هشام محمد / Jun 23, 2010

كتبت مراراً وتكراراً، وفي مناسبات عديدة مضت، أن المسلم عامة، والسعودي خاصة، لا تستثيره القضايا الحيوية التي تتشابك مع تفاصيل حياته اليومية كالصحة والبيئة والتعليم والفقر.  ولو أنك فتشت عن المحفزات التي كانت في يوم وراء ثورة الفرد وانتفاضة الشارع لوجدتها أنها لا تخرج عن كونها تعبيرات انفعالية عن غرائز دينية أولاً وشعارات سياسية ثانياً.  من النادر جداً أن تخرج مظاهرة في يوم تطالب بتطوير التعليم، أو بإقالة مسؤول فاسد، أو بتحسين الأحوال المعيشية، أو بالمطالبة بحرية التعبير والفكير.  كل تلك المطالب تبدو له تافهة لا وزن لها، ولا تحتل حيزاً هاماً في خارطة اهتمامات المواطن.

 

سأعطيكم مثالاً صغير.  أهل أحد الأحياء في مدينة الرياض ناشدوا وزارة الشؤون الإسلامية كتابة في إحدى الصحف المحلية لبناء مسجد رغم أن حيهم كبقية الأحياء الأخرى يغص بالعشرات من المساجد.  طالب هؤلاء بمسجد لا حاجة لهم به، لكنهم لم يطالبوا بردم الحفر المستديمة التي حولت شوارعهم أعواماً إلى مصائد، ولم يطالبوا بتجفيف المياه الآسنة التي تفرخ لهم أسراباً من الذباب والبعوض.  ما أغرب تلك الكائنات البشرية التي لا تستفزها سوء حال الطرقات المهترئة ولا تردي مستويات النظافة، لكنها تستفز فقط لعدم وجود مسجد يقع في حدود مائة متر من منازلها!

 

وفي أوائل 2006، احترقت مدخرات وأموال الملايين من السعوديين في سوق الأسهم.  تحولت ثرواتهم وأحلامهم إلى كومة من رماد.  ما الذي اعقب حفلة اللطم والبكاء والدعاء؟  لا شيء غير كلمتين خفيفتين على اللسان، ثقيلتين على الميزان: حسبنا الله ونعم الوكيل!  وقبل شهور فقط تحولت قطرات ماء إلى تسونامي اغرق عروس البحر "جده".  قليل من المطر لو نزل في بنجلاديش أو نيبال لما علم به أحد.  قطرات ماء تحولت بسبب الغش والفساد وانعدام الضمير وغياب الرقيب إلى طوفان هادر جرف معه الأرواح والسيارات والبيوت.  ماذا فعل المتضررون؟  هل اشتعل جمر الغضب في مواقد صدورهم؟ هل طالبوا بإنزال عقوبات غليظة بالمسؤولين؟  لا...لا...لا.  إنها مشيئة الله، وله في ذلك حكمة تخفى علينا من البشر.  بعضهم، ممن له صلات إلهية لا تنقطع مع السماء، انشغل بتبرير الكارثة وفك رموزها، وكأن الله قد أسّر إليه أنه عاقبهم بالطوفان لأنّ أهل هذه القرية الفاسدة قد تمادوا في اختلاط الرجال بالنساء...والعياذ بالله! 

 

العرب أو المسلمون عامة، والسعوديون خاصة، يخشون الاحتجاج إذا كان الأمر سيفضي إلى الاصطدام إما بالسياسة أو الدين، أو لنقل بالاستبداد السياسي أو الاستبداد الديني.  المواطن يخشى الوقوف في وجه هاتين الكتلتين لمعرفته المسبقة أنه هو الخاسر في النهاية.  لكن ما يدعو إلى الاستغراب أن هذا المواطن المتضرر دوماً من القمع السلطوي والديني سيكون أول من يهتف لصالح معذبيه وجلاديه.  إن هذه الصورة الكاريكتورية تعبير عن نجاح السلطان وساعده الأيمن، أي الفقيه في تدجين المواطن واستئناسه عبر قرون مديدة.  فعلى الرغم من تململ المواطن وتبرمه من انتهاكات السلطة وإذلالاتها له إلا أنه سرعان ما يذوب في موجة بشرية تهتف بحماس: " بالروح بالدم نفديك يا...".  ولكم أن تسألوا حذاء منتظر الزيدي، فلديه الإجابة الشافية.

 

المواطن يخشى أن يرفع عقيرته بالصراخ لأنه يعلم أن كل مطالبه الدنيوية المشروعة سترتطم بجدران القصر أو المسجد.  فالأول يلوح بحبل المشنقة أو بحد السيف اللامع، والثاني يلوح بورقة التكفير والتفسيق.  منذ الأزل، وتلك المنطقة من العالم منكوبة بالعنف السياسي والديني الموجه للداخل.  تاريخياً، تواطأ رجل السياسة مع رجل الدين في إخصاء الشعب واسكاته.  لا أتحدث عن الدور التثويري الذي مارسه الدين في بداياته الطفولية، لكني أتحدث عن دور الدين البراجماتي والإنتهازي الذي وظفته السلطة السياسية منذ معاوية بن أبي سفيان إلى هذا اليوم في تبرير الواقع وصبغه بالشرعية.  في ظل تلك المعطيات لا يسمح للمواطن بإذكاء احتجاجات ضد ممارسات السلطة القهرية أو التشريعات الدينية اللاإنسانية.  والمدهش حقاً أن هذا المواطن المازوخي لم يعد يكتف باللامبالاة أمام ما يقع عليه، بل أصبح ينافح عن تلك النظم السياسية المتعفنة والمؤسسات الدينية المتحجرة ضد أي محاولات من الداخل أو الخارج لزعزعتها أو تقويضها.  محلياً، لا تستهدف الظواهر الاحتجاجية (غالباً ما تأخذ صيغة التجمهر الالكتروني لعدم تساهل النظام السياسي مع صور المظاهرات التقليدية) تحقيق أهداف مشتركة تتعلق بهموم اقتصادية أو صحية أو قانونية.  اللافت أن المساحة المسموح بها للصراخ والاحتجاج يجب ألا تتماس مع السلطات السياسية أو الدينية.  لهذا تأتي مؤازرة القضية الفلسطينية في طليعة الموضوعات المسموح بها للتنفيس عن مشاعر الاحتقان السياسي.  وربما تلتها قضايا هامشية كنصرة النبي واصحابه وحرية الحجاب والنقاب، وما إلى ذلك من قضايا سطحية.

  

في السعودية، وتحديداً في العام الماضي، انتفض الكثير من المواطنين، وربما بلغ عددهم الآلاف، على خلفية قيام أحد الشبان السعوديين (مازن عبدالجواد) بالحديث متفاخراً إلى قناة (إل بي سي) اللبنانية عن علاقاته الجنسية مع إحدى الفتيات.  لا أفهم كيف لم يستوعب هذا الفتى أنه يعيش داخل مجتمع على أتم الاستعداد لغفران جرائم الإرهاب والتفجير وتبريرها، لكنه لن يقبل بتلويث سمعة فتاة وأسرتها.  كيف له أن لا يعلم أن غشاء بكارة بنت يهدره شاب طائش يفوق قدراً أرواح عشرات يزهقها حزام إرهابي ناسف؟  صدر القرار بجلده 1,600 جلده وبالسجن خمسة أعوام، تلبية لاحتجاجات الآلاف من "المحتسبين".  ألم يكن خيراً له أن يكون إرهابياً؟  لو فعل ذلك، فإنهم لن يجلدونه بوحشية، بل سينصحونه بكل لطف ومودة، ثم يمنحونه مالاً وعملاً وبيتاً لئلا يعود إرهابياً؟!

 

دفع مازن ثمن وهم الخصوصية المحلية وخرافة النقاء والطهر الإجتماعي والأخلاقي.  دخل مازن في المنطقة المسموح بها لهؤلاء بالصراخ والاحتجاج رغم أن حديثه عن علاقات جنسية مزعومة لم تهتك عرض هؤلاء المحتجين، ولم تسلبهم أموالهم، ولم تفقدهم عزيزاً.  وعلى ما يبدو فإن هؤلاء المحتسبين وجدوا أن توجيه سيل من رسائل الاحتجاج ورفع الدعاوى القضائية سيحقق لهم ما يرجونه.  ولما لا والعاملون في هيئة التحقيق والإدعاء لا يختلفون من حيث الميول والتوجهات الثقافية والدينية عنهم بشيء.  لهذا قام الآف من المحتسبين مرة أخرى بمطالبة الهيئة المذكورة بمعاقبة شابين وفتاة سعودية تحدثوا لقناة MTV  الأمريكية عن أحلامهم في كسر التابوهات الاجتماعية الصلبة.  لقد توافرت عناصر الإثارة هنا: فتاة، شاب، قناة أمريكية، عادات، دين، وقيادة السيارة.  ألا تكفي هذه العناصر لتفجير الاحتجاجات وإرسال رسائل الخوف على الهوية والخصوصية والثقافة والدين هنا وهناك؟  لا اعرف لماذا جمع المحتسبون بضعة الآف من رسائا الاحتجاج!  إنه رقم هزيل بالمرة.  اعتقد أنه كان بمقدورهم جمع الملايين، فالشعب لا يقبل المساس بدينه ونبيه وصحبه وتابعيه ولا بشيوخ الفتاوى وتجار الدين ولا بعاداته ولا تقاليده مهما كانت عليه من تخلف وتصحر.  شعب متأهب للصراخ والانفجار والاحتراق لو تم المساس بكرامة رميم عظام أحد السلف أو حجاب امرأة أصولية في شوارع أوروبا، لكنه لا يملك سوى الصمت والدعاء فيما لو حوصر في رزقه وجرد من حريته وانتهكت كرامته.

affkar_hurra@yahoo.com


المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط