هشام محمد / Apr 27, 2008

منذ سنوات قليلة، بدأت الرياض، العاصمة السعودية، وبشيء من الاستحياء، تطلق عروضاً مسرحية كوميدية.  لا حاجة للتذكير بأن كافة الممثلين على خشبة المسرح هم رجال في رجال، طبعاً مخافة الفتنة التي هي أشد من القتل، وللمحافظة على ثوابت الأمة الزئبقية التي لا يمسك بها أحد، ولا يعرف ماهيتها أحد.  بدأت الرياض، دون أن تفلح في مدارة ارتباكها، في إقامة ندوات فكرية وثقافية على هامش معرض الكتاب ومهرجان الجنادرية السنويين.  وبدأت الرياض، بخطوات مرتعشة، تحتضن مهرجان الزهور مع إطلالة كل ربيع.  هل تعتبر هذا فعلاً سخيفاً، وإنجازاً تافهاً لا يستدعي أن ينفخ بالونات الدهشة في عينيك حتى تنفجر؟  إذاً، أنت لا تعرف الرياض، عاصمة الممانعة الوهابية العتيدة، على وزن دمشق، عاصمة الممانعة والصمود العربي.

 

لا يريد الوهابي لتلك المدينة، التي تغتسل كل صباح بلهيب الشمس اللافحة، وترتدي عباءة غبار الصحاري، أن تتحلل من قيودها، وأن تبحر بعيداً عن شواطئ البدايات الأولى التي يجروننا إليها.  حرام على هذه المدينة المكتظة بعشوائيات البشر والمركبات والمباني والأسواق والمساجد أن ترن ضحكاتها في الفضاء، فالضحك يميت القلب... حرام على هذه المدينة أن ترقص، فالرقص ميوعة وانحلال... حرام على هذه المدينة أن تفكر وتتحاور بصوت عال، فالتفكير فخ يتربص بالإيمان... حرام على هذه المدينة أن تتهادى الورد، فالورود بدعة وتقليد للغرب الكافر الحاقد.

 

لا يحتمل الوهابي أي تغيير، مهما بدا رمزياً.  ولا يطيق صبراً أن يراك قد زحزحت ولو كرسياً من مكانه.  ما ألفه بالأمس يجب أن يبقى اليوم، وما يبقى اليوم يجب أن يمتد للغد.  يرى دوماً شيطاناً يتجسد في كل شيء جديد، صغيراً كان أم كبيراً.  كشف وجه المرأة يعني عنده انهيار لمنظومة القيم المجتمعية.  اختلاط المرأة بالرجل في مكان العمل يعني عنده السقوط في بئر الخطيئة.  إقامة معارض للكتاب تعني عنده تسريب لأفكار الرافضة والمتصوفة وتفريخ لبيوض بني علمان في مجتمع ينافح من أجل عقيدة ناصعة البياض.  دخول التقنيات والأنطمة والأفكار الغريبة تعني عنده تقويض للهوية الإسلامية وتهديد لأصالة المجتمع.

 

يمتلك الوهابي سلوكاً فطرياً عجيباً، أشبه بالجدار الدفاعي الصلب، المؤسس على الرفض التلقائي لكل ما لا يجد له نظرياً في مرجعيته التاريخية المتخيلة.  ألم يتصدَّ الوهابيون لتعليم المرأة، ولدخول التلفزيون والسيارة وأجهزة الاتصال، وللبس البنطال باعتباره زي الكفار، ولتدريس الفلسفة ونظرية داروين وكروية الأرض ومناهج النقد التاريخي، ولبيع بوالص التأمين على المركبات، ولتركيب اللاقطات الهوائية، ودخول الإنترنت...الخ؟  المدهش أن اللاءات الوهابية التي تنتصب كالجبال، تبدأ رويداً رويداً بالذوبان، وكأنها لم تكن.  أولئك الذين قالوا لا لتعليم الفتاة... ولا لعمل المرأة... ولا لركوب السيارة... ولا لتركيب اللاقط الهوائي... ولا للاتصال بالشبكة العنكبوتية، هم أنفسهم من يدفعون بناتهم دفعاً للمدرسة والجامعة... وهم من يقاتلون من أجل عمل نسائهم... وهم من يتنقلون بالسيارة وليس على الأقدام أو الجمل أو الحمار... وهم من يشاهدون قنوات المجد واقرأ والرسالة وربما أشياء أخرى... وهم من ينقلون معاركهم الدينية والمذهبية من الأرض إلى فضاء الإنترنت اللامتناهي.

 

 ماذا يعني هذا؟  ماذا يعني أن يتحول الوهابي في كل مرة من موقف الدفاع المبدئي إلى التعايش السلمي في النهاية؟   يعني هذا أن الوهابي لا يملك القدرة على مراكمة التجارب والتعلم من الأخطاء.  إنه يذكرني بالسمك الذي يبتلع الطعم كل مرة دون أن يعي رغم مرور مئات السنين أن السنارة تحمل له الموت.  ماذا نسمي هذا؟  غباء... أم عناد... أم غرور؟  لكن، مهلاً! فالوهابي لا يفتقد إلى بعض الخبث والدهاء، أو لنقل الأنانية.  فهو عندما يحلل ما كان بالأمس حراما، فهذا لإنه وجد أن القبول به سيجعل حياته أكثر احتمالاً ورخاءً.  أما إذا كان الشيء سيجرده من سلطاته، ويصادر مكتسباته، فلن يحيد عن موقفه الرافض ولو قيد أنملة.  للتمثيل، فالوهابي لن يجد غضاضة في عمل المرأة ما دام أنها ستنال دخلاً شهرياً يكفيه عناء الإنفاق عليها، وربما يقاسمها جبين عرقها، لكنه سيصاب بالسعار لو تطور الأمر بالمطالبة بإسقاط ولايته عليها، وبالتالي حرمانه من ممارسة سلطاته عليها.  والوهابي سيقول أهلاً وسهلاً بصندوق الاقتراع ما دام أنه يضع الشارع المختطف تحت إبطه، لكنه سيجن جنونه فيما لو طبقت الديموقراطية كاملة، وما يترتب عليها من تداول سلمي للسلطات، وحق تأسيس الأحزاب السياسية، والاعتراف بالحقوق الوطنية للأقليات والنساء.  والوهابي أيضاً ربما قبل على مضض بإدخال تحسينات شكلانية ومؤقته تخفف بعض الشيء من غلواء خطابه الديني المتزمت، لكنه لن يسمح لك مطلقاً بأن تضع النص القرآني وآلاف الأحاديث على طاولة البحث التاريخي والنقدي لأن هالة الوهابي الشعبية ستخبو بمجرد نزع غطاء القداسة عن هذا التراث الديني المتضخم.

 

من هنا يجب أن نستحضر كيف يفكر الوهابي حتى نفهم لماذا بدأت موجات الرفض للنشاطات الثقافية والفنية والترفيهية في الانحسار النسبي.  صحيح أن هناك فئات مازالت تمارس التخريب المادي، وتعكر الأجواء الاحتفالية، وتحشر أنوفها في شؤون الزوار الشخصية خاصة النساء.  وصحيح أيضاً أن أجهزة الحكومة الرسمية وفرق الأمن تستعمل سياسات لينة وطرائق رخوة في التصدي للغزوات الجهادية التي يشنها غالباً طلائع وهابية غضة، ربما اندفعت بعفوية أو ربما تحركت بإيعاز من شيوخهم.  فمن المتوقع أن الوهابي سيعترض محاولات المدينة في كسر إيقاعها اليومي الرتيب.  ومن المتوقع أن الوهابي سيرى في تلك الأنشطة الترويحية مقدمةً لخطر عظيم، وباباً لشر مستطير، وطريقاً للشيطان الرجيم.  لكن من المؤكد أن صيحات الوهابي ستتلاشى رماداً في الهواء، ودفاعاته ستتراخى مع الأيام.

affkar_hurra@yahoo.com

 

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط