محمود كرم / Mar 24, 2008

الإنسان عموماً حينما ينتقل من حالةٍ إلى حالة أخرى، أو من مستوى إلى مستوى آخر، أو من ذاكرة إلى ذاكرة أخرى، أو من شعور إلى شعور آخر، أو من لحظةٍ إلى لحظة أخرى، أو من زاوية إلى زاوية أخرى، أو من فضاء إلى فضاء آخر، أو من عقيدة إلى عقيدة أخرى، إنما هو في حقيقة الأمر ينتقل من فراغ إلى فراغ، فالإنسان دائماً ما يقترف حياته مرتحلاً من فراغ أودعَ فيه شيئاً من روحه وفكره وتجاربه ومشاعره وأحلامه وآلامه وتوجعاته ومسرّاته وعلاقاته وتأملاته، إلى فراغ آخر يتأهبُ له استعداداً وتوثباً واندفاعاً ليسكبَ فيه تالياً حالةً أو مستوى أو ذاكرةً أو فكرةً أو شعوراً أو لحظةً من تجاربه وفكره وروحه وكل ما يتهاطل به، سواء أكان سلباً أم إيجاباً..

 

فالحياة عموماً تتشكل وتتبلور وتتلوّن وتتفرع وتتمسرح في فراغات عديدة ومتعددة، وتكشف لنا أيضاً عن حالاتها وجوانبها وبراعتها حينما تتشكل في فراغات كثيرة، وقد تتقولبُ الحياة أيضاً في فراغات تتسع لها أحياناً وتضيق عليها في أحيان أخرى، والإنسان في كل ذلك يخرج من فراغ ما، ليجد نفسه متكوماً في فراغ آخر ربما يكون أكثر اتساعاً أو ربما أضيق مساحةً من السابق، وليسَ شرطاً أن انتقال الإنسان من فراغ إلى فراغ يكون بدافع من الاقتناع، فالانتقال في عموم أشكاله ومكوناته ربما ليس من شروطه واشتراطاته أن تتوفر فيه حالة اقتناعية، فقد يخرج الإنسان من فراغ ما من غير اقتناع، وقد يدخل في فراغ آخر من غير اقتناع أيضاً، فعادةً ما يكون الانتقال ما بين الفراغات عاكساً لحالةٍ إنسانية قد تتلخّص في لحظةٍ اقتناعية ذاتية مستقلة، أو قد تتمثل في رغبةٍ ملحة لمجرد التطابق الكلي والتماهي الكامل مع حالةٍ أو صورة أو فكرة أو ذات أخرى، وما بين الانتقال من فراغ إلى فراغ، هناك ثمة مسافة من الوهم وثمة مسافة من الحقيقة تتربصان بالإنسان عند كل مرحلةٍ انتقالية، فقد يكون الانتقال محض خيال يتولد في مسافة من الوهم، أو ربما قد يكون الانتقال محض حقيقة تتولد في مسافة من الفعل الواقعي تجتمع في ممارسته وتفعليه وتوجيهه حواس الإنسان وإدراكاته.

 

ولكل فراغ مساحة خاصة به، وهي المساحة التي تتشكل في الكم أو في النوع، أليسَ فراغ الشهوة مثلاً أياً كان نوعها يقابله فراغ الاحتياج، يأخذ شكلاً في الكم أو شكلاً في النوع، وشكلاً في الحجم أو شكلاً في المستوى، هذا الفراغ بطبيعة الحال يبحث عن الامتلاء، وسواء وجد امتلاؤه في الكم أم في النوع، فإنه في نهاية الأمر فراغ ينتقل بالإنسان من حالةٍ إلى حالة أخرى ومن لحظةٍ إلى لحظة أخرى وربما من حياةٍ إلى موت أو من موت إلى حياة، وقد يكون فراغاً ينقله الإنسان معه إلى فراغ آخر يجد فيه استيفاءً كاملاً لشروطه في الشهوة المبتغاة، أو لشروطه في تراكم الفراغات، وكل ذلك الانتقال هو في حقيقته المباشرة أو المواربة أو حتى الفاضحة تعكس حالةً من حالات الإنسان في تعالقهِ المكثف مع حركة الحياة من حوله..

 

وأليس فراغ الدهشة على سبيل المثال يقابله فراغ المعرفة، أو فراغ ينتظر أن يتشكلَ في فراغ الألوان، ألا تأتي المعرفة من فراغ ما ولا تلبث أن تبحث عن فراغ آخر، وتبقى هكذا تتخلق في سِفر الانتقال من فراغ إلى فراغ، ويبقى الإنسان يقترف وجوده منتقلاً من فراغ الدهشة إلى فراغ المعرفة، ومن فراغ المعرفة إلى فراغ الدهشة، أليس المبدعون يأتون من فراغ الدهشة ويرتحلون به إلى فراغ المعرفة، وينطلقون به مجدداً إلى فراغ الدهشة، أليست خيالات الطفل وانطباعاته تتخلقان في فراغ الدهشة، ويبقى ينتقل به إلى فراغ المعرفة، ومن فراغ المعرفة والدهشة تبدأ رحلته في الحياة..

 

ألسنا نمارس حياتنا ألقاً وحماساً وتفاؤلاً، وفي بعض الأحيان نمارسها تشاؤماً واكتئاباً وخمولاً، ألا يعني ذلك إننا ننتقل من فراغ التفاؤل إلى فراغ التشاؤم، ومن فراغ التشاؤم إلى فراغ التفاؤل، ولا يحدث هذا الانتقال في أغلب أحيانه وفقاً لقواعد العقل والمنطق، بل ربما قد يحدث انطلاقاً من حالةٍ نفسية تأثرت بشيء قبيح أو بشيء جميل، بشيء رديء أو بشيء جيد، بمرض أو عافية، بانكسار أو فرح..

 

وحينما نُمعن في الحياة، نتقصّد حثيثاً جوانبها المشرقة، فإننا بذلك ربما نملك قدرةً على التحديق جيداً في فراغ الجمال والألق، وفي مقابل ذلك حينما لا نرى في الحياة إلا جانباً معتماً، فإننا بذلك ربما نستهوي فراغ الكآبة والاقتعاد والتكلس، إنه الانتقال من فراغ أودعنا فيه شيئاً من الألق والإبداع والحب إلى فراغ نملؤه بشيء من الحزن والحسرة والقلق وربما الكسل أيضاً، هذان الفراغان في كلتا حالتيهما قد يتشكلان في مساحةٍ ما أو في علاقةٍ ما أو في ذاكرة بعينها..

 

والإنسان حينما ينتقل من فراغ الإيمان بشيء، إلى فراغ التمرد عليه أو الكفر به، ألا يعني ذلك أنه قد تعمّد الخروج من اكراهات ذلك الفراغ، من اكراهات تعاليمه ووصاياه ونصائحه بحثاً عن فراغ يجد فيه شروطه واشتراطاته الذاتية، وألا يعني ذلك أنه استوطن فراغاً أخذَ يستوعب تمرده الخلاق والمتوثب، وألا يعني هذا الانتقال أنه أرادَ ترك مساحة من الفراغ في أعماقه تتشكل برغبته وإرادته واختياره وربما بفلسفته واشتهاءاته المعرفية، وعلى العكس من ذلك قد يبقى الإنسان يتوزعُ متجذراً في فراغ قناعاته التي لم يطلها التشكيك أو النقد أو التجريح، وقد يعمل جاهداً على النأي بها من كل ذلك، ولأنه ربما وجد في فراغه هذا تأكيداً على قناعاته واقتناعاته، إنه هنا أيضاً في ذات هذا الفراغ ينتقل من فراغ إلى فراغ، من فراغ قناعاته إلى فراغ الإيمان بها وهكذا..   

 

وألم يقل المعرّي البهي ذات بوح شعري ملخصاً به ربما فكرته عن الحياة والإنسان : تعب كلها الحياة، فما أعجبُ إلا من راغب في ازدياد..!! أليست الرغبة والشهوة هنا في التهام الحياة حماساً ونهماً وحباً وتشبثاً تعتبر هروباً من الموت والفناء، على الرغم من أن الحياة في نهاية الطريق تفضي بالإنسان إلى الموت والعدم، وعلى الرغم من إنها في نظر المعرّي ربما ليست سوى أثقال على الروح والجسد والعقل، أليست هذه الرغبة في البقاء طويلاً ومديداً على قيد الحياة والاستزادة منها امتلاكاً وخلوداً هي انتقالٌ من فراغ الممكن إلى فراغ اللاممكن، إنها تنقل الإنسان بأمنياته وخيالاته واشتهاءاته من فراغ الواقع إلى فراغ المستحيل، وأليس فراغ المستحيل له بريق يختلف ربما عن فراغ الواقع، لأنه ربما فراغ يستوعب طاقةً هائلة من اندفاعات الإنسان في الخيال والتخيّل والتمنّي، وفي الوقت نفسه قد يكون فراغاً دافعاً وملهماً، وضاجّاً بالصخب والتدفق والاشتهاء..

 

وحينما يحقق الإنسان انتصاراً وفتحاً فكرياً أو أدبياً أو فنياً أو علمياً، ألا يدفع به ذلك إلى الاستسلام شوقاً لفراغ لذيذ وشهي يسكبُ فيه زهوه وفرادته ونرجسيته وجنونه، ويخلد فيه بعدها للاسترخاء بعض الوقت تخففاً من العناء والتعب، وهذا الخلود للاسترخاء ربما فراغ آخر، وأليس الإنسان هنا ينتقلُ من فراغ ألبسهُ نصراً، إلى فراغ يقلّده الزهو والنرجسية وساماً لِيهيمَ به سماءً بعيدة، ويغرق فيه بعدها باسترخاء يتحسسه عميقاً وشهياً، وأليس انتقال الإنسان من ذاك الفراغ إلى هذا الفراغ يعكس حالةً من حالات حراكه الدائم في الحياة، من حيث كونه سعيٌ يُبقيه مستشعراً جمال تدفقاته الخلاقة في الحياة، ويُبقيه على قيد التواصل المثمر معها..

 

والإنسان في انتقاله من فراغ إلى فراغ، ألا يتألم ويتوجع ويعاني ويشعر بالرهبة والتوجس ربما، بالتأكيد نعم، لأنه في غمار الانتقال يقتحم مخاض التغيير والتبدل والتحول، ففي كل عملية انتقال من فراغ إلى فراغ ربما يحتاج بالضرورة إلى تغيير قناعاته وآراءه وحتى ربما أزياءه وأثاثاته الداخلية التي عمل على تثبيتها في أعماقه طويلاً، وكل هذا التغيير ألا يكون مصحوباً بالألم والمعاناة والرهبة والتوجس، فليس سهلاً على الإنسان بالذات أن ينتقل من فراغ إلى فراغ من غير أن يقاسي الألم والوجع، ربما وحدهم أولئك الذين يأتون من العدم ويتواجدون في العدم ويذهبون إلى العدم لا يتألمون ولا يتوجعون ولا يتوجسون ولا يترهبون، لأنهم ربما يجدون أنهم ينساقونَ إلى هذا الفراغ أو ذاك بمحض القدر من دون وعي أو إرادة أو رغبة أو ألم منهم بذلك..

 

وأليس الألم بمختلف أنواعه ومستوياته الإنسانية حينما يتسرب إلى أعماقنا ويستوطن جنباتنا مع كل انتقال من فراغ إلى فراغ، إنما هو بذلك يبحث عن فراغ ما لينصهر فيه ويتشكل في تجويفاته؟ ألا يعني هذا أن الإنسان ينتقل من فراغ الألم إلى فراغ الذاكرة الذي يتشكل مع أول حالةِ ألم إنساني يرتحل إليه، وكم سيكون هذا الانتقال صعباً وقاسياً على الإنسان حينما يستحيل فراغ ذاكرته إلى ألم بحد ذاته، لأنه حينها يبقى يتلمس الألمَ في أعماقه ومن بين جوانبه وأعطافه كما لو أنه لم يغادره أبداً، وكما لو أنه الألم الذي يخرج له دائماً من ثنايا اللحظة القادمة، ولم يفقد شيئاً من تأوهاته وهمهماته وزفراته وحكاياته البعيدة، إنه ربما الفراغ الذي يجد في الألم بعثاً جديداً لتشكلاته الأولى..

 

وإذا كانت الزوايا واللحظات والآلام والأحلام والخيالات والألوان والذاكرة والمعرفة والشهوة والحب والجمال والدهشة مساحات تتخلق في فراغاتها، ألا يعني ذلك أن الإنسان دائماً ما يكون في مواجهتها ويسعى تالياً إلى أن يكون صانعاً لها، فالإنسان صانع لفراغاته ومن ثمَّ يرتحل بها من فراغ إلى فراغ، ألا يعني ذلك أنه حينما يكون واقعاً تحت فراغ البشاعة والدمامة عليه أن يسعى إلى أن يكون صانعاً لفراغ الجمال والألق ؟ وألا يعني ذلك أنه حينما يكون صانعاً لفراغ الجمال والألق عليه أن يتحلى بشجاعة الرفض لفراغ البشاعة والدمامة؟ وألا يعني ذلك أن الإنسان حينما يكون واقعاً تحت فراغ الكراهية والتعصّب، عليه أن يسعى إلى أن يكون صانعاً لفراغ الحب والتسامح؟ وألا يعني ذلك أنه حينما يكون صانعاً لفراغ الحب والتسامح عليه أن يخرجَ من فراغ الكراهية والتعصّب؟ وألا يعني ذلك كله أن الإنسان حينما لا يجد فراغاً في داخله يتسع للجمال والألق إنه سيجد فراغاً آخرَ في داخله يتسع للبشاعة والدمامة يتخلق بهما وينحشر فيهما؟ وألا يعني ذلك أيضاً إنه حينما لا يجد فراغاً في داخله يتسع للحب والتسامح سيجد فراغاً آخرَ في داخله يتسع للكراهية والتعصّب؟ وألا يعني ذلك أيضاً إنه كلما اتسع فراغ البشاعة والدمامة ضاقَ على الإنسان فراغ الجمال والألق، وإنه كلما اتسع فراغ الكراهية والتعصّب ضاقَ على الإنسان فراغ الحب والتسماح..؟

 

 محمود كرم، كاتب كويتي   tloo1@hotmail.com       

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط