بسام درويش / Dec 05, 1996

(رد على مقال نشرته جريدة "المسلمون" في عددها  رقم 613 ، تشرين الثاني 1996 يتحدث عن استيلاء المسلمين على كنيسة القديس يوحنا وتحويلهم إياها إلى مسجد بعد احتلالهم لدمشق وقول كاتب المقال أن ذلك قد تم بعد مفاوضات مع المسيحيين!..) 

                                                                            

"منذ ألف وأربعمائة سنة ، دخل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى دمشق محررين.. وأسسوا جامع بني أمية.. أسسوه على التقوى، وما زال قائماً على التقوى.. ويقيناً أن هذا المسجد عندما افتتحت دمشق كان كنيسة مكرّسة على اسم القديس يوحنا المعمدان أو النبي يحيى. واقتسم المسلمون مع نصارى المدينة تلك البقعة.. وفي أيام عبد الملك بن مروان طرحت قضية توسيع النصف الإسلامي أو بناء مسجد جديد. وفي أيام الوليد بن عبد الملك أثيرت القضية مجدداً، واتُّخذَ قرارٌ بتوسيع المكان حيث هو، وجرت مفاوضات مع نصارى المدينة، وطالت المفاوضات حتى وافق النصارى على التخلي عن نصف الجامع!.."

 

كانت هذه فقرة من كتاب للباحث والمؤرخ الدكتور سهيل زكّار نقلتها عنه جريدة "المسلمون" في عددها رقم 613 الذي خصصت فيه صفحة كاملة للحديث عن هذا الجامع. ونقلت الصحيفة أيضاً عن الدكتور عدنان البني قوله أن المسجد، "قد احتاج بناؤه إلى قرابة عشر سنوات، فكان رجال العمارة والبناؤون شاميين، وكذلك مواد البناء والفسيفساء". 

 

وكما اعتاد كتابنا العرب على تزوير التاريخ، اعتادت عليه أيضاً الصحف العربية ومن بينها هذه الصحيفة التي يبدو أن إدارتها قد خصصت جزءاً كبيراً من صفحاتها لمهمة التزوير هذه وخصوصاً في كل أمر يتعلّق بالمسيحية أو المسيحيين.

 

بادئ ذي بدء لا بد لي من الوقوف عند كلمة "محررين" التي غالباً ما نقرأها أو نسمعها حين يدور الحديث عن غزو المسلمين لبلاد أخرى واحتلالها وكأن تلك البلاد قد أُخذت منهم في الماضي فجاءوا الآن يحررونها من المغتصبين، أو كأن العرب المسلمين جاءوا حقاً يحملون مشاعر الحرية لتلك الشعوب وليس سيوفاً تحصد رقاب الذين يرفضون الإسلام ديناً أو دولة. لقد غزا المسلمون بلاداً لا تربطهم بها صلة، لا تاريخية ولا لغوية ولا دينية، ومع ذلك أطلقوا على أنفسهم اسم المحررين، فأي اسم إذن يمكن أن يُطلق على اليهود الذين أسسوا دولة إسرائيل المعاصرة على أرض كان لهم فيها جذور قبل أن يسمع إنسانٌ باسم الإسلام أو المسلمين؟ 

   

وعلى أي حال، ليس محور بحثي اليوم موضوع الاحتلال أو التحرير، إذ أنَّ ما يهمني من تلك المقتطفات هو التزوير الذي يبذل هؤلاء القوم كل جهودهم للإبداع فيه، هادفين من وراء ذلك إلى طمس حقائق تاريخية أثبتها من قبل مؤرخوهم أنفسهم.

 

ورداً على هذا التلاعب بالحقائق التاريخية، أقوم باقتطاف بعض ما ورد في كتاب قديم بين يدي عنوانه، "نزهة الأنام في محاسن الشام"، لمؤلفه أحد علماء القرن التاسع، أبي البقاء عبد الله بن محمد البدري المصري الدمشقي. وأشير هنا إلى أن النقل من الكتاب هو حرفي، أما ما جاء بين قوسين فهو توضيحات لعبارات قمت بها أو تعليقات على أحداث شئتُ إبرازها.

 

يقول المؤلف نقلاً عن الحافظ بن عساكر: "لما فتح الله تعالى على المسلمين الشام بكماله (بلاد الشام كلها) ومن جملته (ومن ضمنها) دمشق المحروسة بجميع أعمالها وأنزل الله رحمته فيها وساق برّه إليها، كتب أمير المؤمنين وهو إذ ذاك أبو عبيدة رضي الله عنه كتاب أمان وأقرّ بأيدي النصارى (ترك لهم) أربع عشرة كنيسة (جزاه الله خيراً، وكأني به قد ترك لهم شيئاً من ملكه) وأخذ منهم نصف هذه الكنيسة، وأخذ منهم التي كانوا يسمونها كنيسة مر يحنا (مار يوحنا) بحكم أن البلد فتحه خالد بن الوليد رضي الله عنه من الباب الشرقي بالسيف وأخذت النصارى الأمان من أبي عبيدة وهو على باب الجابية، فاختلفوا ثم اتفقوا على أن جعلوا نصف البلد صلحاً ونصفه عنوة، فأخذ المسلمون نصف هذه الكنيسة الشرقي فجعله أبو عبيدة رضي الله عنه مسجداً وكانت قد صارت إليه إمارة الشام فكان أول من صلى فيه أبو عبيدة رضي الله عنه ثم الصحابة بعده في البقعة التي يقال لها محراب الصحابة رضي الله عنهم، ولم يكن الجدار مفتوحاً بمحراب محنى وإنما كان المسلمون يصلون عند هذه البقعة المباركة. وكان المسلمون والنصارى يدخلون من باب واحد وهو باب المعبد الأصلي الذي كان في جهة القبلة مكان المحراب الكبير الذي هو اليوم حسبما سلف لنا ذكره، فينصرف النصارى إلى جهة الغرب لكنيستهم ويأخذ المسلمون يمنة إلى مسجدهم. ولا يستطيع النصارى أن يجهروا بقراءة كتابهم ولا يضربون بناقوس إجلالاً للصحابة رضي الله عنهم ومهابة لهم وخوفاً منهم!." (هذا دليل ساطع على المضايقات التي كان يتعرّض لها المسيحيون، وكان يجدر بالمؤرخ أن يقول أن المسلمين قد فرضوا على المسيحيين أن لا يجهروا بقراءة كتابهم وأن يمتنعوا عن قرع نواقيسهم طالما أنه اعترف بأنهم كانوا لا يفعلون ذلك إلاّ خوفاً ومهابة رغم أنه حشر كلمة "إجلالاً للصحابة" حشراً لا معنى له!)

 

"وقال ابن عساكر: لما صارت الخلافة إلى الوليد بن عبد الملك عزم على أخذ بقية هذه الكنيسة وإضافتها إلى ما بأيدي المسلمين وجعل الجميع مسجداً واحداً، وذلك لتأذَي المسلمين بسماع قراءة النصارى في الإنجيل ورفع أصواتهم في الصلاة، (ويا له من قول عدل: الغريب يتأذّى بصاحب الحق يرفع صوته بالصلاة داخل بيته!)  فأحبَّ أن يبعدهم عن المسلمين فطلب النصارى وسألهم أن يخرجوا عن بقية الكنيسة ويعوّضهم إقطاعات كثيرة عرضها عليهم وأن يقرّ لهم أربع كنائس لم تدخل في العهد (أي أن يسمح لهم بإبقاء أربع كنائس من كنائسهم لهم، وهذا دليل على أن هناك كنائس أخرى لم يتعهّد المسلمون على إبقائها بأيدي المسيحيين عند افتتاحهم للشام إذ كان بنيتهم الاستيلاء عليها أيضاً فيما بعد والعرض بإبقائها بين أيدي المسيحيين لا يجوز أن ينظر إليه على أنه كرم حاتمي ، فالكنائس هي بالأساس ملك المسيحيين) وهي كنيسة مريم وكنيسة المُصلَّبة وكلاهما داخل الباب الشرقي وكنيسة تل الجبن وكنيسة حميد بن درّة التي بدرب الصيقل، (سميت بهذا الاسم لأن الدرب أي الطريق كان إقطاعاً لحميد بن عمرو بن مساحق القرشي العامري وأمه درة بنت أبي هاشم خال معاوية بن أبي سفيان. وكان الخلفاء يمنحون الإقطاعات من الأراضي التي يحتلونها لمن شاؤوا من أتباعهم ) فأبوا ذلك (رفضوا) أشدّ الأباء، فقال: أئتونا بعهدكم الذي بأيديكم في زمن الصحابة، فقُرئَ (العهد) بحضرة الوليد، فإذا كنيسة توما التي كانت خارج باب توما لم تدخل في العهد، وكانت فيما يُقال أكبر من كنيسة مر يحنا (ليس في التاريخ ما يشير إلى وجود كنيسة أكبر من كنيسة مار يوحنا في دمشق آنذاك) فقال أنا أهدمها وأجعلها مسجداً، فقالوا بل يتركها أمير المؤمنين وما ذكر من الكنائس ونحن نرضى بأن يأخذ بقيـة كنيسـة مر يحنا، (أي أنهم اضطروا للرضوخ لعمليـة التهديد والابتزاز) فأقـرّهم على تلك الكنائس، وأخذ منهم بقية الكنيسة. (أي أعطاهم شيئاً يملكونه مقابل أخذ شيء مما يملكون، ومع ذلك يحلو للمسلمين تسمية ذلك بالمفاوضات!..) ثم أمر الوليد بالهدم، فجاءت أساقفة النصارى وقساوستهم وقد ندموا (يندم الإنسان على عملٍ قام به بمحض إرادته، ولا يندم على القيام بعملٍ فُرض عليه فرضاً) فقالوا يا أمير المؤمنين إنا نجد في كتبنا أن من يهدم هذه الكنيسة يجن، فقال أنا أحب أن أجن في الله، والله لا يهدم فيها أحد قبلي، ثم صعد المنارة الغربية وكانت صومعة عظيمة، فإذا فيها راهب فأمره بالنزول منها فأبى الراهب، فأخذه بقفاه وحدّره منها (أي دحرجه من أعلاها، فيا لهذه المفاوضات ولهذه المعاملة الرحيمة التي اشتهر بها الفاتحون!) ثم وقف على أعلى مكان منها فوق المذبح الأكبر الذي يسمونه الشاهد وأخذ فأساً وضرب أعلى حجر فألقاه، فتبادر الأمراء والأجناد إلى الهدم بالتكبير والتهليل، والنصارى تصرخ بالعويل على درج باب البريد وجيرون وقد اجتمعوا، فأمر الوليد صاحب الشرط (رئيس الشرطة) أن يضربهم، وهدم المسلمون جميع ما كان من آثارهم من المذابح والحنايا حتى بقي صرحةً مربعة. (لم تهدم الكنيسة بأكملها بل أبقي على هيكلها الخارجي الذي لا زالت أثار المسيحية ظاهرة عليه)

 

ويتابع الكتاب قائلاً: "واستعمل الوليد في هذا المسجد خلقاً كثيراً (عدداً كبيراً من الناس) من الصناع والمهندسين والمرخّمين. وكان المُسْتَحثّ على عمارته (أي الموكل إليه بشؤون بنائه) أخوه سليمان بن عبد الملك، ويقال أن الوليد بعث إلى ملك الروم يطلب منه صناعاً في الرخام والأحجار وغير ذلك ليعمروا هذا المسجد على ما يريد، وأرسل يتوعّده إن لم يفعل ليغزونَّ بلاده بالجيوش وليخربنَّ كل كنيسة في بلاده حتى القيامة التي بالقدس الشريف ويهدم كنيسة الرها وجميع آثار الروم (فليتأمل القارئ بهذا الابتزاز أيضاً). فبعث ملك الروم صناعاً كثيرة جداً (فعل ذلك خوفاً على تلك الكنائس وليس خوفاً من اجتياح المسلمين لبلاده إذ لو استطاعوا لما توانوا عن ذلك) وكتب إليه (ملك الروم) يقول له: إن كان أبوك فهم هذا الذي تصنعه وتركه فإنه لوصمة عليك، وإن لم يفهمه وفهمته أنت فإنه لوصمة عليه!  فأراد (الوليد) أن يكتب إليه الجواب، وإذا بالفرزدق الشاعر دخل عليه فأخبره بما (أي أطلعه على ما) كتبه ملك الروم فقال (الشاعر) يا أمير المؤمنين أنت جعلت أخاك سليمان هو القائم بأمر العمارة (أي أنك لست المسؤول عن ذلك لأن أمر العمارة هو بيد سليمان) والجواب بنص القرآن، (أي يمكنك الإجابة على ذلك بالاستشهاد بنص القرآن الذي يقول) " ففهَّمناها سـليمان وكُلاًّ آتينا حكماً وعلماً!" (سورة الأنبياء 79) . فأعجب ذلك الوليد وأرسل به جواباً لملك الروم. (هنا يظهر استهتار الوليد في استعماله لآية قرآنية قصد بها القرآن الملك سليمان الحكيم فأجاب بها يسخر بتأنيب ملك الروم له على قيامه بعمل ينافي الأصول والأخلاق. ويذكر الدكتور فيليب حتي في كتابه "تاريخ سورية ولبنان وفلسطين" أن الوليد أرسل إلى إمبراطور الروم في طلب مئة من الفنانين اليونان لبناء المسجد، بينما يذكر ابن عساكر وكتاب العيون، أن عدد الصناع كان مئة ألف وأن بعضهم استخدموا في مكة والمدينة. وهنا يتبين لنا أن المسلمين لم يكتفوا بسلب المسيحيين كنيستهم بل استعانوا لبناء جامعهم على أنقاض هيكلها بالروم المسيحيين بالإضافة إلى الصناع الهنود والفارسيين ثم قالوا بعد ذلك بأن البناء قد أتى قمة في فن العمارة العربي الإسلامي!)

 

ويتابع الكتاب قائلاً: "وعن يزيد بن واقد قال: وكّلني الوليد على العمال في بناء الجامع فوجدنا فيه مغارة فعرّفنا (أي أعلمنا) الوليد. فلما كان الليل وافى وبين يديه الشمع فنزل فإذا هي كنيسة لطيفة ثلاثة أذرع في ثلاثة أذرع ، وإذا فيها صندوق ففتح الصندوق فإذا فيه سفط (إناء) وفي السفط رأس يحيى بن زكريا. فأمر الوليد بردّه إلى مكانه وقال: اجعلوا العمود الذي فوقه مُعيَّناً بين الأعمدة. فجعلوا عليه عموداً مسفّط الرأس ."

 

يتابع الكتاب قائلاً: "وقال بعض المؤرخين، أن الشرقية (أي المنارة الشرقية من الجامع) احترقت في سنة أربعين وسبعمائة فنقضت وجددت من أموال النصارى لكونهم اتّهموا بحرقها وأقرّ بعضهم بذلك، (إذا فُرض عليهم القبول بالتنازل عن الكنيسة فلا يُستبعد أيضاً أن يكون الإقرار قد فرض عليهم، فلم يكن كافياً أنهم قد استولوا على الكنيسة ثم عمروا الجامع بأيدي المسيحيين، بل أيضاً كلما حدث حادث للجامع اتهموا المسيحيين به وفرضوا عليهم إصلاح الضرر من أموالهم!) ، فقامت على أحسن شكل، وقال بعض العلماء في المنارة الشرقية البيضاء التي ينزل عليها عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان بعد خروج الدجال كما ثبت في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان والله أعلم.

 

يتابع الكتاب قائلاً: "ومن محاسن الشام ما وصف جامعَها به العلامة اليعقوبي، قال: مدينة دمشق جليلة قديمة وهي مدينة الشام في الجاهلية والإسلام.. وأما جامعها فليس في مدائن الإسلام أحسن منه، بناه الوليد في خلافته بالرخام والذهب سنة ثمان وثمانين."  وينقل الكتاب عن مؤرخ آخر وهو الشيخ بن جبير، قوله: "وكان أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه لما دخلها، صالح النصارى بأن أخذ نصف الكنيسة الشرقي فصيره مسجداً وبقي النصف الغربي للنصارى، فأخذه الوليد وأدخله في الجامع (ضمّه إلى الجامع) بعد أن أرغبهم في التعويض عنه، فأبوا فأخذه قسراً!" 


 

 صورة المسيح لا زالت آثارها باقية على حائط المسجد

 

ولتبرير استيلاء المسلمين على كنيسة القديس يوحنا وتحويلها إلى مسجد رغم معارضة المسيحيين الشديدة وعويلهم وصراخهم وهم يشاهدونهم يهدمون بروجها وهياكلها، ربما يتفذلك البعض بالقول أن أموراً كهذه تحدث، عندما تحتل جيوش دولةٍ ما دولةً أخرى، وهذه نتيجة من نتائج الحروب والصراعات بين الأمم! ولكننا إذا أخذنا بهذه الفذلكة من المنطلق نفسه، فلماذا يتوقّع المسلمون تعاطفاً من العالم معهم ومع عويلهم وصراخهم واحتجاجاتهم ضد إسرائيل وأعمال التنقيب التي تجريها تحت مسجد القدس؟.. يكفي أن اليهود يبررون ذلك ببحثهم عن تاريخ لهم تحت المسجد، فأي تاريخ للمسلمين كان يربطهم بكنيسة القديس يوحنا؟ وهنا أود أن أشير إلى خبر نشرته الصحف العربية في أيلول 1994  يقول: "أعلنت الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي في مكة عن استنكارها الشديد لإقدام السلطات الإسرائيلية على إقامة ستار حديدي يقسم الحرم الإبراهيمي الشريف إلى قسمين وتخصيص أحدهما للمستوطنين اليهود..  وذكرت الرابطة في احتجاجها أن إسرائيل تثبت مرة أخرى للرأي العام العالمي عدم احترامها للمقدسات الدينية!!!!!"

 

إن وزارة الأوقاف السورية، إذ تقوم اليوم بعمليات إصلاح وتجديد وترميم كبيرة على المسجد الأموي، فإن أعظم ما يُخشى هو أن تقوم هذه السلطات بإزالة بعض الآثار المسيحية المتبقية والتي اكتشفت مؤخراً بعد أعمال الترميم التي تمت خلال الأعوام الماضية. فبالإضافة إلى ضريح القديس يوحنا الذي لا زال قائماً داخل المسجد والذي ليس هناك ما يدعو إلى القلق على مصيره لاعتقاد المسلمين بكرامة يوحنا والذي يدعونه يحيى، هناك أيضاً داخل المسجد في الجهة الشمالية الشرقية، جرن رخامي عظيم القدم تظهر على جوانبه آثار المستحاثات وكان يستعمله المسيحيون لعماد أطفالهم. أما ما يُخشى عليه فهو الكتابة الموجودة على البوابة الجنوبية والمنقوشة بالأحرف اليونانية والتي تقول: "ملكك أيها المسيح ملك كل الدهور وسلطانك في كل دور فدور." هنالك أيضاً صورة لوجه السيد المسيح وعلى رأسه إكليل شوك، ظهرت مؤخراً على يسار البوابة الجنوبية الأخرى المواجهة لسوق الصاغة وقيل أنه قد سبق وان حاول المسؤولون إزالة هذه الكتابات والصور ولكن تدخل هيئة الآثار الدولية وتقديم تبرعات مادية قد حال دون ذلك.

 

أما في باحة الجامع، فهناك بقعة من الأرض تحت فناءٍ مسقوف، إذا ما وقف الزائر في منتصفها وضرب عليها بقدمه، فإنه يسمع صدىً عميقاً لهذه الضربات. ومردّ ذلك هو أن هذه البقعة، حسب خبراء الآثار، كانت مدخلاً أو مخرجاً لنفق طويل يربط كنيسة القديس يوحنا (الجامع الأموي) بكنيسة حنانيا، وهي كنيسة صغيرة تبعد عن المكان بما يقل عن الميل، وتقع إلى الجهة الشمالية من الباب الشرقي لدمشق في نهاية طريق صغير يحمل اسم الكنيسة نفسها. ولدخول هذه الكنيسة، ينبغي للزائر أن ينزل عدة درجات تحت الأرض وهناك يجد نهاية النفق في أسفل منتصف الحائط الغربي، وقد سدّ ببعض الأحجار خوفاً من دخول أحد إليه. وقيل أن المسيحيين كانوا يستعملون هذا النفق للانتقال بين الكنيستين أو كمعبر هروب خوفاً من الاضطهاد. وفي الستينات، خلال عمليات الحفر التي كانت تجري لتوسيع كنيسة الروم الأرثوذكس المعروفة بالمريمية، والواقعة بين كنيسة يوحنا وحنانيا، ظهرت أجزاء من النفق وقيل أن جماجم وهياكل بشرية عثر عليها في داخلها.

 

إن كنيسة القديس يوحنا لم تكن الكنيسة الوحيدة التي انتزعها المسلمون من أصحابها المسيحيين، بل هناك كثيرات غيرها، إذ يذكر  الدكتور فيليب حتي في كتابه: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين، "أن المسلمين قد ظلوا بعد فتح سورية بنحوٍ من نصف قرن يقيمون الصلاة في كنائس حولوها إلى مساجد. ولم يعمدوا في هذه الأثناء إلى بناء مسجد ما. وخلافاً لما ورد في الأخبار، لم يقسموا الكنائس بالذات بينهم وبين النصارى، بل اكتفوا بقسمة الباحة المقدسة. فكان المصلون من أبناء دمشق يدخلون من باب واحد في السور، ثم يتحول النصارى إلى اليسار، وينعطف المسلمون إلى اليمين. وعندما احتلّ المسـلمون مدينة حماه، حولوا الكنيسة التي نعتها أبو الفداء أحد المؤرخين الأهليين بالكبرى، إلى الجامع الأكبر. ولا تزال الواجهة الغربية في حالة سليمة. وكذلك المسجد الأكبر في حمص ومسجد حلب، فقد كانا من معابد النصارى. (البلاذري) ولا تزال الآثار المسيحية والأعمدة الرومانية ظاهرة للعيان في معبد حمص".      

 

وتجدر الإشارة إلى أن بناء الكنائس في الدول العربية التي يسكنها مسيحيون، يخضع إلى قوانين صارمة وتعقيدات كثيرة، ولا بد من الذكر أيضاً أن منظر كنيسة مسيحية في مدينة يدين غالبية أهلها بالإسلام، هو منظر مؤذٍ بالنسبة للمسلمين، ولذلك، فسواء كان هناك مسلمون يسكنون في المناطق المجاورة لكنيسة ما أو لم يكن، فإن وزارة الأوقاف تعمد إلى بناء مسجد صغير أو حتى مأذنة بدون مسجد قرب تلك الكنيسة، ليعلو منها صوت المؤذن خمس مرات كل يوم، مذكراً السكان المسيحيين في منطقة الكنيسة أن لا ينسوا أنهم في بلد إسلامي وتحت حكم المسلمين، أو ربما ليبرروا في المستقبل حقهم بالاستيلاء عليها بحجة تأذي المسلمين من قراءة النصارى لكتابهم، أو من قرع نواقيسهم.

 

نشرت سابقاً في صحيفة بيروت تايمز الصادرة في كاليفورنيا، ديسمبر، كانون الأول 1996 عدد 536 

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط