هشام محمد / Aug 13, 2009

كيف عرف المسلمون بوجود الله؟  سيقولون لك إنه العقل.  العقل وحده هو من قاد المسلم لتلك الحقيقة الباهرة، كما قادت بعرة البعير ذاك الأعرابي المجهول للتسليم بوجود الله وحده لا شريك له.  ياله حقاً من دليل مفحم يقذفه المؤمنون في كل مرة كحجر في أفواه الملاحدة واللادينيين!  لست هنا للبحث عن الله، فتلك قضية لا تؤرق عقلي كثيراً، فالله مستودعه القلب والإيمان والغيب.  اكتب هنا لأنّ المسلم يراهن زوراً على العقل في اكتشاف سر الوجود، ألا وهو الله.  والحقيقة أن المسلم عرف الله ليس من خلال عقله، بل من خلال أبويه والمدرسة والشارع والمسجد والسلطة.  هل فكر كل منا في وجود الله؟  ثم، هل قادنا العقل جميعاً لنفس الاستنتاج؟!  أي اعجوبة تلك التي تقود كل مراكب الروح الضائعة إلى مرافيء الله الدافئة؟! 

 

دعونا نصدق مع انفسنا ولو قليلا.  لنقل أننا ورثنا الله، كما ورثنا ماضينا وتقاليدنا وعاداتنا وأفكارنا.  سيأتيك من يقول: كفاك أيها الكاذب! فالله في محكم كتابه الكريم حثنا في اكثر من موقع أن نفكر ونتفكر ونتدبر ونتأمل.  نعم، لقد أمر الله الانسان في مواطن عديدة أن يحكم العقل ولكن فقط في البحث عن الله والتسليم بألوهيته.  لم تنطو آيات القرآن على أوامر بإعمالِ العقل في شؤون الدنيا، وإنما انصرفت إلى توجيه عقل المتلقي إلى السماء حيث يجلس الله على عرشه الوثير.  ما من أحد يجرؤ على التفكير، أو يخاطر بالدخول في حقل الاسئلة الشائكة والموجعة، وهو تحت ظلال سيوف التكفير، وعقله مكبل بأصفاد التحريم.  نقول كذباً، أن نور العقل هو من مزق حجب الظلام، وبدد غيوم الحيرة، ليتبدى لنا الله من بعيد.  نكذب، ونصدق كذبنا، كل هذا حتى نقنع انفسنا، ونقنع الآخرين أن ايماننا قائم على ركائز المنطق، ومبني على براهين العقل، والعقل منا بريء.

 

إذا سلمنا أن عقل المسلم دون غيره هو من حل هذه اللغز الكوني الغامض، فلماذا توقف عند باب الله، ولم يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؟  اقصد، أن اكتشاف صانع ومدبر هذا الكون ليس بالأمر الهين، وهو ما يستدعي وجود عقل ذي امكانيات هائلة، وعبقرية لا تتوفر لباقي الأمم.  إذا كان الأمر كذلك، فلماذا غاب عن هذا العقل الخلق والابداع بعد اكتشافه المذهل لله؟  إن أمة كأمة الإسلام حري بها أن تبز باقي الأمم والشعوب في ميادين العلم والتطور، إلا أن المشاهد أنها مجرد عالة وعبء على الغير، بشهادة المسلمين انفسهم.  ودع عنك ما يردده المسلمون من مبالغات عن فضل علمائها المسلمين على أوروبا والعالم بأسره في أزمنة العصور الوسطى.

 

يتحاشى المسلم الاعتراف صراحة بدور الوراثة والتقليد والتبعية في تسليمه بوجود إله، وإله واحد فقط لا غير، لهذا يتذرع بالعقل وببعرة بعير ذاك الأعرابي المجهول لتدعيم ايمانه بالله.  تلك الحظوة المباركة والمنزلة العليا التي يفوز بها العقل هنا سرعان ما تسلب منه عندما يتعلق الأمر بتطبيق العبادات، وممارسة الطقوس، وتدبر الآيات، وتأمل الأحاديث، واعمال الفكر في شؤون الحياة.  يغدو توظيف العقل بعد أن فك شفرة السماء رديفاً للزندقة والشك وهشاشة الايمان.  أي مكان للعقل وسط كل زحام تلك الممارسات الدينية المتوارثة أباً عن جد؟  لطالما تساءلت غير مرة: لماذا صلاة المغرب ثلاثة ركعات؟ وما الحكمة من ارتداء الثوب مقلوباً عن استسقاء المطر؟ ولماذا يبيت الحجيج في عرفة؟  وكيف تتسلل نسائم المحبة إلى دواخلنا ونحن في صلاتنا نلعن فيها أبي لهب وزوجته وأمية بن خلف وفرعون؟  وما السبب من وراء تقديم اليمين على الشمال؟  ولماذا يتزوج الرجل من أربعة نساء كحد أقصى؟  ولماذا يدفع الغني ربع عشر ماله فقط؟  لن اكتب المزيد، فاسئلة العقل تتناسل بجنون وبلا حدود، ولكن لا جواب شافي لها.  جرب أن تطرح مثل تلك الاسئلة على أي مسلم، شيخاً كان أم لا، أغلب الظن أنك لن تجد غير الزجر والتقريع.  أما إذا نجح في كظم غيضه وراء ستار ابتسامة زائفة، فستأتي اجاباته مجردة من العقل والنطق.  وإذا لم يستسغ عقلك تبريراته، فالعيب والقصور فيك أنت وحدك، أيها البائس المسكين!

 

عندما تتنبه إلى أنك قد ولدت من أبوين مسلمين، أو من أب مسلم، فيجب أن تتصرف كما فعل الخليفة العادل عمر بن الخطاب عندما استقبل الحجر الأسود، ثم قال: "إني اعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك".  هذا هو الإيمان الأبيض الشفاف في اجلى معانيه.  وأياك أن تفعل كما صنع ذاك الشقي العراقي "صنيع" الذي ساح في بلاد الإسلام بحثاً عن المتشابه من القرآن.  وعندما سمع بمجيئه والي مصر عمرو بن العاص، قام بتسييره إلى الخليفة عمر بن الخطاب في المدينة.  وعندما دخل صنيع على عمر، قام عليه الأخير بعراجين النخيل يضربه على رأسه بها حتى شجه وسالت الدماء على وجهه.   ثم ارسله إلى العراق بكتاب إلى أبي موسى الأشعري يأمره فيه ألا يجالسه أحد من المسلمين.  تلك ضريبة العقل المتوقد، المولع بالبحث، والهائم وراء لذة الشك في بلاد الإسلام والمسلمين.  لا أحد يمنعك أن تحكم عقلك في كل مناحي الحياة، إلا الدين فليس لك إلا الاذعان والتسليم والانقياد الأعمى، وإلا سيكون مصيرك كمصير صنيع وباقي المفكرين الذين دفعوا حياتهم ثمناً لعقولهم.  كمسلم بالوراثة يتحتم عليك أن تفعل كما فعل النبي الكريم والصحب العظيم، ففي اتباعهم منجاة من الزلل، وحفظ من الوقوع في الأمر الجلل.  إن فعلوا فعلنا، وإن انتهوا انتهينا، وإن قاموا قمنا، وإن قعدوا قعدنا.  هذا هو الدين الذي يقال أن العقل هو كلمته السرية! فأي هراء وتلفيق هذا؟ 

 

لا أفهم، كيف لأمة تدعي أن العقل هو طريقها المفضي إلى الله، ويديها ملطخة بدماء الجعد بن درهم وغيلان الدمشقي وابن المقفع وصالح بن عبدالقدوس وبشار بن برد والسهروردي وفرج فودة ومحمود محمد طه ومهدي عامل؟!  هل كفر هؤلاء المغدورين بالله الواحد الأحد؟  لا أحد يقول بكفرهم، لكنهم حملوا رؤى وأفكار جديدة أثارت مخاوف السلطان الجائر، وافزعت الفقيه البليد المتاجر ببلادة الناس وغباءهم.  وكيف لأمة تراهن على العقل، وهي تمجد وتعظم رؤوس التقليد والاتباع، وتوقر وتقدس أعداء الفكر والإبداع، من امثال ابن حنبل وابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبدالوهاب وبن باز والعثيمين؟!

affkar_hurra@yahoo.com

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط