بسام درويش / Jul 28, 2016

"إذهب لعند ذاك الرجل صاحب الذراع المقطوعة الذي يقف هناك يدخّن سيجارته وهو يساعدك... إنه يعرف المنطقة أكثر مني." هذا ما قاله لي عامل محطة الوقود وهو يرد بلغةٍ ضعيفة مكسّرة على سؤالي عمّا إذا كان بإمكانه أن يرشدني إلى مركز بريد في المنطقة. سألته آنذاك مدفوعاً بفضولي إذا كان يتكلم العربية وقد بدا لي من لهجته أنه ربما يكون عربياً، فردّ عليّ فوراً بعبارة "السلام عليكم" ثم تابع يقول إنه من سورية وسألني عما إذا كنت أنا من سورية أيضاً. أجبته بالنفي تحاشياً للاسترسال بالحديث معه وقلت إنني أمازيغي من المغرب. بعد ذلك ترجلت من سيارتي واتجهت إلى الرجل الذي كان يقف بمفرده على باب دكان المحطة وسألته عن مركز البريد فرحّب بي وأرشدني إليه.

***********

البارحة بالضبط، كنت أجلس على مقعد في مجمّع تجاري بانتظار انتهاء زوجتي من التسوّق وأنا لا أهوى التسوّق أبداً. مرّت أمامي امرأة ذراعها الأيمن مبتور تمشي ببطءٍ وهي تجرُّ ساقها اليمنى جرّاً. كان وجهها أيضاً مشوّهاً ربما نتيجة حرق. كانت تسير بمفردها مستعينةً بعكاز في يدها اليسرى وعلى كتفها الأيسر حقيبة يد فبدا لي بشكل واضح أنّ المرأة لم تكن بحاجة إلى مساعدة أحد ولا حتى شفقة من أحد إذْ كانت هناك للتسوّق بمفردها. عشرات الأشخاص مرّوا أيضاً أمامي خلال تلك اللحظات لكنّ أحداً، لا من الذين وراءها ولا من الذين تجاوزوها قد نظر أو أشار إليها بشكلٍ أو بآخر باستثناء امرأتين عربيتين كانتا تسيران وراءها حيث سمعتُ واحدةً تقول للأخرى، "ياحرام.. يا حرام.. شوفي على هالخلقة...!" ثم تجاوزتاها لتعود كل منهما فتنظر الى المرأة مرة أخرى وكأنها حقاً خلقة عجيبة!

************

ذلك الرجل الذي كان يقف على باب الدكان لم يكن معه أحد ولذلك لم يكن بحاجة إلى وصفٍ يميزه عن غيره، وكان بإمكان صاحبنا أن يكتفي بالإشارة إليه بإصبعه أو بعبارة "الرجل" أو "السيد / الجنتلمان" أو حتى بقوله "الرجل الذي يدخّن سيجارة...!" لكنّ يبدو أنه لم يرَ فيه إلا "ذراعاً مقطوعة" فجعلها اسماً له!

تلك المرأة أيضاً، تعلّمت كيف تتغلب على معانتها لتقوم بكل ما يمكنها القيام به بحدود طاقاتها دون الاعتماد على أحد، ولذلك فهي تفضّل أن ترى الناس يبدون إعجاباً بقدرتها وليس شفقة منهم عليها. مع ذلك، فإن قام أحدهم بفتح بابٍ لها فهو أمرٌ تقدّره، أما أن يفعل ذلك وهو يقول لها "كان الله في عونك.." أو "أنا آسف لمصابكم.." فهو أمرٌ لا تتقبله بكلّ تأكيد.

**************

ما يقارب الأربعين عاماً عشتها في أمريكا لم أسمع خلالها شخصاً يشير إلى شخص آخر معرّفاً عليه بعاهته، لكنّ صاحبنا ذاك وتلك المرأة أعاداني بسرعة البرق إلى الوطن القديم الذي لا آسف على تركه إطلاقاً.

 هناك فقط يُشار إلى الناس بعاهاتهم وأشكالهم لا بل وأيضاً بديانتهم. فهذا يسمونه بالأعرج، وذاك بالأفكح، والأحول، والأعور، والأبرص، والأقرع، والطويل الهبيل، والقصير الصعلوك أو القزم، وأبو رقبة قصيرة أو طويلة، والناصِح (أي البدين) والمكرّش أو أبو كرش، والرفيع المعصمص (الهزيل) وغير ذلك من الصفات التي لا تختزل أسماءهم أو القابهم فقط إنما أيضاً كرامتهم.

***********

قريباً من حيّنا كان هناك بائع أقمشة يهودي اسمه "أبو إبراهيم" يبيع الناس بالتقسيط دون أن يأخذ توقيعاً من الزبون. كان إنساناً محترماً ولطيفاً في تعامله مع الناس وكان زبائنه يخاطبونه وهم في متجره الصغير باسمه... "شكراً أبو إبراهيم.."، "إن شاء الله أدفع لك بقية الحساب في نهاية الشهر يا أبو إبراهيم...!"، لكن عندما يتطرقون إلى سيرته بعيداً عنه فإن اسم أبو أبراهيم يختفي ليحلّ مكانه اسم "اليهودي" أو "محل اليهودي!"

***********

حارتنا الصغيرة التي نشأت فيها كانت جزءاً من منطقة واسعة كان كل سكانها من المسيحيين. لكن حدث وأن باع أحد الملاّك بيته لعائلة مسلمة فأصبحنا نشير إلى بيته بإسم "بيت الإسلام" (بمعنى المسلمين). كذلك كان لي رفيق في المدرسة يسكن هو وعائلته في منطقةٍ معظمُ سكانها من المسلمين، وكان بيته أيضاً يُشار إليه بإسم "بيت المسيحية"، (أي المسيحيين)، لا بل كثيراً ما كان يسمع بعض أهل الحي يشيرون إلى بيته بإسم "بيت الكفار!"

****************

الناس هناك لا يكتفون باختزال أسماء أو ألقاب المعاقين وأصحاب العاهات بهذا الشكل المهين، بل إنهم حتى بتعاطفهم الذي يبدونه أو يتظاهرون بإبدائه تجاههم يستخفون بهم وبقدراتهم عن قصدٍ أو غير قصد. فكثيراً ما نسمع الناس يقولون وهم يصادفون معاقاً عباراتٍ مثل "يا حرام"، "الله يكون بعونه!"، "مسكين!"، "الله يعين أهله!." لكنْ ما هو اسوأ من ذلك فهو قول بعضهم، "تضرب هالعيشة..!"، "مسكين على هالعيشة.."، "الموت أحسنله..!" (بمعنى الأفضل له أن يموت من أن يعيش معاقاً!)

حتى المجانين هناك، والذين ربما ساهم مجتمعهم في إصابتهم بالجنون أو دفعه إليه دفعاً، لا يَسْلمون من سخرية الناس، لا بل غالباً ما يتعرضون للأذى منهم. المجانين هناك لا يُعاملون كمرضى إنما كقرود مضحكة. أذكرُ عندما كنت في المرحلة الإعدادية أعمل خلال العطلة الصيفية في سوق الصاغة بدمشق كيف كان أصحاب المحلات "يتكرّمون" على أحد "المجانين" المداومين على السوق ببعض القروش لا لشيء إلاّ ليقوم بإضحاكهم بحركاته. أذكر أيضاً كيف كان الناس يذهبون إلى مستشفى الأمراض العقلية أو "مستشفى المجانين"، كما يفضلون تسميته، والوقوف أمام بوابة المستشفى ليتفرّجوا على "المجانين" وليرموا لهم السكاكر من بين قضبان البوابة وكأنهم في حديقة حيوانات.       

************

بعد هذا الحديث، يجدر بنا أن نتساءل: تُرى من هو المعاق هنا..؟ إذا أردتَ الجواب فعد إلى العنوان أعلاه!

======================

==============

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط