بسام درويش / Nov 21, 2004

ما يزيد عن أربعين سنة مضت على وقوع انقلاب الثامن من آذار عام 1963 في سورية والذي أطلق عليه أصحابه اسم "ثورة".

وفي عالم، كعالم الشرق الأوسط، "تبهدلت" فيه كلمة "ثورة"، كان يمكن لذلك الإنقلاب أن يُعتبر ثورة لو توفّر فيه آنذاك شرط واحد على الأقل: لو كان نظام الحكم السابق الذي أطاح به الإنقلابيون نظاماً فاسداً وغير شرعي حقاً!

**********

من العدل أن نقول، إنّ النظام السابق للعهد الحالي في سوريا وصل أيضاً إلى الحكم عن طريق انقلاب، ولكنْ، إذا كان هناك منِ انقلابٍ في سوريا أو في أية دولة من دول الشرق الأوسط يمكن أن يعتبر ثورة، فإننا لن نجد انقلاباً يستحق هذا الاسم أكثر من تلك "الحركة" ـ كما دعاها أصحابها ـ، حركة الثامن والعشرين من أيلول المجيدة!

 

لقد أطاحت تلك الحركة بحكم فاسد غير شرعي كان ـ لو قُدّر له أن يستمر ـ سيُفقِدُ الشعب السوري كيانه وهويته وثروته وكرامته ومستقبله. فضلُ القائمين بتلك الحركة لم يتوقف فقط عند الإطاحة بحكم فاسد، إذ أنهم قادوا سورية بحكمة ونزاهة ليضعوها خلال أشهر قليلة في مكانها اللائق بين أعظم الدول ديموقراطيةً في العالم. وبذلك، تحولت "حركتهم" لتصبح ثورة: ثورة فكرية واقتصادية وسياسية وثقافية واجتماعية!

   

لم تعرف البلاد ازدهارا اقتصادياً وفكريا وحضارياً كما عرفته في ذلك العهد. لقد كان العهد الوحيد الذي اسندت فيه الحقائب الوزارية لأصحاب الاختصاص. وكان العهد الوحيد الذي تجرأت فيه فئة من الناس على الخروج في مظاهرات تحت حماية رجال الشرطة. وإذا كان هناك من فترة في تاريخ سورية لم يعد المواطن يخجل من التصريح بانتمائه إلى بلده، فإنها كانت خلال ذلك العهد. فقبل ذلك العهد، كان السوري يخجل من القول بأنه سوري إن سئِل عن جنسيته وهو خارج بلاده، وكان غالباً ما يدّعي بأنه لبناني.

خلال ذلك العهد، عاد للسوري شعوره بكرامته وبكبريائه.

وخلال أشهر قليلة، تحولت سورية من إقليم شمالي تابع لمصر وخاضعٍ لمخابرات سيء الذكر جمال عبد الناصر وأزلامه في دمشق كعبد الحميد السراج وغيره، إلى منارة للمنطقة كلها على طريق الديموقراطية والحرية والانفتاح والازدهار.

 

انقلابيو الثامن والعشرين من أيلول، أعادوا للشعب السوري كرامته واستقلاله. ولقد وفوا بكل ما وعدوا إذ سمحوا للأحزاب السياسية بالعمل، وأطلقوا سراح الحريات المأسورة، وسلموا الحكم للشعب بكل معنى الكلمة، وأعادوا لسورية مكانها اللائق بين أمم العالم.

 

انقلابيو الثامن والعشرين من أيلول شعروا بآلام أخوتهم أبناء أمتهم فقاموا بحركتهم مع معرفة مسبقة أنّ مصير كل منهم كان سيكون الإعدام لو فشلوا. لم تكن طموحاتهم شخصية لأنهم انسحبوا إلى ثكناتهم بعد أن قاموا بواجبهم الأخلاقي تجاه أمتهم.

*********

لكن، ماذا عن انقلابيي الثامن من آذار؟.. تعالوا نستعرض بعض ما قدّموه لسورية وشعبها: (مع الإشارة إلى أن ما سنأتي على ذكره ليس سوى رؤوس أقلام لمواضيع سنتحدّث عنها بتوسّع في المستقبل القريب)

ـ أطاحوا بحكمٍ منتخب من الشعب بحرية ما بعدها حرية، إلى درجة أنه قد كان لهؤلاء اللصوص أنفسهم ممثلون في برلمانه.

ـ جاءوا إلى الحكم يحملون شعار "الوحدة" وبذريعة الإطاحة بحكم الانفصال، فكان نظامهم أكثر الأنظمة خلافاً مع كل الدول العربية وعلى رأسها مصر التي تباكوا على انفصام عرى "الوحدة" معها.

ـ جاؤوا يحملون شعار "الحرية" فأصبحوا من بين أكثر أنظمة الحكم في العالم قمعية. صادروا الحريات العامة والشخصية، أغلقوا الصحف، كمموا الأفواه، وسلطوا على الشعب رجال مخابراتهم الذين كانوا يبعثون بهم إلى ألمانيا الشرقية وغيرها من الدول الشيوعية للتدرب على استنطاق الناس وتعذيبهم.     

ـ جاؤوا إلى الحكم يحملون شعار "الاشتراكية"، فأنتج حكمهم ثلاث طبقات: طبقة فاحشة الغنى تتكون منهم ومن أعوانهم. وطبقة فقيرة معدمة هي غالبية الشعب. وطبقة ثالثة تسمى "وسطى" وظيفتها امتصاص دم الطبقة الفقيرة لتغذي به الطبقة الفاحشة بينما تعيش هي على لحس ما علق بالأنابيب الناقلة.

ـ تطاحنوا فيما بينهم على الحكم تطاحن اللصوص على الغنائم فأغرقوا البلاد مراراُ في حمامات دم. 

ـ خلال عهدهم كاد جاسوس إسرائيلي ـ إيلياهو كوهين ـ أن يتسلمّ حقيبة وزارة الدفاع بعد أن اقام علاقات "حميمة جداً" مع قيادات رفيعة في الحزب والدولة.. صدر حكم الإعدام بحق كوهين وبقي أصدقاؤه الذين أفشوا له بأسرار الدولة والجيش في مناصبهم حتى اليوم!

ـ خاضوا حربين خاسرتين مع إسرائيل مما أدّى إلى فقدان سورية لمنطقة من أجمل مناطقها وأغناها أثرياً وزراعياً. 

ـ صادروا المدارس الخاصة التي كانت تقدّم لسورية الشريحة الكبرى من المثقفين والمفكّرين والسياسيين وأصحاب المهن الرفيعة. نزلوا بمستوى التعليم إلى أسفل المدارك، وفرضوا على الطلاب تمجيد الفرد الحاكم. 

ـ شوّهوا اسم سوريا في العالم إذ في عهدهم فقط نزل اسمها على قائمة الدول الراعية للإرهاب العالمي.

ـ في عهدهم استشرى الفساد بشكل لم يسبق له مثيل على جميع الأصعدة الاجتماعية والإدارية وحتى القضائية. فالمخدرات انتشرت بين الشبيبة، والرشوة أصبحت أمراً عاديا لا غنى عنه لحل أية مشكلة في الدوائر الحكومية.

ـ في عهدهم وصلت سوريا إلى أسوأ وضع اقتصادي في تاريخها الحديث حيث تزيد نسبة البطالة عن العمل فيها إلى عشرين بالمئة حسب المراجع الدولية (وهي نسبة محافظة جداً حيث هناك بحوث تشير إلى أن نسبة العاطلين عن العمل تقدَّر بحوالي 30 بالمئة بناء على دراسة صادرة عن مجلس الوحدة الاقتصادية العربية ومنظمة العمل العربية)

ـ أساؤوا إلى العلاقات مع الجوار، كالأردن حين قاموا بغزوه ولا زالوا يحتلون جزءا من أرضه، ولبنان الذي عملوا كل ما بوسعهم لإثارة النعرات بين طوائفه ليتسنى لهم احتلاله، وأيضاً مع العراق  ـ  خلال حكم صدام حسين ـ وهاهم الآن بعد سقوط صدام لا زالوا مصممين على الإساءة للشعب العراقي محاولين حرمانه من المكاسب التي حققها بعد التحرير.

ـ وأخيراً وليس آخراً ـ إذ لنا عودة لتفصيل كل ما أتينا على ذكره ـ حولوا نظام الحكم في سورية من جمهوري إلى دكتاتوري وراثي عن طريق استفتاءات مزيفة مهينة بحق الشعب.

وبعد كل ذلك، نسمع عن اعتقالات يقوم بها النظام لأفراد من الشعب بحجّة تنظيمهم لاجتماعات غير قانونية أو بحجة التآمر على الإطاحة بالشرعية!!!

هل يحق لهؤلاء الذين اغتصبوا الشرعية وسرقوا حلم الشعب السوري ـ بالإطاحة بعهد كان سيصل ببلدهم إلى مصاف أرقى بلدان العالم ازدهاراً وحرية وديموقراطية ـ أن يتلفظوا بكلمة "شرعية"؟..

قبل أن ينطق هؤلاء بكلمةٍ مقدسةٍ كهذه، يجدر بكل فرد منهم أن يجيب على سؤال واحد على الأقل: من أين لك هذا؟..

********* 

صورة قاتمة جداً للوطن الأم، يحملها معهم السوريون العائدون إلى أمريكا بعد زيارتهم له.

الكل يتحدث عن الفساد المستشري في الدوائر.. عن الغنى الفاحش.. عن الفقر المدقع.. عن غلاء المعيشة.. عن انتشار المخدرات.. عن ازدياد الجرائم.. عن فوضى السير.. عن الأوساخ والروائح القاتلة في الشوارع.. وعن مظاهر التعصب الديني.. وأكثر من كل ذلك، عن انتظار الناس بفارغ الصبر لدخول الدبابات الأمريكية من الشرق علها تخلصهم من هذه الأوضاع "الزفت".

ما هو مؤكد أنّ انتظار الشعب للحرية لن يطول، ولكن الأمل هو في أن لا تحتاج الحرية لدبابات أمريكا. رياح التغيير ستهب من الداخل ولن يكون أمراً مفاجئاً لأحد إن دعمتها قريباً حكومة سورية حرة في المنفى.

أربعة عقود تعيسة مظلمة عاشتها سورية، آن للشمس بعدها أن تشرق. وإن غداً لناظره قريب!

*************

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط