هشام محمد / Sep 28, 2008

دعوني أحدثكم هذه المرة عن الختان، وعن ختان الذكر تحديداً، ذاك الشيء المسكوت عنه منذ الأزل البعيد، شأنه شأن الكثير مما وطر في حياتنا، واستقر في وجداننا من عادات وأفكار وطقوس.  الختان، تلك الممارسة الوحشية، والعادة الدموية، لها جذور ضاربة في أعماق التاريخ الانساني، وسبق للشعوب البشرية أن مارستها منذ البدايات البعيدة، ولم يكن ابراهيم هو أول من اختتن – كما سنرى لاحقاً – حتى نلبس الختان عباءة الدين. 

يستمد الختان من الدين الشرعية الكافية لتكريس حضوره.  ويستمد الدين من الطب التبريرات العقلية والحجج الدنيوية لتأصيل تلك العادة، ولتعزيز التصور الزائف عن تشابك الدين مع مصالح الانسان في الدنيا.  الدين – مثلاً – يتحجج بالحفاظ على صحة الانسان لتفسير تحريم اكل الخنزير، لكن الحقيقة تقول إنّ الخنزير في الفكر الأسطوري الغابر هو من قتل الإله الشاب المحبوب "أدونيس"؛ والخنزير هو إحدى التجليات الشيطانية لإله الشر المصري "ست" الذي قتل الإله الطيب والخيّر "أوزوريس".  ولهذا حرمت الأسطورة أكل الخنزير كرهاً فيه، ولكن اليهودية، ومن ثم الإسلام، عندما ورثا تقاليد الديانات الوثنية، حافظا على موقفهما التحريمي مع احلال "الأسطورة الطبية" مكان الأسطورة القديمة التي لم يعد لها مغزى.  والدين أيضاً يتحجج بالعفة والأخلاق لتبرير فرض الحجاب، لكن الحقيقة تقول أن الحجاب فرضه الذكر المتسلط في بابل وآشور منذ كانت الديانات الابراهيمية أجنة في رحم الديانات الوثنية، للفصل بين النساء الحرائر دون النساء الباغيات.  والغريب أن الإسلام عندما فرض الحجاب على نساء المدينة كان الأمر موجه للحرائر دون الجواري، ولكن بمرور الوقت تحول الحجاب من علامة تمييز اجتماعي فارقة إلى علامة تمييز عنصري موجه ضد كل النساء، وإنْ تدثر كذباً بالعفة والفضيلة والأخلاق.

 

وبالعودة إلى الختان، سنجد أن مصادر الإسلام الرئيسة لا تحمل ما يشفي الغليل. فالقرآن لم يتناول الختان لا من قريب ولا من بعيد.  وأما السنة – إذا سلمنا جدلاً بصدق الأحاديث – فقد حملت بعض الإشارات البعيدة والنتف الصغيرة من هنا وهناك عن الختان، لكنها تبقى محل اختلافات دائمة ما بين الفقهاء، وكما سيتضح لنا فيما بعد.  وأما ما يقال عن كون ابراهيم هو أول من اختتن من البشر فهذا الادعاء سرعان ما ينكسر على ما حفظته لنا الصخور والنقوش واللقى التاريخية، والتي سبقت التاريخ المفترض لإبراهيم وبقرون.  أما ما يروج بين العامة عن دور الختان في التقليل من احتمالات الأمراض الخطيرة، والحفاظ على نظافة الجسد، فهي ليست بأقل تهافتاَ من خرافة ابراهيم، وهذا ما سوف نسبره في المقالة القادمة.  سأتتبع فيما تبقى من هذه المقالة الدلالات الثقافية والاجتماعية لطقس الختان لدى المجتمعات القديمة، وذلك قبل أن اعرج على موقف الديانات الإبراهيمية (اليهودية، المسيحية، الإسلام) من الختان.  أما المقالة الأخرى، فستلقي حزمة من الضوء على موقف المؤسسة الطبية من الختان قديماً وحديثاً.  وتجدر الإشارة إلى أن السطور القادمة سترتكز أساساً على كتابين وهما: (1) الروح الأخضر – احتفالات الخصب في العادة والمعتقد – للمؤلف محمود مفلح البكر، (2) ختان الذكور – بين الدين والطب والثقافة والتاريخ – للمؤلفة سهام عبد السلام.

 

الختان لدى المجتمعات القديمة:

يلفت محمود البكر الانتباه إلى أن هناك شواهد عديدة ترجع بأصل الختان إلى أزمنة سحيقة،   تسبق ابراهيم وإن كان من المتعذر متى... وأين بالضبط جرت طقوس الختان.  وبحسب البكر فإن أقدم شاهد على عملية الختان يعود إلى عهد الأسرة الخامسة من ملوك مصر، أي حوالي 2700 ق.م.  وكان الختان حينها يعد تقليداً كهنوتياً يخضع له الأولاد الذكور الذين يرغب آباؤهم نذرهم للخدمة الدينية.  ولعل من حسن الحظ أن المصريين قد تركوا لنا نقوشاً محفورةً على جدران المقابر تصور لنا بجلاء عمليات الختان، وهو ما يبرهن على أن المصريين عرفوا الختان قبل ابراهيم واتباعه من اليهود.  وإلى جانب المصريين، مارس الكنعانيون والفينيقون في بلاد الشام الختان الطوعي للذكور.  أما لماذا الختان؟  هنا يقترح البكر أن فكرة الختان كانت تصعيداً مبكراً لمبدأ القربان البشري، أو لنقل أنها كانت نوع من التسوية المقبولة بين الإنسان والإله.  إن التضحية بفرد كامل لاطفاء نار الإله أو لافتداء الجماعة في أزمنة الجوع والقحط والحروب كان خياراً مكلفاً مع تزايد حاجة الجماعة أو القبيلة إلى حشد طاقات رجالها في عمليات البناء وفي ميادين الحرب.  وكبديل للتضحية بحياة الفرد قام الكهنة باستئصال الأعضاء التناسلية، حيث يتعادل فقدان عضو الذكورة مع فقدان الفرد.  وبمرور الوقت، ومع تطور الحياة العقلية لتلك المجتمعات، تفتق العقل عن حيلة ذكية تتيح له الاحتفاظ بأعضاءه التناسلية دون التخلي عن معتقداته الدينية وهو أن يكتفي بقطف الغرلة أو الغلفة (الجلدة التي تغطي رأس عضو الذكورة) عوضاَ عن التضحية بآلة الاخصاب.

أما سهام عبد السلام فقد استعرضت الكثير من الدراسات الأنثروبولوجيه التي عنيت بتفكيك رموز طقوس الختان، واستكناه معانيه الثقافية والدينية لدى الشعوب البدائية.  ولضيق المساحة فسأكتفي بعرض بعض من تلك الفرضيات والتفسيرات، ومن أراد المزيد فعليه باقتناء الكتاب، وهو بحق جدير بالقراءة وبالتأمل.

 

في دراسة برونو بيتلهايم عن الختان التي ضمها كتابه "جروح رمزية: طقوس البلوغ والذكر الحسود" يقترح المؤلف أن ختان الذكر كان محاكاة مصطنعة لخصوبة المرأة والمرتبطة بنزول الدم من اعضائها الأنثوية عند البلوغ.  ويضيف بيتلهايم مسألة أخرى ترى أن الختان يعتبر بمثابة اخصاء رمزي يجريه الأب المسيطر على أجساد الذكور الصغار الخاضعين لسيادته ليخفف من قلقه من احتمال استيلائهم على نسائه.  ويضيف بيتلهايم أن مثل هذا النوع من العلاقات السلطوية بين الكبار والصغار مازال قائماً حتى الآن، حيث يستمتع الكبار بإشباع غرائزهم لكنهم يحرمون ذلك على الصغار، ويلزمونهم بقواعد سلوكية صارمة أكثر مما يطبقونه على أنفسهم.  ويمضي بيتلهايم شارحاً أن كشف رأس القضيب بالختان يوحي بالانتصاب حتى في حالة الارتخاء.  وبالتالي فإن الختان يحول الطفل الذي لم تتبلور معالمه الجنسية بعد تحويلاً رمزياً إلى ذكر، فيفصله عن المجتع الأمومي ويلحقه بعالم الرجال.  ولكي يحدث هذا التحول، تصاحب الختان احتفالات طقسية صاخبة تمثيلاً لموت الطفل رمزياً ثم إعادة بعثه في صورة ذكرية جديدة.  هذا الميلاد الجديد يحدث هذه المرة بواسطة الأب لا بواسطة الأم.  بكلمات أخرى، يلعب الختان دوراً مزدوجاً لتأكيد سطوة الرجال الذكور، مرة بمنحهم سلطة الإخصاء الرمزي للصغار، ومرة بمنحهم قدرة رمزية على فعل لا تملكه إلا النساء، أي ولادة الطفل.

 

أما دراسة مونتاجيو والمعنونة ب "تشويه الانسانية" فقد قام المؤلف باستجلاء المعاني الكامنة في الختان لدى القبائل الأفريقية.  يرتكز الختان لدى تلك القبائل على تصور ازدواجية الخلق، فالفرد يولد مزدوج الجنس.  تكمن روح الأنوثة لدى الذكر في الغلفة، وتكمن وروح الذكورة لدى الأنثى في البظر.  ووفقاً لهذه العقيدة يعتبر الختان تطهيراً للرجل من روح الأنوثة، والتي يعتقد أنها تحول بين الرجل وبين الفهم السليم، ومن ثم تعيقه من أن يكون عنصراً اجتماعياً صالحاً. وبانتزاع الغلفة تكتمل معالم الرجولة لدى الذكر، ومن ثم يندفع بحكم استقلاله إلى البحث عن تآلفه المفقود بالسعي إلى الزواج من امرأة.  وبالتي يصبح الختان شرطاً أساسياً للزواج، فالرجل بعد تجريده من جانبه الأنثوي صار الآن متلهفاُ للارتباط بأنثى تعوضه عن أنوثته المسلوبة، وكذلك المرأة بعد نزع جانبها الذكوري أصبحت مستعدة للارتباط برجل يعوضها عن ذكورتها المفقودة.

وفي دراسة للباحثين ايمرمان وماكاي تحت عنوان "الثقافة الحيوية والختان" يستنتج الباحثان أن الختان يقلل من الاثارة الجنسية لدى الجنسين، حيث يمنع الختان افراز مادة السميجما المرطبة للقضيب، وهي مادة ذات رائحة جذابة جنسياً للنساء.  يعتقد الباحثان أن احداث هذه التغييرات تقلل من انجذاب النساء نحو الرجال، وبالتالي تحد من احتمالات وقوع المشاحنات بين ذكور القبيلة الواحدة، ومن ثم يسهل على زعيم القبيلة تجميع الشباب وتوجيه طاقاتهم للدفاع عن حمى القبيلة ضد المعتدين.

وفي دراسة ميدانية لفيكتور تيرنر، حواها كتابه الموسوم ب "على حافة الأحراش" تناولت الختان لدى قبيلة النديميو في زامبيا.  يقترح تيرنر أن من أهداف الختان حسب مفهوم القبيلة  تحوير علاقة الطفل الذكر بوالديه.  فالأطفال قبل الختان يرتبطون بأمهاتهم أكثر من آبائهم، وبالتالي يعدون نجسين وغير ناضجين.  وعندما يتراجع عدد الأيدي العاملة من الرجال مع ازدياد عدد الصبية، يطرح خيار الختان لانتزاع الأطفال الذكور من امهاتهم وتدشينهم لعالم الرجال.  ولاحظ تيرنر أن الختان يجرى في إطار طقس جماعي يدعى له أقارب الأب من أبناء وبنات العمومة في القرى المجاورة كإشارة رمزية لقطع علاقة الطفل بدائرة الأم الضيقة ووصله بدائرة الأب الأوسع نطاقاً. 

 

الختان لدى الديانات الإبراهيمية:

استندت سهام عبد السلام في استعراض مواقف الديانات الإبراهيمية أو ماتعرف بالديانات السماوية على كتاب سامي الديب أبو ساحلية المعنون ب "ختان الذكور والإناث عند المسلمين واليهود والمسيحين: الجدل الديني".  فاليهود في تعصبهم للختان اعتمدوا على الاصحاح السابع عشر من سفر التكوين بالتوراة، حيث قام ابراهيم بعد أن بلغ من العمر عتيا بقطع غلفته، ومن بعده سيقوم أبناؤه بالمثل مقابل أن يمنح يهوه (إله اليهود) بلاد كنعان لنسل ابراهيم.  إذاً كان الختان هو الثمن الذي يجب على كل ذكر يهودي دفعه مقابل أن تنتقل ملكية أرض فلسطين لليهود، ونحن هنا أمام صفقة سياسية تشف بلا مواربة عن نزعة دموية لإله انفعالي وغير سوي.  وبالطبع لا يمكن لأي عاقل أن يصدق حكاية ساذجة كهذه، ولكن التوراة التي كتبت ونقحت على مدار قرون طويلة كانت بحاجة إلى تبرير ميتافيزيقي لتدعيم الحق اليهودي بامتلاك أرض كنعان.  وحسب أبو ساحلية، فقد راجعت جماعة من اليهود الألمان في القرن التاسع عشر الصفة الإلزامية للختان، لكنهم اضطروا للتراجع بسبب ضغوط مارسها رجال الدين المتشددون.  وفي أواخر القرن ذاته أقر اليهود الذين هاجروا إلى امريكا أن الختان لا ينسحب على كل اليهود في كل زمان ومكان، وأن اليهودي – في إطار التملص من الختان – هو من جاء من أم يهودية بغض النظر عن ختانه، وأن الختان يتصادم مع آيات توراتية أخرى تنهى عن إلحاق الأذى بالجسد وتأمر بالرحمة.  خلاصة القول، أن التصلب اليهودي حول قضية الختان بدأ يتراخى تدريجياً مع صعود حركة حقوق الإنسان، وتنامي التوجهات العلمانية داخل الطائفة اليهودية، وتنامي الاكتشافات العلمية والمعرفية، فضلاً عن تصدع الحجج التاريخية لما ورد في التوراة من قصص وحكايات خيالية لا وجود لها.  وأذكر أني قرأت مرة أن بعض العائلات اليهودية، ومن أجل تجنيب الطفل الآم جسدية لا تحتمل وحماية الأم من المرور بتجربة نفسية عنيفة، قد استبدلت القطع الكامل لغلفة الصبي الصغير بإسالة دم قليل من قضيب الطفل بواسطة دبوس صغير.    

أما بعض المسيحيين الذين يمارسون الختان، فحجتهم أن يسوع قد ختن.  إلا أن هذه الرواية – حسب أبو ساحلية – لم ترد إلا في انجيل لوقا فقط.  زد على هذا أن غالبية المفسرين ترى أن المسيح حتى وإن ختن فهذا يرجع إلى زمن الطفولة وذلك لكونه يهودي في الأصل، لكنه عندما كبر أبطل بعض شرائع العهد القديم مثل قانون العين بالعين والسن بالسن (هذا القانون هو في الأصل جزء من شريعة الملك البابلي الشهير حمورابي قبل أن يقتبسه اليهود أيام السبي).  وعندما اعتنق بعض اليهود المسيحية سعوا إلى فرض الختان على الوثنيين الذين تحولوا إلى المسيحية، إلا أن الرسول بولس تصدى لهم، معتبراً الختان غير ذي مغزى ديني.  كما أن بعض رجال الدين المسيحين فسروا الختان تفسيراً رمزياً بمعنى الامتناع عن ارتكاب المعاصي بواسطة العضو الذكري وليس بمجرد قطع الغلفة.

أما عن الختان في الإسلام، فتذكر سهام عبد السلام نقلاً عن أبو ساحلية أن القرآن لم يأتِ على ذكر الختان مطلقاً، وإن كان الفقهاء كعادتهم أولوا بعض الآيات على محمل الختان، وهي تلك التي تطلب من المسلمين اتباع سنة ابراهيم.  إلا أن الفقهاء انفسهم قد انقسموا حول تفسيرهم لآيات الفطرة وبين حديث منسوب للنبي محمد يذكر فيه أن آدم وليس ابراهيم هو أول من اختتن.  كما يذهب البعض إلى أن الأنبياء يولدون مختونين وهذا ما يتعارض مع الاتجاه القائل أن ابراهيم قام بقطع غرلته بعد أن جاوز الثمانين.  ويعتقد أبو ساحلية أن كعب الأحبار (يهودي أسلم فيما بعد) مسؤول عن تسريب الكثير من الاسرائيليات إلى الفكر الإسلامي، ومنها الختان.  الخلاف حول الختان بين فقهاء المسلمين الأوائل امتد إلى الفقهاء المعاصرين ومن دون أن يحسم النقاش بشأنه.

أما السنة النبوية فليست بأقل من الآيات القرآنية في إثارة الفوضى بين المفسرين.  هناك مثلاً أحاديث تدعي أن محمداً ولد مختوناً، وأحاديث أخرى تقول ان جبريل قد ختنه بعدما شق قلبه وهو صبي صغير، وأحاديث غيرها تدعي أن عبد المطلب (جد النبي) هو من قام بختنه.  كما أن هناك حديثاً رائجاً بين الأوساط الشيعية يؤكد على أن النبي محمد قد ختن حفيديه الحسن والحسين، لكن أهل السنة لا يعتدون بهذا الحديث.

وأخيراً، يستعرض أبو ساحلية سير الصحابة ورواياتهم التي تدل على أن الختان كان معروفاً لدى العرب حتى قبل الإسلام.  ويورد أبو ساحلية ما قاله التابعي الحسن البصري من أن النبي لم يفتش أي رجل دان بالإسلام ليتحقق من ما إذا كان مختوناً أم لا.  وكذلك ما قاله ابن المنذر "ليس في الختان خبر يرجع إليه ولا سنة تتبع".  بالإضافة إلى رفض الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز اقتراح والي خرسان بأن يشترط ختان من يسلم من أهلها حتى لا يستسهلون الاعتناق الظاهري للإسلام بقصد التخلص من عبء الجزية، حيث رد الخليفة على اقتراح واليه بالقول أن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه خاتناً.

=============

يتبع

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط