إهداء إلى الصديقة العزيزة: نورة الهملان
هشام محمد / May 26, 2005

لأمي حكايات أكثر من تحصى مع رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (المطاوعة). في كل مرة تخرج إلى السوق، أو لممارسة رياضة المشي، أو لتناول وجبة عشاء في مطعم حتى تنشق الأرض عن واحد أو أكثر من حراس الفضيلة. لم تختر يوماً أن تشتبك معهم، إذ لا يوجد فرد عاقل يتمتع بكامل قواه العقلية يرمي بنفسه في التهلكة بمشاغبتهم ومشاكستهم. إن مشكلة أمي معهم تكاد تتلخص في نقاط ثلاث:
1 ـ أنها امرأة، والمرأة بجانب كونها ناقصة عقل ودين فهي مصدر الفتنة والشر والإغواء في المخيال الديني.
2 ـ أنها تضع عباءتها على كتفيها، وهذا مخالف للتعاليم الوهابية الصارمة التي تفسق النساء اللاتي يكسرن هذا العرف الديني.
3 ـ أنها ذات عقل راجح قادر على التمييز بين الطيب والخبيث والمعقول واللامعقول، ولسان فصيح وبليغ لا يسكت على الظلم ولا يصبر على المهانة.
حتى لو لم
ترمِ الأقدار في طريقها برجل من الهيئة، فإن هناك من أفراد المجتمع رجالاً ونساءً من هم مصابون بهوس ديني وعقد وهابية مرضية تجعل أحدهم لا يتأخر عن "مكافحة" المنكر ولو بالصراخ والشتم والتحذير من الخلود في النار. تذكر أمي أنها بينما كانت تتبضع من محلات "زارا" حين دخل رجل المحل ليسأل البائع عن مكان ما، وبما أن الأخير كان يجهل العنوان فقد تبرعت أمي بإرشاد الرجل الذي شكرها بأدب ومضى لحال سبيله. المسألة تبدو عادية جداً ومقبولة في أي مكان إلا هنا بدليل أن هناك نساء داخل المحل أصبن بحالة من الدهشة والامتعاض لدرجة أنهن طفقن يستغفرن الله بصوت بدا عالياً بعض الشيء ألا يؤاخذهن بما فعلت أمي من سفاهة (!)
سأروي فيما تبقى حكايتين قصيرتين
كُتِبَ فيها على أمي القتال (الكلامي طبعاً) مع عناصر الهيئة. أما السبب من تسليط الضوء على تلك الحكايتين فهو أمران لا غير: أولهما، أن مبادئ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي كان أحد مداميك الفكر المعتزلي والذي كان معنياً بالقضايا الكبرى مثل مقاومة الإمام الجائر قد تحول على يد الجماعات الوهابية المتحالفة تقليدياً مع السلطة إلى مقاومة العباءة الفرنسية والبنطال الجينز والخلوة مع صديق أو حبيب. ثانيهما، أن المرأة رغم أنها الحلقة الأضعف إلا أنه بمقدورها إذا آمنت بقيمتها وبحريتها أن تقف في وجه أزلام الهيئة وأن تردهم صاغرين.

المكان: قسم العائلات
ـ مطعم بيتزا هت الإيطالي
الزمان: ليلة شتوية من عام 1995
الحدث: أمي وصديقتها وأختي يتبادلن الحديث وقطع البيتزا والكوكا كولا بكثير من الحبور. ما هي إلا
دقائق حتى اقتحم المطعم المملوء بزبائنه ثلاثة رجال من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إنها ليست كزيارة وزير مفاجئة لموقع العمل، بل هي زيارة يومية يمارسها هؤلاء الثقلاء بحثاً عن فضيحة أو ضحية (لا فرق). بمجرد دخولهم، انطفأت ضحكات المكان واشتعلت جمرات الخوف في الصدور: هل يا ترى سيحقق معي من ما إذا كانت زوجتي هي بالفعل زوجتي أم صديقتي.. ربما كان هذا لسان حال أحدهم وهو يتحسس جيبه ليتأكد من وجود دفتر العائلة لدفع التهمة. أول وقائد الكتيبة الوهابية رجل يسير كطاووس منتشي، يستقر فوق كتفيه مشلح أو بشت أسود، وتتدلى على صدره لحية كثة. أما الرجل الآخر فيكاد ثوبه يتمزق لفرط امتلاء جسده بالشحم واللحم، فيما يكشف ثوبه القصير عن ساقين منتفختين كأسياخ دجاج الشاورما في مطعم لبناني أو تركي. الرجل الثالث يرتدي بزة عسكرية، ومنظره يبعث على الرثاء لهزاله ولفقدانه أي صلاحيات تليق ببذلته إلا من لعب دور رمزي لا يتجاوز التعبير عن تحالف المؤسسة الدينية الوطيد مع الحكومة. جاب الثلاثة أرجاء المكان بعيون مفتوحة كالصقر وأنوف تستطيع أن تشم رائحة العلاقات المشبوهة عن بعد. اقترب هذا العزرائيل الوهابي من الطاولة التي تجلس حولها أمي وصديقتها وأختي وكأنه قد عثر على ما يصبو إليه.
بصوت مغلف بالتعالي، بادر كبيرهم أمي السؤال: كيف تأتون إلى هنا بلا محرم؟
أمي
ـ التي تتمنى أن يكون أول قرار سيادي لها لو صارت رئيس وزراء أن تحل مؤسسات الهيئة وتنفي أعضاءها على اقرب سفينة فضائية إلى المريخ - : من أين آتي لك بمحرم (!) أنا مطلقة.. ولو كنت مازلت متزوجة فإن زوجي لا يحق له الجلوس هنا لأنّ هذه صديقتي.
قال: وأين أبناؤك؟ أليس لديك أولاد ذكور؟
أمي: بلى، لكن الأكبر يدرس خارج البلاد والثاني خرج مع
أصدقائه، فهل أطلب منهما المجيء إلى هنا؟
توقع المطوع دفاعاً رخواً وصيداً سهلاً فهو المدجج بفحولته الذكورية وبالتفويض الإلهي الذي يبيح لسماحته الجمع بين منصبي الخصم والحكم، لكنه فوجئ برد قاس غير متوقع. هنا أدار المطوع دفة "التحقيق" إلى منطقة أخرى تدعو للضحك. قال فض فوه: كيف يتسنى لك أن تأكلي البطاطس (بفتح السين) مع الكاتشب (بكسر الباء) وأخوتك في الإسلام يموتون جوعاً في الصومال؟ (كانت الصومال وقتها تمر بمجاعة طاحنة)
أمي
ـ وهي تضغط على أعصابها حتى لا تنفجر في وجهه ـ : وهل تحتم علي مجاعة الصومال أن انكفئ داخل البيت؟ أليس من الأجدر أن تطلب من أصحاب المطاعم إقفال الأبواب إلى أن تنتهي الأزمة بسلام؟ ثم، لماذا أنت هنا؟ أليس جديراً بك أن تكون هناك لتسهم في أعمال الإغاثة حتى تنال الأجر والرضوان من الله؟
شعر المطوع أن أسلحته ترتد عليه كالسياط الحارقة. هنا لجأ إلى النص القرآني الذي يحتكر فهمه وتفسيره مذكراً إياها بالآية القرآنية "..
وقرن في بيوتكن.." ردت عليه أمي بقليل من القرف وبكثير من الشفقة على العقل الغائب: الآية لا تمارس حظراً على المطاعم دون الأسواق المكتظة بالنساء. إذا أخذنا الآية بقشورها فهي تحرم على كل النساء حتى المعلمات والطبيبات تجاوز عتبة الباب. ثم، لماذا لا تقرأ الآية من زاوية أخرى بمعنى أنها تحض النساء على أن يكن مصدر سكون وهدوء داخل البيوت وليس بمعنى السطحي الذي يجردها من حقها في الخروج؟
بسقوط آخر معاقل القوة والسلطة – أي القرآن – شعر المطوع التعيس أن الأوان قد حان للانسحاب بأقل الخسائر المعنوية. وحتى يبقي على آخر قطرات ماء الوجه، قال وبنبرة تهديديه: سأتركك هذه المرة، ولكن لو جئت في المرة الثانية بلا محرم فسوف أضطر إلى إخراجك قسراً (!) عادت أمي إلى شرائح البيتزا الشهية وإلى مواصلة الكلام مع صديقتها فيما كان العزرائيل الوهابي وزبانيته يغادرون المكان مكللين بالعار.

المكان: أسواق الأندلس
الزمان: صباح يوم عادي من عام 2004
الحدث: الخمول المعتاد كان عنوان الحركة التجارية في ذاك الصباح المتثائب. لا شيء يكسر طوق الفتور سوى الجولات المكوكية التي يقطعها رجل الهيئة بلا كلل ولا ملل. عيونه التي لا ترى سوى معايير المعروف والمنكر وقيم الحلال والحرام، تتلهف للإمساك بشيء أي شيء. هذه أمي الخمسينية تسير في طرقات السوق مكبلة بثقل القيود الوهابية ماعدا عينين متمردتين على سواد الشيلة (غطاء الوجه). يا للعار! امرأة تكشف الغطاء عن عينيها.. اندفع رجل الهيئة كالثور الهائج وراءها: يا امرأة غطي وجهك! يا امرأة استري نفسك! جربت أمي السكوت والتجاهل كحل ودي، لكن من يقدر على إيقاف القطار المندفع؟ انسلت داخل محل ملابس نسائية فانزلق وراءها، وهو لا يكف عن ترديد أوامره ونواهيه بطريقة آلية غريبة. لم يعد الأمر سهل الاحتمال، فصاحت به: ماذا تريدني أن أفعل؟ أليس هذا لباس المرأة المسلمة؟
كانت كل المشكلة في عينيها الجريئتين.. رد عليها بقوله: لا! يجب أن تغطي عينيك أو أن ترتدي برقع
قالت أمي: برقع! ما الفرق بين البرقع واللثام؟ أكل مشكلتك في وجود الخيط المنحدر من الجبين إلى الأنف؟ أترى أن هذا سيحل معاناتك ويسكت احتجاجاتك؟
وكعادة من يملك القوة وهو محروم من مزايا العقل والمنطق والتفكير، قال لها نافخاً صدره: (نحن) لدينا أمر من أمير الرياض سلمان بن عبد العزيز بأن نمنع أي امرأة تخرج عن الضوابط الشرعية وتتحداها من دخول الأسواق.
ردت عليه أمي بقولها: وهل فوضكم الأمير سلمان بطرد النساء كما لو كانوا قطيعاً من الأغنام وبسرقة المانيكان؟ (لا أفهم لماذا يقومون أحياناً بمصادرتها رغم أنها مقطوعة الرؤوس. أترى يفعلون ذلك خوفاً على الشباب من الاستثارة الجنسية أم خوفاً من أن تتحول بمرور الأجيال إلى بذور للديانة الوثنية من جديد).
وفي حركة مؤثرة ومفاجئة، رفع المطوع يديه إلى السماء، وكما لو كان فوق جبل عرفة، عالياً داعياً بصوت جهوري: "اللهم إن كان فيها خير فأبقها، وإن كان فيها شر فسرع بها"
وبهدوء قاتل، عملت أمي على تهدئة الموقف الذي صار مشتعلاً بفضل صراخه الذي جلب الباعة في المحلات المجاورة قائلة: كان من الأجدى أن تتكلم بصوت منخفض فهذا ليس بأسلوب تتعامل به مع الناس عامة والنساء خاصة.
بكثير من التهكم، أجابها: لماذا لا تنعتيني "بالإرهابي" (!) هيا..
قوليها..
قالت أمي التي مازالت محتفظة برزانتها: أنا لم أصفك بالإرهابي، لكني أعلم أنك صرت تقرأ بجلاء تلك العبارة في عيون الناس الذين تصادفهم وتتحرش بهم. ألست أنت وأمثالك من حقن رؤوس الشباب بالأفكار التكفيرية والجهادية فتحولوا إلى وحوش آدمية تتلهى بالقتل والتعذيب؟
وكمن نسي الدور "
المفترض"له وهو الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، كاشفاً عن ضحالة تفكيره وسوء خلقه وجلافة طباعه: هل تريدينني أن أتبسم في وجهك؟ صارخاً في وجه أمي.
ردت عليه أمي بحزم لا يلين: لو لم
يبقَ في هذا العالم من يضحك في وجهي سواك، لدسست حذائي في فمك!
الغريب يا سادة، أن المطوع ما أن سمع بهذا التهديد حتى غادر المكان دون أن ينبس بكلمة أخرى، وكأن النار التي كانت تتلظى في صدره قد صارت رماد في لحظة. خرج المطوع الوهابي مدحوراً مذموماً مشيعاً بشتائم ولعنات أخرى. هنا علت عبارات الاستحسان من البائع الذي كان يراقب "حفلة الردح" ربما باستمتاع شديد.
قال وقد علت وجهه علامات السعادة: أحسنت! لقد ولى الشيطان الملتحي مكسور الجبين ومهيض الجناح.
قالت أمي متقمصة دور الحكيم أو البطل في آخر الفيلم: أنتم السبب، أنتم من جعلتموهم يتجرؤون عليكم وعلى زبائنكم. كان يجب أن تتكاتفوا سوياً مطالبين إدارة السوق باتخاذ إجراءات تحد من تطاولاتهم المتكررة واتي جعلت من السوق كما لو كان ثكنة عسكرية يهاب دخولها النساء قبل الرجال.

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط