بسام درويش / Aug 26, 2005

على بعد آلاف الأميال من سطح الكرة الأرضية، خرج أحد أفراد طاقم المركبة "ديسكفري" يسبح في الفضاء لإصلاح خللٍ طرأ عليها. بعد ذلك، عاد إلى داخلها وكأنه رجع إلى بيته بعد إصلاح صنبور ماء في حديقته الخارجية.

سبحت أنا ايضاً بفكري وأنا اتأمل في هذا الإنجاز العظيم، تنقله إليّ في داخل غرفتي عدساتُ كاميراتٍ مبثوثةٍ في الفضاء البعيد.

ومن هذا الإنجاز انطلقت بفكري أتأمل في إنجازاتٍ عظيمةٍ أخرى حققها الإنسان. في التلفزيون الذي أمامي أشاهد على شاشته ما يدور في العالم كله؛ في التلفون، في الكمبيوتر، في الإنترنت، في الكهرباء، في السيارة، في الطيارة، في أجهزة العلاج الطبي المعقدة، في الأدوية، وفي كل ما حولي من ابتكارات واختراعاتٍ.. في عظيمِها وتافِهِها.

يا له من إبداعٍ لا يتوقفُ عند حد. إبداعٌ لا يمكن لإنسانٍ أن يدّعيه لنفسه بمعزلٍ عن بقية البشر؛ لكن، مع كل ذلك، يمكن القول بأنّ الغرب يبقى ـ وعلى رأسه أمريكا ـ موطن الإبداع الذي يشعّ على العالم بنوره ويفيض عليه بفضله.

ترى ما الذي جعل من أمريكا ـ هذه الدولة الفتية التي لا يزيد عمرها عن مئتين وثلاثين عاماً ـ أعظم دولة مبدعة في العالم كله؟.. 

حضارةُ هذه الدولة قامت على أكتاف مسيحيين هربوا من ظلم أخوانٍ لهم يدّعون المسيحية، لكنهم لم ينسبوها يوماً إلى مسيحيتهم، وبالتالي لم يسمّوها يوماً بالحضارة المسيحية.

*******

لم يخطر بفكري وأنا أشاهد ذلك المشهد الرائع يجري في الفضاء البعيد ـ والذي لم يكن الأولَ من نوعه ـ لونُ أولئك الشجعان رواد المركبة، ولا لون زملائهم العاملين في مراكز الفضاء على الأرض. لم يخطر بفكري دينهم ولا جنسهم أو جنسيتهم. ما خطر بفكري آنذاك هو الإنسان ككل؛ هذا الإنسانُ الذي خاطر هؤلاء الرجال والنساء بأنفسهم لتأمين حياةٍ أفضلَ لهُ.

*******

وانتقلت من عالم الفضاء ذاك إلى عالم فضاء آخر.. عالم الإنترنت. هذا الإنجاز المبدع الآخر، الذي يعجز القلم عن وصف ما يقدّمه للإنسان من خدمات لا حدود لها.

أبحرتُ فيه راغباً في الاطّلاع على ردود فعلِ الناس في مختلف أرجاء العالم على حدثٍ كهذا. واستطعت أن ألمس ـ دون أن أخطو خطوةً واحدةً خارج مكتبتي الصغيرة ـ ما تعقده الشعوب من آمالٍ على هذه الإنجازات العظيمة. لمستُ هذه الآمال من خلال ما جاء في أخبار الصحف أو أقوال المعلّقين. لمستها في أحاديثِ أساتذة الجامعاتِ وطلاب العلم. لمستها في أحاديث أناسٍ بسطاء وجدوا في عالم الإنترنت متنفساً لهم. وتصوّرت ابتسامة الأمل على شفاه الإنسان أينما كان، لا بل حتى على شفاه أولئك الذين لا يعلمون ماذا تعني إنجازاتٌ كهذه. لم استغرب ذلك البتة، فكلّ إنجازٍ عظيمٍ يحققه الإنسان في أيّ مكانٍ على هذه الأرض هو إنجازٌ لمصلحة كل إنسان آخر أينما وُجِد. 

وبمقدار ما شعرت به من غبطةٍ شاركني فيها أناسٌ من مختلف الأعراق، شعرتُ بإحباطٍ وأنا أُبحِرُ بين مواقعَ اسلامية، وعلى وجه الخصوص العربية منها.

تراوحت مشاعري وأنا أقرأ وأسمع احاديثهم في غرف النقاش، بين الرثاء والاشمئزاز والغضب.

شعرت بالرثاء لهذا الشعب الذي لا زال يعجز عن الخروج من دائرةٍ أحْكَمَ إغلاقها حوله بَدَوِيٌّ مات وشبع موتاً منذ ألف وأربعمئة سنة. شعرت بالقرف من أناس يعرفون سبب عجزهم، ولكنهم عوضاً عن بذل اي جهد للخلاص منه، يقضون عمرهم باحثين عن المبررات للدفاع عنه:

ـ الغرب لم يتعلّم الدرس من انتقام الله الذي ظهر واضحاً في تحطم المركبة تشالنجر!!..

ـ غاية الغرب من إرسال المراكب الفضائية ليست لخدمة الإنسانية إنما للسيطرة على شعوب العالم!!

ـ الغرب لم يأتِ بشيء جديد.. في القرآن ما يزيد على ألف وثلاثمئة آية تتحدث عن الأكوان، وخلق الإنسان، والأسماك، والأطيار، وبقية المخلوقات!!..

ـ القرآن يخبر عن حركة الشمس قبل أن يعرف ذلك بشرٌ! (لكنها مع ذلك تشرق وتغيب على قرني شيطان!!)  

ـ الغرب وصل إلى القمر مؤخراً ولكنّ اسم نبينا سبقهم إليه بزمن بعيد.. وهاهوذا نيل أرمسترونغ يعلن إسلامه بعد أن سمع نداء الله أكبر على سطح القمر!!!!

ـ نزول الأمريكان عن سطح القمر خدعة سينمائية!!

وعلى هذا المقياس قس!..

*******

يدّعي المسلمون أنهم اخترعوا الصفر!!.. وعلى الرغم من أنه لا أساس لهذا الادّعاء إلا في مخيلاتهم، فإننا إذا أردنا مسايرتهم فيه، يمكننا أن نقول إنهم لربما اخترعوه ليؤكّدوا به هويّتهم، وليصبح رمزاً لهم ولما قدموه ويقدومونه اليوم للإنسانية!

*******

وشعرت بالغضب: إن الخطيئة العظمى للعالم المتحضر، هي في أنه مرّر ثمرات علمه لأناسٍ لا يعرفون قيمة هذا العلم. مرره لأناسٍ لم يروا فيه إلا سلاحاً يستخدمونه ضدّ الإنسانية وضدّ الحضارة التي أعطتهم إياه. وهكذا يكون العالم قد فعل عكس ما ورد في تحذير للمسيح قبل ألفي سنة:

لا تعطوا القدس للكلاب ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير لئلا تدوسَها بأرجلها وتلتفت فتُمَزِّقَكُمْ! (متى 7 :6)

**********

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط