عندما يصبح غير المسلم نجساً
مالك مسلماني / Jul 19, 2007

في السنة التاسعة للهجرة، أعلن محمد سيطرته المطلقة على قلب الجزيرة العربية، وأعتبر الإسلام ديناً وحيداً للمنطقة التي خضعت له. وقد جاء الإعلان بالآيات الأربعين الأولى من سورة التوبة.

 

آيات التوبة لم تعلن الهيمنة العسكرية على أجزاء كبيرة من الجزيرة العربية فحسب، بل تضمنت موقفاً يرى أن الإسلام ديناً مقدساً، وأن كل ما عداه من أديان هي عقائد مدنسة. ووسمت كل من لا يعتنق الإسلام بأنه نجس، فقالت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ! إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ، فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا[1]﴾.

 

والمشرك، في المنظور الإسلامي، هو كل من يؤمن باللّه لكن يجعل له شريكاً ما. جاء في لسان العرب: «وأَشْرَك باللّهِ: جعل له شَريكاً في ملكه... والشِّرْكُ: أَن يجعل للّهِ شريكاً في رُبوبيته». هذا التعريف الفضفاض يشمل اليهود والمسيحيين، إضافةً إلى وثنيي الجزيرة العربية الذين يؤمنون باللّه لكنهم ينظرون إلى الأصنام كوسائط أو شفعاء لدى اللّه. باختصار أن المشرك، المُعتبر نجساً حسب الرؤية الإسلامية، هو كل من لا يتبع مفهوم الإله كما قدّمه محمد.

 

تراوح فهم مشايخ الإسلام لنجاسة المشرك بالأقوال التالية:

1. إن وصف المشركين بالقذارة تعبير مجازي يُقصد به تحقيرهم.

2. إن النجاسة سببها كونهم لا يغتسلون بعد الجنابة (الممارسة الجنسية)، «ولأنهم لا يتطهرون، ولا يغتسلون، ولا يجتنبون النجاسات».[2] ولكن الطريف إن هذا لا ينطبق على المسلم، فهو طاهر في كل حالاته. نقرأ بأن محمداً لقي حُذيفة، فأخذ محمد بيده، فقال حذيفة له: «يا رسول اللّه، إنّي جُنُب!، فقال [محمد]: إن المؤمن لا ينجُس».[3] [ألا يلاحظ القارئ طرافة الحديث بين هذا الصحابي ونبيه!]

3. إن المشرك نجس بجوهره، وبتكوينه البيولوجي، فثمة قول يعود إلى ابن عباس، يقول: «ما المشركون إلاّ رِجْسُ خنزير أو كلب»،[4] ورُوي عنه أيضاً قوله «أن أعيانهم نجسة».[5] وبعض شيوخ السنة يقول إن «معنى الآية إنهم [أي المشركون] بمنزلة الأعيان النجسة في وجوب الاجتناب عنهم».[6] ومن هذا المنطلق حظر المسلمون على اليهود والمسيحيين دخول مساجدهم. وحتى أن بعض فقهاء الإسلام طلب عدم مصافحتهم، «ومن صافحَهم فليتوضَّأ».[7] ويتحفنا مفسر معاصر بالقول: «شرِّيرون خبثاء، بسبب الشرك والظلم وقبح الأخلاق».[8]  وهذا قول يميل إليه الزيدية،[9] وهم فرع من الشيعة أقرب إلى السنة مع تلوينات معتزلية.  وتعليقاً على قاعدة «ومن صافحَهم فليتوضَّأ»، يقول الطبرسي، المفسر الشيعي: «وهذا يوافق ما ذهب إليه أصحابنا من أنّ من صافح الكافر ويده رطبة وجب أن يغسل يده؛ وإنْ كانت أيديهما يابستيْن مسحهما بالحائط».[10] وهذا الرأي يرد أيضاً لدى مفسر شيعي آخر، محمد حسين الطباطبائي، في كتابه الميزان في تفسير القرآن.

على مبدأ نجاسة التكوين البيولوجي لغير المسلمين يتفق الشيعة والسنة، وهو اتفاق نادر بين هذين المذهبين الرئيسين، وربما تذكّرُ ذلك يساعد على التقريب بين المذهبين المتناحرين!!!

 

غاية الوصف

وصف المشركين بالنجاسة جاء في سورة تحريضية على مقاتلة كل من لا يدين بالإسلام، والمطالبة بفرض الإسلام على كافة الناس. وفي حالة المسيحيين واليهود فإن السورة تقبل عدم اعتناقهم الإسلام، بشرط الخضوع لسلطة الإسلام السياسية والإقرار بالدونية الاجتماعية أمام المسلمين.  في هذا الخطاب التحريضي للسورة، والتي شكلت قفزة كبيرة في النزعة العدوانية، كان من الضروري أن تشتمل على عبارة تسمح للمسلم بتقبل فكرة القضاء على غير المسلمين، فعندما يصبح الآخر نجساً حسب التوصيف الإلهي، وباستعمال مفردة محملة بالدلائل السلبية، وغير مكررة في القرآن، فإنه يتشكل في ذهن المسلم مجموعة صور:

1. النجاسة بمعنى عدم النظافة، وهي فكرة تهدف لإثارة نفور مرضي من الآخر.  ابن حزم، وهو من الآباء الكبار للفكر السني، يعتبر أن المسلم الذي يتزوج من مسيحية فإنّ عليه عندما يمسّه عرقها أو لعابها، أن يتطهر منهما مثل ما يتطهر من البول.[11]

2. النجاسة بمعنى فساد الطبع، وهذه بدورها تحرض على إلحاق الأذى بغير المسلم، على اعتبار إن الإرهاب الذي يمارسه المسلم ضد الآخر هو عملية تطهير للعالم من «الفاسدين الأنجاس». وربما نجد هنا أقدم النظريات التي تبرر ارتكاب المجازر ضد الإنسانية.

 

عندما تتماثل هاتان الصورتان في مخيال المسلم، يغدو أكثر تقبلاً لفكرة إبادة هذا العنصر «النجس» (=المشرك)، وأكثر قدرة على المشاركة في عمليات القتل والتدمير. وعبارة سيد قطب تكشف الهدف التحريضي للعبارة:

«﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾: يجسم التعبير نجاسة أرواحهم فيجعلها ماهيتهم وكيانهم. فهم بكليتهم وبحقيقتهم نجس، يستقذره الحس، ويتطهر منه المتطهرون! وهو النجس المعنوي لا الحسي في الحقيقة، فأجسامهم ليست نجسة بذاتها. إنما هي طريقة التعبير القرآنيّة بالتجسيم».[12]

 

هذا مثال على كيفية نظر الإسلام للديانات الأخرى. ومع ذلك، لا يفتأ خطباء المسلمين وشيوخهم ومشعوذو الفضائيات يتشدّقون بالادّعاء بسماحة هذا الدين.

 

هامش بصدد ما يُسمّى التنوير الإسلامي

 

تعتبر الأدبيات الاجتماعية العربية المعاصرة محمد عبده أحد رواد النهضة العربية، وإماماً لمدرسة التنوير الإسلامي (هكذا!). وقد سعت تلك الأدبيات لتفسير أسباب فشل هذه المدرسة، لكنها جميعاً تجاهلت السبب الحقيقي لفشل التنوير، ألاّ وهو إنه إسلامي. إذْ يعود الفشل ـ علاوة على عوامل أخرى ـ إلى كون النهضة التي أراد بناءها أصحاب هذه المدرسة تستند على الإسلام!

 

كيف يتفق الإسلام والنهضة؟

كيف للسلاسل أن تحرر سجيناً؟

وكيف للخرافة أن تؤسس علماً؟

 

لنرَ مساءلة آية ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس﴾، لدى إمام الحداثة (!)

رفض محمد عبده في تفسيره المنار، فكرة نجاسة المشرك الجسمانية،[13] وأضاف القول: «وجملة القول أن لفظ النجس في القرآن جاء بالمعنى اللغوي المعروف عند العرب لا بالمعنى العرفي عندما الفقهاء، وكانت العرب تصف بعض الناس بالنجس وتريد به الخبث المعنوي كالشر والأذى». ويبدو أن ما دفعه لتبني هذا الموقف حقيقة أنّ «في هذا العصر الذي صار فيه الكثيرون من الشعوب غير الإسلامية أشدّ عنايةً من المسلمين بالنظافة».[14] ولكن هذا الموقف الذي لاح للوهلة الأولى إنه «تنويريّ»، لم يحل بين قائله وبين الرجوع القهقرى إلى الرأي التقليدي والقول بعد أسطر: «يشركون باللّه ما لا ينفع ولا يضر، فيعبدون الرجس من الأوثان والأصنام ويدينون بالخرافات والأوهام، ولا يتنزهون عن النجاسات ولا الآثام ويأكلون الميتة والدم من الأقذار الحسية، ويستحلون القمار والزنا من الأرجاس المعنوية ويستبيحون الأشهر الحرم. وقد تمكنت صفات النجس منهم حساً ومعنى حتى كأنهم عينه وحقيقته».[15]

 

المفكر النهضوي، الحداثي، التنويري، إمام المدرسة الإصلاحية، ورغم زياراته لباريس وبيروت وتونس، ورغم قوله «في هذا العصر الذي صار فيه الكثيرون من الشعوب غير الإسلامية أشدّ عنايةً من المسلمين بالنظافة»، نسي بعد ثوانٍ ما قال، لأن الصورة النمطية عن نجاسة غير المسلم متأصّلة في ذهنه، فرأى فيهم: الشرك والأوثان، والخرافات والأقذار، والقمار والزنى...

إمام التنوير (!) لم يوفر في تفسيره حتى الشيعة من هجماته، رغم أنه عاش في مصر وحيث لا يوجد الاحتقان الطائفي، مثل حال المشرق العربي. ولكن ماذا يمكن لمنظّرٍ إصلاحي أن يقدم غير الكراهية ضد الآخر وحتى لو كان ابن دينه المختلف عنه مذهباً، ما دام يرتكز على الإسلام، ناهيكَ أنّه إسلام سني بروح وهابية!

 

إن النهضة لم تمت لأنها لم تولد قطّ!.. فالأساس الذي يرتكز على أيديولوجيا الإسلام هو أساس هش، لا يمكن البناء عليه، وإن تجرأ أحدهم على البناء فوقه، فسرعان ما سينهار البناء على رءوس الواهمين. والحقيقة إن «النهضة» أضافت خراباً إلى خرابٍ لأنها حاولت استنهاض عقيدة عنصرية.

ــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] سورة التوبة: 9/28.

[2] تفسير الكشاف.

[3] تفسير الطبري.

[4] تفسير الطبري.

[5] حاشية شيخ زاده على تفسير البيضاوي.

[6] تفسير البيضاوي والبغوي.

[7] تفسير الطبري؛ تفسير الكشاف؛ تفسير ابن كثير.

[8] وهبة الزحيلي، التفسير الوجيز على هامش القرآن العظيم، دار الفكر، دمشق، ط2، 1416ﻫ/ 1996م، ص192.

[9] تفسير الرازي.

[10] مجمع البيان في تفسير القرآن.

[11] في ظلال سورة التوبة، عبد اللّه عزام، بيشاور، باكستان.

[12] في ظلال القرآن.

[13] تفسير القرآن الحكيم (المعروف باسم المنار)، محمد عبده، ط2، القاهرة، 1366ﻫ/ 1947م، المجلد 10/ ص 324.

[14] المنار: 10/ 325.

[15] المنار: 10/326.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط