محمود كرم / Jan 28, 2016

التجربة وحْيُكَ المقدّس، هكذا أراهنُ دائماً على الإنسان، صانعاً حقيقيّاً لوجودهِ واختياره وحرّيته. التجربة وعيّ اللحظة، وادراكها، وصناعتها، واستنطاقها، وبلورتها. وقد تكونُ أساساً لِوعيّ يتأسّس، وتأسيساً لِوعيّ يتجذّر. ففي التجربة الذاتيّة يذهب الإنسان بعيداً إلى استثارة ما لديهِ من أفكارٍ وتأمّلات وتراكمات معرفيّة ومشاعرَ أيضاً، يختبرُ بها درجة علاقته وانساجمه وتفاعله واحساسه مع تجربتهِ، ويقيسُ من خلالها وعيهُ الذاتيّ بها.

وأستطيع القول، أنّ التجارب الإنسانية كانت ولم تزل، اسهاماً فعليّاً في تشكيل الوعيّ الإنسانيّ. الوعيُّ الذي يتشكّل خارج المناخ المسموم بالأدلجات القامعة والأسبقيّات اليقينيّة، وخارج الاشتراطات الدينيّة والمذهبيّة، وخارج التحيّزات الهوياتيّة الهالكة. إنّهُ الوعيّ الإنسانيّ الذي يستخلِصُ وجوده وملامحه وفكره من عمق التجربة الذاتيّة الخالصة. فالتجربة وعيّ الذات بِحقيقة وجودها على قيد التجربة، والذات وعيّ التجربة بِجدوى وجودها على قيد الذات. ولذلك لا يُمكن للذات أنْ تكونَ مستقلّة وحرّة وواعية وبانيّة لِفكرها واختيارها ومناخها، إلاّ من خلال استعدادها الدائم لِتبنّي تجربتها الذاتيّة الخالصّة، والمحافظة عليها من التشويش والتزييف والخدش والتخريب، وحمايتها من شرور الانقياد والاستحواذ والهيمنة، وصقلها بِالمزيد من التجربة الذاتيّة. ومن شأن ذلك أن يمنح الذات فرصةً أكبر في التعمّق بتجربتها الخاصّة، على نحوٍ خلاّق، يستلهمُ منها فكراً وفنّاً وإبداعاً.

وقد يكونُ سقراط محقّاً تماماً، حينما قال "اعرف نفسك بِنفسك". إنّه التركيز على الذات، ومعرفتها  واكتشافها، واستجلاء منابع الالهام فيها، والتحاور معها بعمقٍ وبطء وكثافة، والوثوق بِقدرتها على التفكير والاستنتاج والمكاشفة والتساؤل. فهي الملاذ والبداية والبوابة والطريقُ إلى تبنّي التجربة، وصقلها، ورعايتها، والاستلهام منها، والتعايش الخلاّق معها، والوقوف على عثراتها ونقاط قوتها أيضاً. فالذات في تجربتها الفكريّة والمعرفيّة، وفي تجربتها التفكيريّة والتساؤليّة، وفي تجربتها الاستنطاقيّة والشّكيّة، إنما تبحثُ عن ملاذها الذي يُوفّرُ لها انصاتاً عميقاً لِتساؤلاتها، وتأملاً هادئاً لأفكارها، ومعرفةً أكيدةً بِتفكيرها، ومناخاً خلاّقاً مُلهماً لِاستنطاقاتها، وجرأةً واعية على النقد والخلَق والتّجديد..

أين يتشكّل الوعيُّ الإنسانيّ ؟ وأين يُمارس وجودهُ وانفعالاته وتخلّقاته. إنّهُ يتشكّلُ في مخاض التجربة، وفي سياقاتها وتعرّجاتها وفي ذاكرتها المعرفيّة، وفي هنّاتها وتعثراتها، وفي نجاحها وتألقها، وفي ابتعادها عن السائد والشائع واليقيني والتلقيني، وفي قربها من ذاتها. بل في عمق ذاتها، وفي انصهاراتها الخلاّقة، وفي إصرارها وتغيّراتها، وفي جرأتها ومجازفاتها. إنّه الوعيّ الإنساني، يَستخلصُ حقيقتهُ من تجربتهِ العارفة والواثقة والمتحرّكة والمُفكّرة. إنّهُ الوعيّ في يقين التجربة، وإنّها التجربة في يقين الوعيّ، وكلاهما يسير وعيّاً بِوعيّ، وتجربةً بِتجربة في ذات الطريق. الطريق الذي أرادا له أنْ يكونَ منيراً وملهماً بِما يجمعهما، ودافعاً خلاّقاً لهما بِما يريدان تحقيقه. إنّهما يتداخلان عميقاً فيما بينهما، فالتجربة مخاض الوعيّ، والوعيُّ قلب التجربة، إنّهما يتكاملان في الفكرة والأسلوب، وينسجمان في النظرية والتطبيق.

الذاتُ الواعية، عادةً ما تستدعي تجربتها الخاصّة وفقاً لحرّيتها، وتأكيداً على اختيارها، واستنطاقاً لاحتياجاتها، وتفعيلاً لِشغفها وحُبّها. إنّها تعرِفُ من خلال ذات التجربة ذاتها، وفي ذات التجربة تحقيقٌ لذاتها، ولا يُمكن للذات الواعية أنْ تبني وجودها وحرّيتها وكيانها، من دون أنْ تعرف ما تريدُ تحقيقهُ من تجربتها الخاصّة. ومعرفة ما تريدُ تحقيقه من تجربتها، هوَ الذي يضعها في ذات التجربة، ويضعها قيد الشغف والتواصل العميق معها. ومعرفتها هنا هوَ أساس حرّيتها، وصواب اختيارها، وصلابة استمرارها، وطريق تطورها، وجمال ثقتها بِجرأتها واقدامها..

والذات الواعية عادةً ما تكون مسكونة دائماً بِرغبتها الكاملة في خوض تجربتها الخاصّة. فالرّغبة في وعيها أساسُ انطلاقتها، ومنطلق تجربتها، ومبعثُ شغفها، ولذّتها العليا، وأحاسيسها التوّاقة، وإرادتها الحرّة، وحرّيتها الخلاّقة، ومغامراتها المُلهمة، وقوتها الدافعة. ومن غير الرغبةِ، تفقدُ الذات نبضُها الدافق، وحماسها المستهام، وألقها البارقُ في الاستحواذ على تجربتها، وصناعتها، والمحافظة عليها وحمايتها، والأخذ بها حثيثاً إلى إنجازاتها المُثمرة. والرغبة هنا لا تعكس فقط، رغبة الذات الواعية في إيجاد أعماقها واشتهاءاتها وتخلّقاتها ومغامراتها وتدفقاتها وجنونها حتّى، بِقدر ما تكونُ الرغبةُ هنا تعزيزاً وترسيخاً للذات في تجربتها، وسعياً شغوفاً يدفعها إلى رؤيةٍ جديدة، وإلى تخلّق متجدّد، وإلى تغيير متّقد، وإلى فهم أعمق، وإلى اصرارٍ أجمل..

في تجربتك الخاصّة أيّها الإنسان الواعي، أنتَ تملكُ ذاتكَ، تملكُ منطقكَ وأخلاقكَ وأسلوبكَ وطريقكَ وتفسيركَ ومبرراتكَ وجنونكَ أيضاً. في تجربتكَ الخلاّقة يا إنسان الوعي، أنتَ تملكُ فشلكَ ونجاحكَ، وتملكُ سقوطكَ وتحليقكَ، وتملكُ لغتكَ وحروفك، وتملكُ أهواؤكَ وشهواتكَ ورغباتك. في تجربتكَ أيها الإنسان، أنتَ تُمارسُ ذاتكَ وأسلوبكَ، وتمارسُ تجربتكَ بِتجربتك، وتُمارس يقينكَ وشكّكَ، وتُمارس تردّدكَ واقدامكَ، وشجاعتكَ وجُبنك، وتُمارسُ تجلّياتكَ ووحْيُكَ وأمنياتكَ وهرطاقتك. في تجربتكَ أيّها الإنسان، أنتَ أنتَ في غضبكَ وسخطكَ ووجعك، وفي فرحكَ وحزنك، وأنتَ أنتَ في لعنتكَ بِوجودكَ، وفي وجودكَ بِلعنتك، وفي صراخكَ وانتقادكَ وتحديقكَ وتفكيرك. وفي تجربتكَ أنتَ قابضٌ على تجربتك، قابضٌ على ألمكَ فيها وعلى جرحكَ وجنونك، وعلى اصراركَ وانتصاركَ وانجازك، وقابضٌ على وعيكَ بتجرتك..

إنّكَ تمضي بتجربتكَ متخلّقاً بتجربةٍ أجمل، ومتفرّداً بِوعيها الناطق، وصانعاً للحظتها القادمة. إنّك تمضي بِتجربتكَ، لأنّك لا تستطيع إلاّ أنْ تكونَ قادماً منها وذاهباً إليها. إنّكَ تعيشُها حاضراً، وتترقّبها في غدِكَ حاضرةً شاخصة، مفعمةً بجديدها وجِدّتها. إنّها حاضركَ في يومك، وفي ذاكرتكَ الخلاّقة هيَ أمسكَ البارق، وفي غدِكَ هي طريقُكَ الملهم. فتجربة الذات الواعية هيَ في الأصل، ذاكرة ذات، وذاتٌ في ذاكرةٍ متحرّكة. إنّها تستقيمُ في ذاكرةٍ تراكميّة، وتُبعثُ شغفاً في ذاكرةٍ معرفيّة، تستمدُّ وجودها من وجودها العميق في ذاكرة الإنسان المعرفيّة، تلكَ الذاكرة الدافقة بالإرث الإنساني الزاخر بِكلّ جماليّات الإبداع الفكري والفلسفي والعلمي والفنّي والأدبي..

ولا يُمكن للذاتِ الواعيّة إلاّ أنْ تخوضَ مغامرتها الكاملة في تجربتها الخاصّة. فالمغامرة في منطقها، هيَ وعيها بِضرورة تواجدها في عمق تساؤلاتها وأفكارها واستنطاقاتها وخياراتها واختياراتها. إنّها بذلك تتعرّفُ على تجربتها من الداخل، وتتلمّسُ وجودها في مغامرتها، فالمغامرة هنا هيَ معركتها الحاسمة، معركتها في أنْ تبقى تجترحُ أسئلتها وتفكيرها وفلسفتها، وتصنعُ تالياً خيارها وطريقها وحرّيتها الداخلية. وليسَ أقسى على الذات الواعية سوى أنْ تكونَ مغامرتها الدائمة، وتتمثّلها اشتهاءً معرفيّاً وتساؤليّاً وتفكيريّاً في تجربتها. لأنّها في هذه المغامرة هَي تُساوي تجربتها الخاصّة، وتُساوي خيارها وتفكيرها وأسئلتها ونجاحها وفشلها، وتُساوي ذاكرتها الحاضنة، وذاكرتها المبتكرة، وذاكرتها التساؤليّة. إنّها تصنعُ تجربتها بِوجودها على قيد المغامرةِ ذاتاً مُفكّرة وحُرّة. حُرّةً في أنْ تتبنّى مغامرتها بالطريقةِ التي تجعلها بارعةً في اقتناص كلّ ما يلهمها حُبّاً وشغفاً والتصاقاً بِتجربتها..

أنْ تكونَ في عمق ذاتك وتجربتكَ، مُجترحاً وصانعاً ومُفكّراً ومُتفلسفاً ومُحدّقاً وناقداً، يعني أنّكَ تتعلّمُ كيف تحيا، وربما ذلكَ يقودكَ إلى أنْ تتعلّم كيف تموت. ذلكَ أنّ مَن يجدُ في تجربتهِ حياةً له، سيجدُ أنّ في موتهِ أيضاً احياءٌ لِتجربتهِ، ووفاءٌ لها ولأفكارها ولِمعانيها، وسيجدُ أنّ في موته ترجمةٌ كاملة لتجربتهِ. وأنْ تتعلّم كيف تحيا بتجربتكَ، يعني أنّكَ تشتهي أنْ تموتَ حيّاً ومُزهوّاً بتجربتك، ويعني أيضاً أنّكَ تمضي في حياتكَ، مُكتشفاً معنى موتك، ومتخلّقاً به في حياتك. وأنْ تعرف المعنى من موتكَ في تجربتك، ذلكَ يعني أنّكَ تعرفُ أنْ تصنعَ من معنى حياتك، تجربةً  لموتك..

وأنْ تكونَ في يقين ذاتكَ، مُغامراً ومُلهماً وشغوفاً وواثقاً ومتسائلاً وناطقاً ومستفسراً، ذلكَ يعني أنَكَ تتخلّقُ جليّاً في تجربة الشّك. فالشّكُ في تجربتكَ، تجربةٌ ملهمة وخلاّقة ومبدعة، ومن غيرهِ تتهاوى تجربتكَ في أوحال اليقين، مُثقلةً بالجمود والتكّلس والخوف والارتعاب والتراجع. فالشّكُ تجربتكَ في يقينك الخلاّق بِذاتك، وفي يقينكُ هذا، تتجلّى ثقتكَ بالشّك يقيناً حارساً لتجربتك. إنّها تجربتكَ التي تتخلّق بالشّك طريقاً للمعرفة، ومدرجاً للسؤال، ومسلكاً للتفكير، وفيه عصارة التغيير وجوهر التّجديد، ودفقة الانارة  وشرارة الوعيّ.. 

محمود كرم، كاتب كويتي

tloo1996@hotmail.com

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط