جوزيف بشارة / Oct 15, 2006

الخجل هو مجموعة من الأحاسيس التي تتولد في العادة لدى الإنسان، ويرتبط في الغالب بالمشاعر المرهفة وبالضمير اليقظ. ولأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يُخلَقُ ممزوجاً بالمشاعر والضمير دوناً عن الكائنات الحية الأخرى، فالخجل بالتالي يقتصر فقط على الإنسان دوناً عن الحيوانات والنباتات. تتفاوت درجات الخجل من فرد لفرد، وتختلف أسباب الخجل أيضاً من شخص لآخر. قد يشعر الرجل بالخجل حين يفشل أو يخسر أو يهزم، وقد تشعر المرأة بالخجل حين تتعرى أمام الطبيب المعالج، وقد يشعر الطفل بالخجل حين ينتهره أبواه لارتكابه أخطاء حمقاء. تزداد درجات الخجل في الإنسان المرهف حين يفشل في إخفاء مسببات الخجل عن الأعين والأذان، وترتفع درجات الخجل في الإنسان ذي الضمير اليقظ حين يكتشف خطأه وخداعه للآخرين. قد يسعى المرء لمعالجة أعراض الخجل بإخفاء عورته أو بالكذب أو بارتكاب الحماقات، وقد يسعى الفرد لمعالجة مسببات الخجل بالكشف عن الحقائق والصدق والموضوعية وتصحيح الأخطاء. كلا المعالجتين تسعيان لتجنب الآثار المترتبة على الخجل، ولكن الفارق بين المعالجتين هو الفارق بين ما هو صحيح وما هو خطأ، وبين البريء والمجرم، وبين العدل والظلم.

 

ما يدفعني للكتابة عن الخجل هو خبر صغير بثته وكالات الأنباء في الأسبوع الماضي شعرت على إثر قراءته بضرورة أن يشعر كل فرد يعيش بالمجتمعات العربية والإسلامية بالخجل من الأوضاع التي نعيشها من قمع فكري وظلم اجتماعي وتفرقة على أسس دينية وعرقية وجنسية. يقول ملخص الخبر أنه في إطار انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي التي جرت الأسبوع الماضي تم انتخاب كيث إليسون نائباً بمجلس النواب عن ولاية مينيسوتا. قد يبدو الخبر عادياً إذا توقفنا عن ذكر تفاصيله والمغزى الذي يحمله. تفاصيل الخبر تقول أن كيث إليسون الأفرو-أميريكي الذي تحول من المسيحية إلى الإسلام قبل نحو خمسة وعشرين سنة قد انتخب عضوا في مجلس النواب في ولاية مينيسوتا التي تعد من أكثر الولايات الامريكية بياضاً، نسبة إلى غالبية سكانها البيض المنحدرين من أصول اوروبية. جاء انتخاب إليسون، كأول عضو مسلم في الكونجرس الأمريكي عبر التاريخ البرلماني الطويل للولايات المتحدة، ليشهد ليس فقط على تزايد النفوذ والوجود الإسلامي في الولايات المتحدة، ولكن ليؤكد أيضاً على المباديء الحقيقية والأصيلة للتسامح والحرية وحقوق الإنسان التي يتمتع بها الأمريكيون. جاء الخبر يحمل لي المزيد من الدلائل على كذب وافتراءات الكثيرين في مجتماعتنا بشأن العنصرية المزعومة للغربيين بصفة عامة والأمريكيين بصفة خاصة.

 

حتى نتبين عمق التسامح الذي يبديه الأمريكيون نحو الآخر دعونا نتأمل مركبات المجتمع في ولاية تينيسي التي انتخبت كيث إليسون. تقول أرقام مكتب الإحصاءات الأمريكي أن نحو 90% من المينيسوتيين، البالغ عددهم ما يزيد عن خمسة ملايين نسمة، لهم جذور اوروبية يشكل الألمان والنرويجيون والأيرلنديون والسويديون الغالبية العظمى منهم. بينما يشكل السود والأسبان والأسيويون والهنود الأمريكيون نسبة الـ 10% المتبقية من السكان. من ناحية أخرى تشير دراسة حول الانتماءات الدينية في الولايات المتحدة نشرها مركز التخرج التابع لجامعة نيويورك الأمريكية إلى أن المسيحيين يمثلون المجوعة الدينية الاعلى في الولاية حيث يشكلون ما يزيد عن الـ 75% من إجمالي عدد السكان، حيث بلغت نسبة المينيسوتيين البروتستانت ما يزيد بقليل عن 50% وتصل نسبة الرومان الكاثوليك من المينيسوتيين إلى 25%. وذكرت الدراسة أن اللادينيين يشكلون المجموعة الثانية الأكثر عدداً في مينيسوتا حيث تبلغ نسبتهم نحو 14%. بينما يشكل الهندوس والبوذيون وشهود يهوه وديانات أخرى نسبة 4%. وتشير الدراسة إلى أن 6% من السكان رفضوا الإفصاح عن دياناتهم. تجدر الإشارة هنا إلى أن نسبة اليهود في الولاية تبلغ نحو 1% من المينيسوتيين.

 

لعل قراءة سريعة للأرقام المذكورة تشير إلى شبه سيطرة كاملة للسكان البيض وتمثيل ضئيل للغاية للملونين والسود في ولاية مينيسوتا. إضافة إلى ذلك فقراءة الأرقام تؤكد وجود غياب شبه كامل للمسلمين عن ولاية مينيسوتا. وعلى الرغم من كل هذه المعطيات فقد انتخب المينيسوتيون مرشحاً أسوداً مسلماً ليمثلهم في مجلس النواب الأمريكي في سابقة تعد الأولى في تاريخ الولاية. لم يكن فوز إليسون إنجازاً فحسب لمباديء المساواة والحرية والديمقراطية في الولايات المتحدة، وإنما جاء فوزه ليخرس أصواتاً نشاذاً تحدثت عن وجود تعصب دفين لدى الأمريكيين تجاه المسلمين. كما جاء فوز إليسون كرد عملي من الأمريكيين على الدعاوى التي يطلقها متطرفون في العالمين العربي والإسلامي بأن هناك حملة صليبية أمريكية تشن ضد الإسلام والمسلمين. ما كان انتخاب إليسون، المسلم الذي أعلن بعيد انتخابه استمداده للعزيمة والإيمان من القرآن، إلا رداً أمريكياً عملياً على دعاوى باطلة بانتشار ما يطلقون عليه تطرف مسيحي صهيوني يستهدف المسلمين وعقيدتهم.

 

تأملت في قصة حياة النائب الأمريكي الأسود كييث إليسون بعدما نما إلى علمي وجود عدة أفلام مصرية حديثة من عينة أفلام المهازل التي يطلق عليها الشبابية تسخر من أصحاب البشرة السمراء، وأيقنت بعدها الفارق الحضاري والثقافي بين الشعوب المتحضرة قولاً وعملاً مثل الشعب الأمريكي ومدّعي التحضر في العالمين العربي والإسلامي ممن يزعمون الانتساب إلى "خير أمة خرجت للناس!" لقد اعتادت المجتمعات العربية والإسلامية على التقليل من شأن أصحاب البشرة السمراء، ومعاملتهم على أنهم مخلوقات من الدرجة الثانية، واستبعادهم من المناصب والوظائف العليا، حتى اننا نكاد لا نرى وزيراً أو مسئولاً كبيراً أسمراً في أي من الدول العربية والإسلامية التي تحوي أقليات سوداء. فهل تشعر الشعوب العربية والإسلامية بالخجل من العنصرية العمياء ومن الظلم المحدق اللذين يتعرض لهما السود في مجتمعاتنا الموبوءة بالعديد من الأمراض الاجتماعية المزمنة؟

 

وعقدت أيضاً مقارنة بين انتخاب إليسون الذي تحول من المسيحية إلى الإسلام عضواً بالكونجرس الأمريكي وبين المصاعب التي يواجهها من يحاول التحول عن الإسلام في العالمين العربي والإسلامي. فما ان تسري الأنباء بمحاولة أحد المسلمين اعتناق المسيحية، عن قناعة، حتى تنقلب حياته رأساً على عقب ويجبر عادة على مغادرة بلاده هرباً من وطأة الضغوط العائلية والأمنية التي تمارس عليه. لقد اعتدنا في مجتمعاتنا اتباع سياسات مضللة وملتوية وغير شفافة في مسألة تغيير العقيدة كأن تختطف وتخبأ الفتيات، وأن يعتقل الرجال ويُعذَبوا ويُحاكموا. ولقد اعتادت الشعوب العربية والإسلامية اعتبار من من يترك الإسلام ويقبل بعقيدة دينية أخرى مرتداً خائناً يستوجب القتل. فهل تشعر المجتمعات العربية والإسلامية بالخجل من الظلم الذي تتعرض له الأقليات الدينية في بلادها؟

 

هذا هو الفارق الجوهري بين الشعوب المتحضرة والأخرى المتخلفة. فالأمريكيون المسيحيون البيض المتهمون غالباً بالباطل بالعنصرية والعداء للإسلام لم يعتبروا إليسون الأسود المرتد عن المسيحية كائناً من الدرجة الثانية، خائناً لبلاده، أو مرتداً يستحق الموت بعدما غير عقيدته المسيحية الكاثوليكية وأعلن جهراً قبوله للإسلام، بل أنهم كرموه ووثقوا به ومنحوه أصواتهم في الانتخابات التي ترشح فيها أمامه مرشحون بيض ومسيحيون. فهل يقبل العرب والمسلمون بمعاملة المواطنين السود والمتحولين عن الإسلام بنفس الطريقة المتحضرة الراقية؟ أم أن مجتمعاتنا سترفض السود على أنهم أقل شأناً وستستمع للمتطرفين من رجال الدين الذين ينادون بقتل المرتد، ويطالبون بعدم شرعية ولاية الكفار من غير المسلمين على المؤمنين!

 

هلّموا يا شعوب عربية وإسلامية إلى الشعور بالخجل من العنصرية التي تدفع إلى الإساءة والتقليل من شأن بعض الإخوة في الإنسانية الذين قد يختلفون في العرق أو الجنس أو الدين. هلموا إلى الشعور بالخجل من الأفكار المشوهة التي ترفض الآخر. هلموا إلى الشعور بالخجل من العادات والتقاليد الموروثة حين تحض على عدم التعايش مع من هو مختلف عقيدة ورأياً وفكراً. هلموا إلى الشعور بالخجل من مشاعر الكراهية نحو مباديء المساواة والحقوق والحريات الإنسانية. هلموا إلى الشعور بالخجل من العنف والإرهاب اللذين يمارسان ضد الأقليات. هلموا إلى الشعور بالخجل من النفس حين تتمكن منها العنصرية والتعصب والكراهية. هلموا إلى الشعور بالخجل من الماضي الأليم والحاضر المرير والمستقبل المظلم الذي ينتظرنا جميعاً إذا لم نتمسك بالمشاعر الإنسانية المرهفة والضمير الحي اليقظ. وأخيراً هلموا إلى التعلم من شعب ولاية مينيسوتا الحر المتحضر كيف يكون حب الآخر والقبول به حراً متساوياً في الحقوق والواجبات قولاً وعملاً ودون شعارات كاذبة خادعة.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط