بسام درويش / Jan 26, 2018

على مفترق طريق مزدحم في مركز المدينة، وقف رجل يوزّع على المارة صوره وصور أولاده وأحفاده وأقربائه؛ يحدثهم عما فعل أو أكل يوم أمس؛ إلى أين سافر في الماضي وإلى أين سيسافر قريباً؛ عن آرائه السياسية والدينية والاجتماعية؛ عن مناسباته العائلية؛ ويعلن لهم عن كل صغيرة وكبيرة خاصةٍ به وبعائلته، مثل تاريخ ميلاده وزواجه وأسماء أولاده وأعمارهم، لا بل حتى اسم كلبه وقطته وغير ذلك الكثير..

كان بعضهم يمرّ به دون اكتراث، وكان آخرون يبادلونه الحديث ويجاملونه ويتفاعلون معه؛ ولكن كان هناك أيضاً بينهم من وقف يسجّل كل كلمةٍ يقولها ويأخذ منه كل صورة ويحتفظ بها في جيبه. 

************

هذا الرجل لم يكن يسعى إلى ترشيح نفسه لمجلس البلدية أو لمنصبٍ سياسي أو وظيفةٍ ما، إنما كان يفعل ذلك فقط لأنه إنسان اجتماعي يحب أن يشارك الناس أخباره وأن يطّلعَ هو على أخبارهم...!

************  

إذا كنت تعتقد بأن هذا الخبر مجرد قصة، فربما لأنك لا تدرك أو تتجاهل بأنك تفعل الأمر نفسه كل يوم على صفحات الفيس بوك أو غيره من شبكات التواصل الاجتماعي.

************

معظمنا يتذمّر في هذه الأيام من كثرة التطفل على حياتنا الخاصة. فالكاميرات تراقبنا أين ذهبنا، ومعلوماتنا الشخصية تتبادلها الشركات التي نتعامل معها فيما بينها، لا بل إن بعضها يبيع المعلومات لشركات أخرى لا علاقة لنا بها إطلاقاً. كذلك، ومقابل بضعة دولارات؛ يمكن لشخص غريب أن يحصل على معلومات شخصية كثيرة عنا من شركات تختص بجمعها بكل الوسائل الشرعية وغير الشرعية. ولا يتوقف الأمر عند ذلك فقط، فهنالك أيضاً من ينقّب في حاويات قمامتنا ويجمع كل ما يستطيع جمعه عنا بما في ذلك مغلفات الرسائل التي تحمل عناويننا وعناوين أصحابنا أو أية إيصالات أو أوراق أخرى نرميها في سلة المهملات مع كل ما تتضمنه من معلومات مالية أو شخصية.

ومع كل ذلك، لا نتأخر نحن أنفسنا عن المساهمة مع هؤلاء في عرض المزيد من هذه الخصوصيات على الملأ لكل من نعرف أو لا نعرف على شبكات التواصل الاجتماعي هذه.

************

عندما تنشر صورك وصور أطفالك وأسماءهم وأعياد ميلادهم وأسماء مدارسهم؛ وعندما تتحدث عن أول سيارة ملكتها، وعن أول أو أعزّ صديق لك، وعن المكان الذي تعرفت فيه على شريك أو شريكة حياتك، وعن المدرسة التي ذهبت إليها في سنة كذا وكذا، وعن اسم كلبك أو قطتك، أو أسماء معلميك ومعلماتك في مراحلك الدراسية، وأسماء جدودك وجداتك، وغير ذلك الكثير من تفاصيل حياتك... عليك أن تتذكّر بأنّك غالباً ما تستخدم كثيراً من هذه الأسماء والمعلومات والتواريخ والأمكنة كأجوبة خاصة جداً على أسئلة معينة تسمح بالتأكد من شخصيتك وكلمة السر التي تستعملها للدخول إلى مواقع مهمة مثل البنك الذي تتعامل معه أو العيادة الطبية التي تذهب إليها أو أخرى غيرها.

هذا الشخص الذي يجمع معلوماتك ذكيّ جداً ويعرف كيف يصل النقاط بعضها مع بعض لتشكل خطاً يوصله إليك وإلى عائلتك وربما إلى كل ما تملك.  

إذا كنت تعتقد بأنّ صورك ومعلوماتك التي تنشرها هي خاصة فقط بحلقة الأصدقاء الذين تسمح لهم بالاطلاع عليها فلا بدّ وأنك تستخف كثيراً بذكاء اللص الذي يتربص بك والذي سهر الليالي الطويلة كي يبرع بهذه المهنة. تذكر إن حسابك على الفيس بوك لا يتطلب جهداً عظيماً من خبير في الاختراق، فهو لا يقارن أبداً في تعقيده بمواقع مؤسسات حكومية عظيمة الأهمية ومؤسسات مالية وشركات كبيرة جداً تعرض الكثير منها للاختراق وخسارة الملايين.

****************

الآن، وقد انتهيت من قراءة هذا المقال؛ أترك كل شيء واذهب إلى نافذه بيتك التي تطل على الطريق وانظر إلى السيارة التي تقف مقابل البيت وإلى الشخص الذي يجلس بداخلها. تصوّر أن هذا الشخص هو اللص الذي جمع كل المعلومات عنك وتوصل أخيراً إلى معرفة عنوانك؛ وتصوّر ما يتضمنه الملف الذي يحمله بين يديه عنك وعن أفراد أسرتك وأصدقائك وعن دقائق حياتك. تصور هذا الشخص جاء يلقي نظرة على ضحيته المقبلة، ولعلّك آنذاك تسارع للتخلص من حساباتك على شبكات التواصل الاجتماعي وتعود إلى طريقتك القديمة في التواصل مع أصدقائك وأحبائك، أو على الأقل، تستخدم ما توفره التكنولوجيا من وسائل أخرى أكثر سلامة للتواصل معهم شخصياً بعيداً عن عيون الذئاب المتربصة بك.

=============== /

 

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط