محمود كرم / May 27, 2009

لا يتكامل الوجود الإنساني إلا من خلال الفعل الإخلاقي على مستوياته كافة، فلا يمكن لنا أن نتجاهل هذا الشيء أو ننكره، ولكن ما يجعلنا نتساءل أمام هذا الأمر: هل تعتبر الأخلاق طبيعة كامنة في الذات الإنسانية ومنسجمة معها وبالتالي فهي من النواميس الإنسانية التي لم تختلف عليها البشرية في أي زمان أو مكان، أم هي وصايات وفروضات أخلاقية محددة دعت إليها معتقدات دينية، أم هي تشريعات وأعراف فرضتها القوانين التي تعاقبَ الإنسان على إيجادها وتفعيلها عبر مراحل تطوره ومن ثمَ تداولها كأنماط سلوكية في الحياة.؟

 

أعتقد أن الأخلاق كفعل يتجسّد في السلوك الشخصي أو كفعل يتخذ طابعاً تداولياً بين الناس عامةً تبقى له معايير تباينية من بيئة إلى أخرى، ومن مجتمع إلى آخر، ونظرة الناس للأخلاق بصورة عامة تختلف من واحد إلى آخر، وتؤثر في اختلاف المعايير جملة من التكوينات الثقافية والمجتمعية والبيئية والمعرفية، ولكن في معظم الأحوال كانت الأخلاق تمثل حاجة الإنسان الدائمة إلى التماهي الثقافي والمسلكي مع احتياجاته وأفكاره واهتماماته وتفاعلاته.. 

 

فهناك مَن يرى أن الأخلاق مسألة لها علاقة مباشرة ووثيقة بالمصلحة الشخصية، فهي الطريق إلى تحقيق المنفعة المصلحية على مستوى الذات بعيداً عن مثاليات القيم الأخلاقية الإنسانية، وتبقى الأخلاق في هذه الحالة عمل يختص بفعل الإنسان وقدرته على تفعيلها في مرحلة زمنية معينة أو في مكان معين، وهي في النهاية تعتبر بالنسبة لصاحبها مجرد وسيلة مرحلية لتحقيق غاية ما، تطبيقاً للنظرية الشائعة (الغاية تبرر الوسيلة)، فهذه النظرية وإن كانت تمثل بالنسبة للكثيرين طريقة مثلى في النظر إلى الأخلاق، إلا إنها من وجهة نظر الإنسانيين عموماً لا تعتبر أخلاقية لأنها لا تتمدد في الزمان والمكان، ولأنها ليست معنية بتداخلها المباشر بالسلوك أو الفعل الإنساني الذي عليه أن يحدد بدايةً وسائله التي تلزمه بما هو إنساني وأخلاقي له وللآخرين تحقيقاً للغايات السامية التي ينشدها، وليسَ الاتجاه نحو تفعيل غايات النفعية الشخصية بالتطاول على حقوق الآخرين، والتي بدورها تخلو من تبني وسائل الفعل الإنساني ذي المضامين العاكسة لمسلكيات الخير والمحبة وقيم الأنسنة..

 

وكيف سيصير عليه الوجود الإنساني من غير الأخلاق ؟ قد يأخذنا هذا التساؤل إلى حقيقة تتلخص في مدى تأثير الأخلاق على تجذير نزعة الأنسنة في الحياة الأخلاقية ومدى تأثيره في نهاية المطاف على إنسانية الإنسان .؟ فالأخلاق هي لغة التواصل المثلى بين الإنسان والمجتمع، وبين الإنسان وأي محيط يتحرك فيه، لأنه ببساطة لا يمكن أن يتواصل البشر تواصلاً إنسانياً حقيقياً بعيداً من منطق الأخلاق، وانطلاقاً من ذلك يرى الإنسانيون أن الأخلاق لا يمكن فرضها على المجتمع عبر جملة من التوجيهات التعنيفية والارشادات الإلزامية الدينية كما هو حاصل في المجتمعات المبرمجة دينياً، بل يرون أن الأخلاق تنمو مع الطبيعة الإنسانية وإذا لم يتمتع الفرد بالحس الأخلاقي فلا يمكن فرض الأخلاق عليه بالقوة، فالإنسان بطبيعته ومكنوناته الذاتية مسكون بطاقة أخلاقية تدفعه للتشارك مع الآخرين في إيجاد وصناعة الحياة الإنسانية الجميلة، وهي في النهاية فعل واع ٍ له علاقة مباشرة بوعي الإنسان ومسؤوليته وإدراكه العميق لحقيقة وجوده وماهية ممارساته، ويجد أن الأخلاق تعبير داخلي عن كيانه الإنساني الخلاق، وانعكاس لحقيقة وجوده الإنساني الذاتي والعقلي والمعرفي والوجداني، وليست تعلميات ووصايات وفروضات ارشادية توجيهية دينية أو مجتمعية، يجب أن يؤديها شكلياً وظاهرياً لأنه يراها هكذا مفروضة عليه..        

 

ولذلك يعتقد الإنسانيون أن مظاهر التدين الشكلي لا علاقة لها بالأخلاق وليس بالضرورة هي الأساس الذي تقوم عليه القيم الأخلاقية، ففي بعض الأحيان قد يكون التمسك بالمظاهر الدينية طريقاً نحو النفاق الاجتماعي والمرواغة النفعية المصلحية وخداع الذات، وقد نصادف أناساً كثيرين لا يدينون بدين ما ولكنهم في قمة الأخلاق والمثالية والحس الإنساني الرفيع، ولذلك يؤمن الإنسانيون أن الأخلاق من النواميس الإنسانية التي آمنت البشرية بها ووجدت فيها خلاصاً للإنسان من المهالك والقباحات والشرور ولا علاقة مباشرة لها بأي دين، ويرون أن الأخلاق التي لا تحقق إنسانية الإنسان ليست أخلاقاً، ولا تدخل في صميم الفعل الأخلاقي الذي يهدف إلى خلق حالة من الانسجام الطبيعي التوافقي بين الإنسان من جهة وبين كل مساعيه الخيّرة في الوجود عبر الإيمان بالقيم الأخلاقية التي تجعل من الإنسان أخلاقياً في معارفه الدنيوية وفي مساعيه المسلكية وفي تعامله وتعالقاته مع غيره وفي نظرته للحياة عموماً، فعندما يتحلى الفرد بأخلاق التسامح ويجد أن هذه الأخلاق تعتبر قيماً سامية فأنه في هذه الأخلاق يبني جسراً من التواصل الإنساني الجميل مع الناس بعيداً من طبيعة الفروقات الطبقية والاجتماعية أو الانتماءات الدينية، وحينما تتمثل الأخلاق في البحث عن الفضيلة عبر تقصي سبل القيم المعرفية  لها فإن الإنسان هنا يريد أن يؤسس اتجاهاً مسلكياً في الحياة يقوم على أن الفضيلة تعني فيما تعنيه البحث عن أفضل السبل لرقي الإنسان عن طريق المعرفة العلمية، لذلك أجد أن الجهل قد يكون واحداً من مصادر الشر التي تحيق بالإنسان وهادم كبير للأخلاق، وحينما نضع الأخلاق في إطاره الإنساني العام وننطلق من هذا الإطار في التعامل مع الآخرين فإننا نحقق بذلك واحدة من أعظم القيم الأخلاقية وهي احترام الآخر مهما كان هذا الآخر، وبهذا الاحترام نصل إلى المعنى العميق للوجود الإنساني الذي يجب أن يتداخل في تعميق الأخلاق الإنسانية ضمن سياقات الأخوة البشرية متجاوزاً بذلك شرورالانتماءات الدينية والهوياتية والمذهبية الخانقة..

 

والذي لا يريد أن يفهمه البعض هو أن معايير الأخلاق تختلف من مجتمع إلى آخر حسب المنظومة الثقافية والمسلكية للمجتمع، ويجب أن يتم التركيز على المعيار الحقيقي للأخلاق، فمثلاً في المجتمعات العربية والإسلامية نجد أن معيار الأخلاق هو في مقدار ما يعكسه الأفراد في سلوكهم العام في الحياة من خلال تمسكهم بالمظاهر الدينية وحرصهم الشديد على إظهار تلك المسلكيات الشكلية الظاهرية والتي يجدون إنها تعبير عن الأخلاق أو تثبيت لها، وكذلك يجدون الأخلاق في تمسك المرأة بالحجاب الإسلامي وغير ذلك من المظاهر الدينية الشكلية، بينما معيار الأخلاق يكون في مقدار ما يبديه الفرد من احترامه لذاته وللقانون الذي وجد لخدمته، ويجد أن الأخلاق تعني نظافة الذات والنوايا، وتعني المحافظة على نظافة وطنه وتعني الصدق في التعامل وعدم الغش والأمانة العلمية ونظافة اليد ونبل المقصد وتبني مرجعية الضمير المسؤول، وفي عدم استغلال المنصب في المنفعة الشخصية، وأما ما ينتهجه الإنسان في مسلكياته الشخصية الخاصة فأمر يخصه وحده،  وفقاً لما هو حق له في الحياة من دون أن يلحق الأذى بأحد..

محمود كرم، كاتب كويتي    tloo1@hotmail.com

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط