هذا. البعض قد ينبري دفاعاً عن سكوت القرآن بقصد ترك فسحة للعقل البشري ليعمل ويفكر بلا قيود. قد يبدو هذا التبرير مقبولاً إلى حد ما، ولكن لماذا يسرف القرآن أو الحديث في أمور صغيرة مثل كيفية الاضطجاع والمعاشرة الجنسية وسجود السهو وما يقوله الرجل عند ركوب دابته وهي لا ترقى أبداً لمستوى السياسة وأمور السلطة؟ الغريب هنا أن العقل عندما يتبنى النماذج الغربية لردم الفجوة في الفكر الإسلامي سرعان ما يواجه بهجوم حاد باعتبار أنها نماذج كافرة تجعل من الشعب مصدر للسلطة وليس الله! وإذا عدت للوراء وإلى التراث الديني من قرآن وسنة ومؤلفات فقهية فلن تجد إلا معلومات ونتف هزيلة لا تسمن ولا تغني من جوع. الكثير مازال يصر على أسبقية القرآن وعلى أن ما في آياته يفوق ما تفتق عنه العقل البشري من وضع قواعد وأسس لإرساء مبادئ العدل والمساواة والحرية. وإذا طلبت البرهان، حدثوك عن الشورى، وهي لجهلهم أو لتجاهلهم، عادة عربية مارستها قبائل العرب قبل الإسلام. ثم أن الشورى كمبدأ يفتقد للتأصيل النظري، فالبعض إلى يومنا يعتبرها ملزمة والبعض الآخر اختيارية. وهي فوق ذلك تهمش عامة الناس، كما أنها لم تطبق تاريخياً إلا لماماً وكان الحكم في النهاية للخليفة أو السلطان.



أما حرية التدين والتفكير فقد انتزعها الإنسان بعد صراعات مريرة، كلفت النفس والنفيس، ولم
تُهْدَ يوماً لا من خليفة ولا من القرآن. أما ما يقال عن حرية التدين وفق الآية القرآنية "لا إكراه في الدين" فهي لدى فقهاء الإسلام منسوخة بآية السيف وبالحديث المنسوب للنبي "من بدل دينه فاقتلوه". وإني لا عجب من كل ما يقال من أن القرآن هو أول وثيقة لحقوق الإنسان مبررين رفضهم لإعلان حقوق الإنسان، مع العلم أن القرآن مؤسس على ثنائية المسلم / الكافر، الحر / العبد، الرجل / المرأة. ولو أغمضنا عيوننا عن جملة الآيات التي تدعو لتصفية الكفار لعدم قبولهم بالإسلام فإن القرآن لم يهاجم تقسيم البشر إلى طبقتين من الأحرار والعبيد وهذا ما يفسر لماذا ترددت الحكومة السعودية طويلاً قبل أن تلغي نظام الرق رسمياً قبل حوالي أربعة عقود. قد يحتج البعض بالآيات التي "تشجع" على عتق العبيد ولكن التشجيع ليس كافياً لإنهاء العبودية، ولو صح ذلك لما امتلأت قصور الخلفاء والوزراء والميسورين بالعبيد والإماء والجواري.


ـ 4 ـ

يستفاد من هذا كله، أن القرآن في مجمله نص جامد غير قابل للتكيف مع واقع متبدل لا يقف عند حال. هل مازال بإمكان الرجل تملك سراري للمتعة الجنسية؟ هل مازالت شهادة المرأة تساوي نصف شهادة الرجل؟ هل كل اليهود والنصارى هم أعداؤنا ويجب قتالهم؟ هل يجب علينا قتال كل مشرك بعد انسلاخ الأشهر الحرم؟ القرآن ما هو إلا وثيقة تاريخية تخص مرحلة انقضت وليس من المعقول تطويع الواقع المتغير لينسجم مع نص ثابت ومستقر. لا أقصد هنا التخلي عن القرآن أو نبذه، فهو في النهاية نص مقدس وله احترامه، ولكن ما أرمي إليه هو التعامل العقلاني بعيداً عن المكابرة والعواطف الدينية المتأججة، وهذا لا ينقص من قيمة القرآن ولكن ما يضر به تلك المبالغات الزائدة التي تجعل منه وعاء لكل المعارف والعلوم ومصدر لتأريخ حياة الأمم الغابرة واستشفاف خبايا المستقبل.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط