الاسم لدى الناقد / Nov 20, 2007

 

لا أعرف ماالذي كان يفكّر به المبدع الكبير "سعيد عقل" عندما قال ما قاله في الشام.
أعلم أنّ نظرة الشعراء تختلف عن نظرتنا نحن البسطاء، فهم يتكلمون وأرواحهم تهيم مع أصوات العصافير، وحفيف أوراق الشجر وعبير الزهور، وهمسات الملائكة في الفضاء الوسيع، لذا لن تستطيع أن تأخذ من كلامهم إلا أوصافاً وهمية غير ملموسة، لا تتجاوز تخوم الخيال والحنين.
أمّا نحن الكادحون، النقابيون الاتحاديون النخبويون، الرّعاع والمتشردون، من تنحشر أجسادنا في زحمة كراجات الست زينب وتمتزج أرواحنا وأفكارنا مع ضجيج السرافيس، وروائح العرق المقززة، وزعيق الباعة المتجولين، ومعاكسات الزعران، سنكون أفضل دليل لك في هذه المدينة المشمسة المغبرة.

عندما تخرج رأسك من باب الطائرة، التي هبطت بك في مطار دمشق الدولي، ستبدأ رحلة التعرّف على الشام من جديد.
سيلفح وجهك الهواء الحار، وتتنسم روائح الغبار، وستستقبلك لجنة الذباب بحفاوة.
ـ شآم أنتِ المجد!!!. ابدأ رحلتك وأنت تترنم بأغنية فيروز. (ومن يدري بمَ ستترنّم في النهاية!)


ادخل المطار، لتطالعك وجوه أبناء بلدك الباسمة، فتعتمل الأشواق في قلبك، وتطلق العنان لدموعك الحارّة...
اذهب إلى كوة ختم الجوازات، واملأ رئتيك برائحة سيجارة "الحمراء الطويلة" التي يدخنها الضابط، واحرص على أن تكون (حاسب حسابو بكام غرض من محل ما جيت)، وإلا سيشنّف أذنيك بكلام غير مستحبّ.
وانتبه ألا تطيل الوقوف أمام الكوة، وإلا فإنّ الرجل الواقف خلفك سيضطر آسفاً إلى تحطيم رأسك!
دعِ كراج الهوب هوب الطيراني وشجونه خلفك، وتذكر: لا نريد أن تفسدَ رحلتَك أيّ منغصاتٍ مهما كانت.

على الطريق السريع، وبعد أن تبتعد مسافة 20 كيلومتراً عن المطار، انظر نحو اليمين، لأنه في هذه الجهة توجد "جرمانا"، البلدة المجعلكة، التي تنام مطمئنة في أحضان الغوطة الجرداء... آآآ...قصدي الخضراء!
هذه البلدة كانت مكونة من مزيج لطيف من الدروز والمسيحيين، أما الآن فقد تحولت إلى "نيو فلوجة"، وازدهرت فيها تجارة الوافدين العراقيين، ولا سيما المطاعم (هنا ستسمع للمرة الأولى ربما بالكص العراقي، والسمك المسكوف)، علاوة على مكاتب السفريات.
لا تحاول سبر أغوار "جرمانا" كثيراً، لا داعي... ولكن إن كنت مصراً، احرص على أن تؤمّنَ على حياتك بمبلغٍ كبير!
هناك، ونظراً لانعدام وجود الأرصفة، إما أن تدهسك السيارات، أو تدهسك البسيكليتات، أو يدهسك البشر... نقّي واشتهي!
طبعاً يوجد الكثير من الأساليب التي يمكن أن تموت بها هناك، كالوقوع في حفرة صب أساسات مبنى مخالف، أو جورة تفتيش، والذي منو...
اكتفينا من جرمانا، اركب السيارة ولننطلق إلى باب شرقي والقصاع.

المنطقة هناك لا زالت محافظة على تركيبتها المسيحية، ولا يخلو الأمر من بعض التسلل الإسلامي عبر الحدود مع جوبر.
المأساة تكمن في الجرائم التي ترتكب بحق المدينة القديمة (الجزء الواقع ضمن نطاق السور)، فهي تتعرّض لغزوة استثمارية بشعة، بدءاً بالمطاعم الحلال التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وصولاً إلى المولات التجارية، ومن يدري بماذا ستنتهي، وقد انخفضت نسبة السواح الأجانب بشكل ملحوظ خلال السنوات الخمس الأخيرة، والسبب معروف طبعاً!
فالسائح القادم من أوروبا أو أميركا، لا يرغب في رؤية مول ضخم، ذي بشرة زجاجية لماعة، ولا يرغب في الجلوس داخل مطعم إسلامي!
مرّة أخرى، لا تفرح كثيراً بالتحرك سيراً في هذه المنطقة، فحركة السيارات فيها شبيهة بتلك التي في حلبة تصادم السيارات في مدينة الملاهي!
لنترك الآن المدينة القديمة، ونتوجه إلى القصاع والغساني، حيث الأجواء المشبعة بصخب الشباب والصبايا وضحكهم... (ملاحظة هامة: لا تستغرب ارتباط المرح والأجواء البهيجة بالمناطق المسيحية)
...وفجأة، تبرز من بين الجماهير شقراء فاتنة، خرجت لتوها من عند الكوافور، تبدو كأنها تعرفك، تُبعدُ عن أذنها السيلولير، لتلقي عليك التحية "القصاعية":
ـ أووو... هاي شيري  Comment ça va
ودون أن تنتظر منك إجابة، تنساك بسرعة البرق، وتسير مبتعدةً بخطوات راقصة، لتعود إلى مكالمتها مع "الشيري" الآخر.
الكنائس هناك لا زالت على حالها (الحمد الله... نعمة كريم)، لا بل أضيفت إليها بعض الملحقات كصالات المناسبات، ودور العجزة والأيتام.

فلنتوجه الآن غرباً نحو قلب الحدث، نسلك أولاً شارع مرشد خاطر، وصولاً إلى شارع الثورة، ومنه إلى "داون تاون" دمشق النابض بالحركة والحياة والعمل، والشقاء والتعتير وخيبة الأمل!
المباني البرجية عديمة الشخصية التي اكتسحت مركز المدينة، جعلت من منطقة ساروجة القديمة مدينة أشباح. (وهذا مصير المنطقة القديمة كلّها داخل السور وخارجه وحياتك).
وفي نفس المكان، يقوم مبنىً شهير للغاية، لكن لا تدع خيالك يسرح بك بعيداً! شهرة هذا المبنى لم تأتِ من جماله أو أهميته أو ضخامته، بل جاءت من كونه أوّل مبنى في العالم يصبح أثرياً قبل أن يكتمل بناؤه (يعني لساتو على العظم!)
عرفت عن أيّ مبنى نتحدّث؟ برافو! مجمّع يَلْبُغا (حكى لي جدّ جدّي –الله يرحم ترابو- أنّ هذا المبنى كان من المقرر أن يكون مشفىً وجامعاً، لكن بعض الظروف "القاهرة" أوقفت إكماله).
فلنكمل، ونعبر جسر فيكتوريا، إلى شارع بيروت... أم أنّك تعبت وتحتاج للرّاحة؟


قبل أن نصلَ إلى جسر الرئيس، وتخنق ضوضاؤه أصواتَنا، لنلقِ نظرة على هذا المبنى الأبيض، شاهق الارتفاع والبشع جدّاً.
أقدّم لكَ يا عزيزي فندق "الفورسيزنز"... فخمٌ أليس كذلك؟ لا تنظر إليّ هكذا، لن نستطيع المبيت فيه، فعلاوة على أسعاره الكاوية كذلك لن أتخلّى عن مبادئي التي تتضمن كراهيةً لا توصف له.
هذا الفندق، قد اقتحم المنطقة كما اقتحم "غاليفر" أرض الأقزام، فأخلّ بالتوازن البصريّ والحجميّ لمدينتنا المرهقة، وأمام من يا أصحاب المعالي ورؤوس الأموال؟
أمام أيّ أمكنة تجرّأتم وجبلتم كتلتكم القبيحة هذه؟ أمام التكيّة السليمانية التي تستخدم جدرانها كمبولةٍ لحراّسها؟ أم أمام المتحف الوطني الذي تنزّهتم عن تخصيص مبالغ بسيطة جدّاً لإصلاحه وصيانته؟
هل من عاقلٍ في هذا العالم يمكن أن يصدّق أنّكم بنيتم "الفورسيزنز" وبجانبه "روتانا كافيه"، وعلى بعد خطوات منهما، تئنّ آثار الحضارة السوريّة، المتروكة في الهواء الطلق ضمن حديقة المتحف، لتتلاعب بها العناصر المتلفة والعوامل الجوية؟... لتحلّ بكم ألف لعنةٍ ولعنة!

بالمناسبة، ما رأيك بتناول الـ "كوفي" أو الـ"هوت شوكليت" في "روتانا كافيه"؟ لا ترفض بحجة الشفقة على ذوي الأظافر المتسخة الذين يأكلون "الفول النابت" على العرباية تحت جسر الرئيس! ولو... الدنيا مقامات...
لا أنكر أننا لازلنا متمسّكين أشدّ التمسّك بالهدف الثالث من أهدافنا الوطنية والقومية، لكن ما العمل؟ إنّها "روتانا كافيه"!

لنكمل الغناء:
إذا على بَـرَدَى حَـوْرٌ تأهَّل بي

أحسسْتُ أعلامَكِ اختالتْ على الشّهُبِ


ما هو بردى؟... أتجرؤ وتسأل ما هو بردى؟ هذا المجرور العظيم، ألا تتنشّق الرائحة العطرية النفاذة؟ ألا ترى هذه المياه الخضراء التي تجري رقراقة صافيةً؟
إليك عنّي... فأنت لا تعرف بردى! أو امشِ وأنت ساكت، لأننا وصلنا إلى ساحة الأمويين، وسأصلبك في وسطها إن لم تسكت.

brada

إلى أين تريد الذهاب الآن؟ أبو رمانة والمالكي؟ طيب، لكن لا تطلب منّي الجلوس في أحد مطاعمها، فهي ليست صالحةً لفصيلة الفقراء والمحتاجين.
عرفتُ أنّك ستلاحظ هذه الظاهرة الغريبة في الأحياء الثرية، فالأطفال هنا يمشون مع أمهاتٍ قصيراتٍ نحيفاتٍ بشكل مخيف، وعيونهنّ مائلة ضيقة... برافو يا شاطر إنّها سمات العرق الأصفر.
علامَ الاستغراب يا صاحبي؟ هؤلاء النسوة لسنَ أمّهات، إنهنّ خادمات! ويوجد عددٌ لا بأس به منهنّ دون السنّ القانونية للعمل، تستقدمهنّ مكاتب التشغيل، و"تشتريهنّ" عائلات الهاي كلاس للخدمة في البيوت، ورعاية أولادٍ غالباً ما يكونون في أعمارٍ متقاربةٍ معهنّ!
لا تبحلق فيّ هكذا، نحن بلدٌ متخمٌ بالمحبة والسلام، واحترام حقوق الإنسان، فماذا لو تاجرنا قليلاً بلقمة غيرنا؟ لمَ لا نفتحُ المجال أمام تجارة الرّقيق الآسيوي لتزدهر عندنا كما ازدهرت عند سوانا؟ لا تغرنّّك مظاهر الفقر المدقع والبطالة المتفشية، فهذا كلّه "حكي جرايد"، يا أخي كيف سنتابع مسيرتنا التحديثية دون فتيات أندونيسيا والفيليبين وأثيوبيا... خلّيك "أب تو ديت" يا رجل!

هيا بنا إلى دمّر، فإنّي ألمح في عينيك نهماً لا يوصف لرؤية ما تغيّر فيها.
تستطيع تشبيه دمّر برأس هذه المدينة الذي لا زال عالياً يحاول أن يتنفّس، في حين أنّ الجسم بأكمله غارقٌ في لجج التلوّث القاتل، لكن انظر إلى مخططه العام وسترى العجب.
طج! بف! طج! بف! هذه هي تشكيلة مباني دمّر السكنية، وما أبشعها من تشكيلة!
الشيء الوحيد الجميل فيها، هو الكنيسة البسيطة الأنيقة، التي تشترك فيها الطوائف المسيحية على اختلافها، وقد رفعت أسعار البيوت حولها بشكل ملحوظ.

سنسلك الآن طريق الربوة لنعود أدراجنا ونغوص من جديد في زحمة المدينة.
لازالت مقاهي الربوة ومقاصفها موجودة، لكنّها ليست بالحالة نفسها التي تركناها عليها منذ سنين، فأصحاب المقاصف جميعاً استطاعوا إلى الحج سبيلاً، وارتدوا لبوس التقوى والورع، وحولوا مطاعمهم إلى "معالف" (التسمية الدارجة للمطاعم الإسلامية).
المعالف الإسلامية هنا تتوزع على ثلاث فئات:
الأولى: ترى فيها الرجال، والرجال فقط!
الثانية: مقسومة أتوماتيكياً إلى حرملك وسلاملك، والمحصنات الحافظات للغيب، تشكلن نسبة 100% من مجموع النساء الموجودات.
الثالثة: لا تستطيع رؤية ما يحدث فيها خلف الجدران، لكن السيارات المتوقفة بجانبها والتي تحمل بمعظمها لوحات سعودية، وأضواءها الخافتة الحمراء، تفسّر لك كلّ شيء.
كن على ثقة بأنّ الفئات الثلاث حلالٌ بحلال، وكلّها تمثّل الأعراف الأخلاقية لأصحابها بنفس الدرجة.

===================

للموضوع تتمة...

 

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط