بسام درويش / Aug 08, 2003

لماذا على الأميركيين في العراق أن يضحوا يومياً، أو بين يومٍ وآخر، بجندي من جنودهم؟..

هل هناك حقاً ما يستحقُّ، أو حتى، ـ من ـ يستحق هذه التضحية؟

هناك من يجيبُ على هذا السؤال ويقول بأنهم هناك من أجل مصالحهم فقط، ومصلحتهم الأولى هي في النفط، ولذلك، فإنّهم إن ضحّوا، فإنما يضحون من أجل هذه المصالح.

في هذا الجوابِ بعضُ الحقيقةِ، وموضعُ الحقيقةِ منه هو أنَّ الأميركيين حقاً هم وراءَ مصالح. لكنّ القول بأن الحصولَ على نفطٍ رخيص الثمن، هو كل ما يشغل فكر الأميركيين إلى درجة تدفعهم إلى التضحية بأبنائهم وببلايين الدولارات معهم، هو قول لا يقوله أو يصدّق به إلا أصحاب تفكير سطحي.    

العلاقاتُ بين شعوبِ ودولِ العالم بأسرِهِ، كلها قائمة على المصالح، ولأميركا بالطبع مصالح كما لغيرها. لا شكّ في أن النفط مادة ضرورية لأمريكا، لكن كما وأنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، فإنه ليس بالنفط وحده تحيا أميركا، وإنه لأسهل على أميركا في هذا الزمن، أن تجد بديلاً للنفط، من أن تضحي بأبنائها وبلايينها في حرب كهذه الحرب أو غيرها.

مصلحة أميركا الأكثر أهمية الآن، تتركز في القضاء على الإرهاب، سواء تمّ ذلك بالإطاحة بالأنظمة التي ترعاه، أو بمساعدة الأنظمة التي تعاني منه.  إنَّ عالماً مستقراً آمناً هو وحده الذي يكفل أسعاراً معتدلة للنفط ولغير النفط. في الواقع، عقود قليلة من الزمن ستمضي ولن يعود بعدها للنفط قيمة، أو لن يعود هناك للنفط من وجود.  

حرب أميركا ضد الإرهاب ليس لمصلحتها فقط، إنما لمصلحة العالم بأسره الذي وقع أسير الإرهاب. وأميركا التي هي دون جدال، رأس العالم التكنولوجي الذي يعتمد عليه من أجل مستقبل أفضل لكل البشرية، لا يمكن أن تعمل لأجل هذا المستقبل وهي ترزح تحت عبء الإرهاب. نظام حكم العراق البائد، لم يكن يرهب العالم فقط بل كان يرهب شعب العراق أيضاً. ومن هنا، فقد كان القضاء عليه واجباً إنسانياً لمصلحة العالم والشعب العراقي معاً.

إنه لمن المضحك جداً أن نسمع عراقياً أو غير عراقي يقول بأن أميركا قامت بغزو العراق لتسرق نفطه من أصحابه.

متى كان هذا النفطُ حقاً ملك أصحابِه؟.. صدام حسين لم يعمّر قصوره من موارد زراعة البطاطا أو الجَبس في تكريت. وحياةُ الرفاهية التي كان يعيشها ولداه عدي وقصي، لم تكن من وراء مساعدة أبيهما في حراثة الأرض وزرعها. وأعضاء عصابة صدام لم  يكونوا يعملون كفلاحين في مزارعه. صدام وأبناؤه وبناته وأفراد عصابته كانوا يعيشون من موارد النفط، لكنَّ غداً لناظرِه قريبُ ولسوفَ يرى العراقيون والعالم معهم، أنهم لم يتمتعوا في تاريخهم بموارد نفطهم، كما سيكون تمتعهم به في عهدهم الجديد، والفضل في ذلك سيكون للأميركيين.  

قريباً سيقوم العراقيون بإدارة شؤون بلادهم بأنفسهم، وسيملكون ما هو أهم من النفط. سيملكون الحرية التي حُرموا منها لسنين طويلة، وسيملكون كل الحقوق التي كانت في العهد البائد حكراً على العصابة الحاكمة. وسيغادر الأميركيون العراق، وعلى الأرجح، سيخرجون هم وحلفاؤهم بعقود وامتيازات خاصة صناعية وتجارية وغيرها. آنذاك، ستعود الأوركسترا نفسها إلى العزف على وتر المصالح. لكن، هل هي جريمة حقاً أن يخرج الأميريكون وحلفاؤهم من العراق بامتيازاتٍ خاصة؟.. هل هي جريمة يرتكبها قادة العراق الجدد إن همُ فضّلوا الذين خلّصوهم من كابوسهم المرعب، عن غيرهم من دول العالم بميزات خاصة؟.. عرفان الجميل ليس جريمة وليس خيانة وطنية، والأمم التي ضحّت ولا زالت تضحّي من أجل مستقبلٍ أفضلَ للعراق، هي بكل تأكيدٍ، أحق بالتقدير من حكومات الدول التي كانت تتعامل مع صدام وعصابته سراً، على حساب حليب أطفال العراق ودوائهم.  

إنَّ أية اتفاقاتٍ تخرج الدول المتحالفة بها من هذه الحرب لسوف تكون حلالاً زلالاً عليها. على الأقل ستكون قد حصلت عليها من حكومةِ شعبٍ وليس من عصابة لصوص. ستكون قد حصلت عليها كبادرة عرفان بالجميل وليس لقاء غضّ النظر عن احتلال صدام للكويت، أو عن جرائمه ضد شعبه والإنسانية كلها.    

لو كان النفط هو حقاً غاية الأميركيين من الحرب، فكل ما كان عليهم إذن أن يفعلوه، هو إزاحة حكم صدام وتنصيب حكومة ديكتاتورية أخرى موالية كل الولاء لهم، ودعمها بكل ما ملكت أيديهم من تكنولوجيا حديثة. بعد ذلك، ما عليهم إلا أن ينسحبوا إلى قواعدهم في قطر أو الكويت أو عرض البحر، يراقبون ويضربون متى دعت الحاجة إلى ذلك.

دعونا ننظر إلى الحقيقةِ نظرةً عاقلةً وعادلة: قوةُ الولايات المتحدة ونوعيةُ ترسانتها العسكرية لا تضاهيها قوة أو نوعية في العالم كله. لكنها مع كل ذلك، لم تفعل ما فعلته أية دولة أخرى بلغت في التاريخ البعيد أو القريب ما بلغته هي في الحاضر. ألمانيا، حين عَظُم شأنها، دمّرت أوروبا.  وبريطانيا، حين كانت دولة عظمى، ملكت الدنيا إلى درجةٍ لم تكن الشمسُ تغيب فيها عن أراضيها.  الاتحاد السوفييتي وفرنسا والصين وإيطاليا وإسبانيا وهولندا وغيرهم، كلهم خاضوا حروباً لم تكن غايتهم منها إلا الاحتلال واستغلال البلاد المحتلة. أميركا وحدها كانت كل حروبها حروباً تحريرية.

طبعاً لكل دولة من الدول مصالح، وعلاقات دول العالم كله قائمة على المصالح. وليتذكّر الذين يلعبون على وتر الدين، أنّ عدداً من زيجات محمدٍ كان قائماً على المصالح أيضاً، على الأقل من وجهة نظر إسلامية!.. ما يميز أميركا عن غيرها من دول العالم، أنها نظراً لما تتمتع به من قوةٍ، ليست بحاجةٍ إلى لف ودوران لحماية مصالحها أو لنيل حقوقها. لكن، ولحسن حظ العالم، فإن هذه القوة ليست بيد فردٍ ديكتاتوري أو أمة عدوانية، إنما بيد أمة ذات دستور عظيم وحكومة مسؤولة، ولولا هذه القوة المسؤولة، لكانت أكثر شعوب العالم تخضع لأشباه صدام، بشكل مباشرٍ، أو غيرِ مباشر. وفي الواقع، لقد كان ذلك هو حال الدول التي عارضت عزم أميركا على تحرير العراق، لأنَّ زعماءها كانوا تحت حكمه بشكل غير مباشر مما دفعهم إلى موقفهم المشين المعروف.

*********

هنا أعود إلى سؤالي الافتتاحي: نعم.. هناك ما يستحق التضحية، ولكني أخشى أن أبلغ يوماً أقول فيه أنه لم يكن هناك ـ من ـ يستحق التضحية. 

أمامَ مشاهد المظاهرات الغاضبة التي يقوم بها عراقيون ضد القوات الأميريكة، وأمام الأيدي الملوّحة بالتهديد والهتافات المعادية واللافتات والأعلام المستفزة، وأمام هذه الأسماء الصغيرة التي تبرز على الساحة العراقية لتكبر بقدرة قادر فتصبح أسماء قيادية معارضة.. لا يسعني إلا أن أتساءل: هل يعرف هؤلاء قيمة الحرية التي قُدّمت لهم على طبق من ذهب؟.. أو بالأحرى، هل يستحق أناس كهؤلاء أن يضحي جندي أميركي آخر بحياته من أجل حريتهم ومستقبل بلدهم؟.. لقد قام الأميريكون وحلفاؤهم بسحق النظام الإرهابي، فلماذا لا يقومون بتنصيب حاكم عسكري عراقي على رأس قوة مدرّبة أفضل تدريب قادرةٍ على التكفّل بفلول النظام المسحوق؟ الجواب على ذلك واضح لا جدال فيه، وهو أن الأميركيين أمة متحضرة ولن يتركوا العراقيين يصفّي بعضُهم البعضَ الآخر حتى النهاية. وبعبارة أخرى، إن الأميركيين يضحون حتى النهاية من أجل هذا البلد، إلى أن يضمنوا قيام حكومة قوية محلية، تسيطر على الأوضاع بقوة الدستور، قبل أن تفعل ذلك بقوة السلاح.

إنه لمما يثير الضحك أن نسمع بأن سكان "مدينة الصدر" ـ مدينة صدام سابقاً ـ قد وجهوا إنذاراً للقوات الأميريكة للخروج خلال أربعة وعشرين ساعة وإلاّ.. "لن يكونوا مسؤولين عما سيواجهه الجنود من ردود أفعال!.." كان هذا، رغم قيام القيادة العسكرية الأميريكة، بتوجيه رسالة اعتذار، لسقوط أحد المتظاهرين قتيلاً خلال المناوشات التي حصلت بسبب رفع الشيعة لعلم اسود، ومحاولة الجنود الأميركيين إنزاله.

صدام حسين لم يقم بإنزال علمٍ أسود أو قتل أحد المتظاهرين أو ما شابه ذلك. لقد داس على كرامة وشرف العراقيين كلهم. أنزل رجالهم، وشيوخهم، ونساءهم وهن يحملن أطفالهنّ على صدورهنّ، إلى قبورهم وهم أحياء. 

ربع قرنٍ من الزمن أو يزيد، لم نسمع خلاله لهؤلاء الأشاوس صوتاً ينذرون به صدام أو أحداً من رجال عصابته للخروج من أحيائهم. ربع قرن من الزمن أو يزيد، لم يتجرأ العراقيون خلاله على رفع صوتٍ ضد قاتلهم وسارقهم وهاتك شرفهم. ربع قرن من الزمن أتاهمُ بعدهُ من يرفع عنهمُ كابوس الذل والفقر والجوع والرعب. أين كانت ألسنتهم حين كانت بناتهم تُغتصب في المدارس من قبل عدي وعصابته؟.. أين كانت ألسنتهم حين كان آباؤهم وأخوتهم ونساؤهم وأطفالهم يقادون إلى مقابرهم الجماعية؟.. أين كانت ألسنتهم حين منعهم صدام حسين من أداء شعائرهم الدينية طوال فترة حكمه؟.. هل تجرأوا على تغيير اسم مدينة صدام إلى "مدينة الصدر" في عهده؟.. هل سمعوا من قبلُ في تاريخهم كلمة اعتذار من أيّ حاكم من حكّامهم ؟.. هل سمعوا من صدام أو أولاده كلمة اعتذار عن مئات الألوف الذين ذهبوا ضحية جنون العظمة الذي كان ثلاثتهم يعانون منه. لقد كان على الأميركيين أن يعرفوا بأن اعتذاراً كهذا يصدر عنهم، لن يكون في مصلحتهم ولا في مصلحة العراقيين، لأنّ كل ما يؤدي إليه، هو إصابة هذه الفئة من الناس، بذلك المرض نفسه الذي كان صدام وأولاده مصابين به.  

ربما يقول البعض أن هؤلاء ليسوا إلا قلة، وأن أغلب الشعب العراقي يقدّر ما قام ويقوم به الأميريكون. ولكن، إذا كان هؤلاء هم الأقلية، فأين هي الأكثرية، وماذا تفعل هذه الأكثرية في مواجهة الأقلية التي تقف في وجه عراق الغد؟..

لماذا لا تخرج هذه "الأكثرية" في مظاهرات حاشدة ـ إن لم تكن للتعبير عن تقديرها ودعمها لقوات التحرير ـ فعلى الأقل للتأكيد على تمسكهما بالمكاسب التي حققها التحرير، وللإعلان عن تصميمها على المضي في بناء عراق الغد؟

كيفَ للعالمِ أن يعرفَ أنّ هذا الشعب يستحقُّ الحرية؟

لماذا تقبع هذه "الأكثرية" المؤيدة في بيوتها، وتترك الشارع "للأقلية" الجاهلة التي لا تعرف قيمة الحرية؟

حسنٌ أن نسمعَ أصواتاً لعراقيينَ يُعبِّرون عن امتنانهم للمحررين وعن غضبهم من الجاهلين. حسنٌ أن نقرأ لأقلام واعيةٍ تندد بالذين يعرقلون مسيرة العراق نحو غدٍ مستقرٍّ مزدهر. ولكنّ كل دقيقة يضيعها الأميريكون وحلفاؤهم في التصدي لهؤلاء الجهلاء، تتسبب في تأخير مسيرة التقدم أياماً وأسابيع. فلمَ لا تقف هذه "الأكثرية" لتعرّي على الملأ تلك الفئة المعادية لمستقبل العراق؟  

خروج هذه "الأكثرية" إلى الشوارع أمر ضروريٌّ ومهم، لأنه سيقول لتلك "الأقلية" الجاهلة، "كفاكمُ!.."

كفاكُمُ فالعراقُ لن يعود إلى الوراء. كفاكمُ فالعراق لم يتخلّص من ديكتاتورية الفرد ليقع تحت ديكتاتورية الدين. كفاكمُ فالعراقُ ـ شئتم أم أبيتم ـ سيحتل مكانه بين أمم العالم المتحضرة ليساهم معها في بناء مستقبل أفضل للعالم كله.

اخرجوا إلى الشوارع يا أهل "الأكثرية". قولوا لقوات التحالف: نحن معكم.. نحن نقدّر تضحياتكم ولسوف نضحّي معكم. ارفعوا علماً جديداً للعراق لا لون فيه إلا البياض، ولا عبارة عليه إلا كلمة "الحرية".

أخرجوا لتؤكدوا لأولادكم أن الرعب والذلّ لم يعشّشا في قلوبكم، وإلا لورِثَ أبناؤكُمُ عنكمُ الذلَّ والجبن.

أخرجوا مع أولادِكم ونسائِكم، وابحثوا في كل شبر من العراق عن صدام وعن بقايا فلوله، لتقودوهم والأرسان حول أعناقهم إلى يد العدالة.

أخرجوا وافعلوا أي شيء للتعبير عن تصميمكم على دفع عجلة بناء العراق، حتى ولو كانت مساهمتكم في كنس الشوارع وغسل أرصفتها. 

جنود أمريكا والحلفاء ليسوا على أرضكم من أجل نقطة نفط. إنهم هناك من أجل تحقيق حلمٍ يشترك فيه أبناؤهم وأبناؤكم معاً: إنه حلمُ بناءِ عالمٍ خالٍ من الخوف والذل، تعيش فيه الشعوب جنباً إلى جنب دون خشية من غزو أو اعتداء. عالمٌ لا يتنافس فيه الناس إلا من أجل حياة أفضل للإنسان أينما وُجد، بغض النظر عن لونه وجنسه ومعتقده.

===================

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط