هشام محمد / Jan 09, 2006

ـ 1 ـ

وردت كلمة الجنة في القرآن ست وستين مرة بصيغة المفرد، وتسع وستين مرة بصيغة الجمع. والجنة جاءت بأسماء مختلفة وبمعنى واحد. فالجنة تمسى بالحسنى، الفردوس، طوبى، دار السلام، الغرفة، دار القرار، وما إلى ذلك. وعلى ما يبدو من تفاسير القرآن أن كل مؤمن سيقطع أربعة جنان، وليس جنة واحدة. فالله في سورة الرحمن يقول "ولمن خاف مقام ربه جنتان"، ثم يضيف في نفس السورة "ومن دونهما جنتان". فسر القرطبي ذلك بأن لكل شخص يخاف الله سينال أربع جنان. ولك أن تتخيل القدر الهائل الذي سيصل إلى المليارات من الجنان التي تنتظر المؤمنين.


وللجنة ثمانية أبواب، والمسافة بين كل باب وآخر مسيرة أربعين عام، كما يروى عن النبي محمد. فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان. إلا أن هناك حديث آخر يروى عن النبي يعد فيه من يحسن الوضوء ويشهد أن لا إله إلا الله وان محمد رسول الله حتى تتفتح له كافة الأبواب ليختار منها ما يشاء. وإذا اجتاز المؤمن أبوابها الهائلة فسيجد أن الجنة ليست ذات امتداد أفقي شاسع غير محدود فحسب، بل تتكون رأسياً من مائة درجة. وبحسب ما يروى عن النبي فإن المسافة بين كل درجة وأخرى تعادل المسافة بين السماء والأرض، وقيل أنها تعادل مائة عام. العمل الصالح في الدنيا غالباً ما يكون هو معيار المفاضلة بين سكان الدرجات المائة، فأهل الدرجة العليا فازوا بها لكونهم أكثر إيمانا وصدقاً من نظرائهم أهل الدرجة الدنيا. وربما حتى لا يشعر ساكن الدرجة الدنيا بأن هناك من يبزه مكانة فإنه لا يرى ما فوقه ولكن يرى ما تحته. أما أعلى درجات الجنة فتسمى الوسيلة، وهي الأقرب إلى عرش الله. والوسيلة هذه لا تتسع إلا لشخص واحد، وغالباً هو النبي محمد. فقد روى أبو هريرة أن النبي قال: "إذا صليتم علي فسلوا الله لي الوسيلة" قيل يا رسول الله وما الوسيلة؟ قال: "أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد وأرجوا أن أكون أنا هو".

الجنة من الداخل صورة تأخذ بالألباب وتتجاوز حدود الخيال، فترابها من الزعفران، وطينها من المسك، وجدرانها من الذهب والفضة. أما الأشجار فحدث ولا حرج، ولهذا سميت بالجنة لأنها تجن من فيها، أي تستره بشجرها لكثافته، لدرجة أن المؤمن المتكئ على سريره يكفيه أن يمد يده الكسولة ليقطف ما يشتهيه من الغصون الدانية المثقلة بأطيب الثمار. وفي الجنة تنساب الأنهار حاملة بين ضفافها لبناً وعسلاً وخمراً وماءً لا يضاهي لونها وطيبها وطعمها في الدنيا من شيء. وهناك نهر يسمى بالكوثر، وهو مخصص للنبي محمد دون سواه البشر، حوافه مصنوعة من الذهب، وترابه من المسك، وماءه أبيض من اللبن وأحلى من العسل وأبرد من الثلج، وترده طيور أعناقها مثل الجزر (= الجمال).


أما بخصوص مساكن أهل الجنة فيكفي أن نستعير ما كتبه الإمام الغزالي من أن النبي سئل عن المقصود بمساكن طيبة في جنات عدن فقال: "قصور من لؤلؤ، في كل قصر سبعون داراً من ياقوت أحمر، في كل دار سبعون بيتاً من زمرد أخضر، في كل بيت سرير، على كل سرير سبعون فراشاً من كل لون، على كل فراش زوجة من الحور العين، في كل بيت سبعون مائدة، على كل مائدة سبعون لون من الطعام، في كل بيت سبعون وصيفة، ويعطى المؤمن في كل غداة ما يأتي على ذلك أجمع". وكما يفضل البعض من الناس في الدنيا نصب خيمة داخل أسوار القصر حديث، فإن ساكن الجنة سيجد إلى جانب القصور العامرة خياماً أجمل وأكبر. الخيمة في الجنة مصنوعة من اللؤلؤ، وطولها ستون ميلاً، وداخل الخيمة حور العين المستورات من العيون "حور مقصورات في الخيام" (سورة الرحمن: آية 72). وفي الحديث أن أدنى أهل الجنة منزلة له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة، وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية وصنعاء. إن جمال أي حورية في الجنة يفوق وبمراحل جمال كل نساء الأرض مجتمعات، فقد روي عن النبي أنه قال: "ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما
ولملأته ريحاً ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها". وروي عن النبي أنه قال: "تنظر إلى وجهها في خدرها أصفى من المرآة وإن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب وإنه يكون عليها سبعون ثوباً ينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها (؟) من وراء ذلك". دور حور العين لا يتجاوز خانة المتعة الجنسية، فهن خلقن لإمتاع الرجل وتدليله والترفيه عنه. وهن فوق جمالهن العجيب ناعمات لا يكبرن ولا يهرمن ولا يسخطن ولا يكدرن على أزواجهن، كما تفعل نساء الدنيا.


بجانب العدد الهائل من حور العين المخصصات لكل رجل، سيعطى ما يفوق ذلك عدداً من غلمان
مخلدين كأنهم لؤلؤ مكنون. إنهم على درجة عالية من الجمال والحسن، ويرتدون الأساور في أيديهم والأقراط في أذانهم، ويتسابقون لخدمة الرجال. مهمة هذا الجيش الجرار من الغلمان والذي يصل إلى ثمانين ألف لأقل أهل الجنة منزلة لا يبدو أنها تقف عند مناولة كؤوس الشراب لأسيادهم من الرجال كما صرح به الشيخ جلال كشك (مجلة حريتي المصرية، 19/4/1992). الشيخ جلال أكد أن المسلم الذي يعصم نفسه من الوقوع في اللواط في الدنيا سيكافأ في الجنة بممارسة الجنس مع الولدان المخلدين، تماماً كما يكافأ تارك الخمر في الدنيا بأنهار من الخمر في الجنة.


ـ 2 ـ

ما حوته الأحاديث النبوية وما حبره السلف والخلف من المفسرين من وصوف لجنات تفوح برائحة النساء والخمر أجمل وأعظم وأكبر من أن يتسع له صدر مقالة صغيرة كهذه. لكم حاولت عبثاً أن ارسم صورة تليق بقصور الجنة المسحورة وخيام اللؤلؤ الفارهة ووجوه الحوريات الفاتنة، فالعقل البشري مهما بلغ به الخيال والإبداع اعجز من أن يقترب من تخوم ذاك العالم المسكون بالدهشة والبذخ في كل شيء. لكن لا أخفي أن هناك ثمة تساؤلات صغيرة تلقي بأظلتها الشاحبة الثقيلة على وجه الجنة المضيء، وهي ربما تساؤلات تسللت إلى رؤوس الكثير منا لكن سرعان ما تنسى في أحضان حور العين على ضفاف أنهار الخمر.

أين نساء الأرض المؤمنات من كل هذا النعيم؟ هناك تهميش واضح للنساء تستشعره من قراءة الأحاديث والتفاسير. أخشى أن يكون مرد هذا أن النساء هم أكثر أهل النار وحطبها كما ذكره النبي محمد. الرجل والمرأة يقتسمان التكاليف الدينية على الأرض، بل أن المرأة تخضع لالتزامات دينية تفوق ما يفرض على الرجل من الحجاب وطاعة الزوج ومع هذا فإنها لا تتقاسم ثمار الجنة مع الرجل بالتساوي. الرجل في الجنة هو بؤرة الاهتمام المركزية وتحت قدميه تتناثر حور العين وتنثني له غصون الشجر. يقال أن المرأة المؤمنة ستعود لزوجها في الجنة ولكن بدلاً أن تكون شريكة عمره ورفيقة دربه ستتحول إلى رقم صغير يكاد يتلاشى ذكره وسط العشرات وربما المئات من حور العين الشهيات. ما الذي تغير إذاً؟ تضاعفت قوة الرجل واتسعت رقعة سلطانه أما المرأة فإلى مزيد من التغييب وإلى مزيد من الانكسار.


الجنة صورة مكبرة آلاف المرات لطموحات ورغبات البسطاء من بدو الجزيرة حيث انطلق منها قطار الإسلام بقوة. تكديس النساء والولدان في جنة السماء وحرث أراضيها الخضراء بأنهار الخمر والعسل والماء واللبن لم يكن من قبيل الصدفة. هذه المفردات المتجددة التدفق بلا حساب تلغي قانون "الندرة النسبية" الذي يقف على حافته البدوي، وهي فوق ذلك تلامس شغاف القلب وتدغدغ أحلامه الساذجة. أليست حياته معلقة بما تخبئه الغيمات من وعود الخصب أو الجدب؟ ألم يشكل الخمر دعامة لاقتصاد مكة ومصدر سمر في ليالي الحجاز الخاملة؟ ألم تكن معانقة النساء
ومضاجعتهنّ طبعاً مستقراً في الصدور لم يجمح عنانه إشراقة الإسلام في نفوس المؤمنين؟


ترى لو أن النبي محمد قد بعث في مكان آخر من العالم، كبلاد الهند أو بلاد الغال أو سهول سيبيريا، فهل سيكون لوعود الجنة نفس الصدى الذي يتردد في نفس بدوي الجزيرة؟ أليست الجنة تعويضاً عن ما يفتقده المرء في الأرض؟ الأكيد أن ما يفتقده البشر على امتداد خارطة العالم ليس متساوياً لا من حيث النوع أو الكم. لهذا لا يمكن مصادرة حق ابن الراوندي بذخيرته الفكرية وانتمائه الجغرافي المختلف في إبداء اعتراضه بطريقته المشبعة بالسخرية قائلاً: "ولما وصف محمد في القرآن الجنة، قال: فيها أنهار من لبن لم يتغير طعمه، أي الحليب، ومن يستسيغه سوى الجائع. وذكر العسل ولا يطلب صرفاً. والزنجبيل، وهو ليس من لذيذ الأشربة. والسندس، وهو يفرش ولا يلبس، وكذلك الإستبرق، الغليظ من الديباج. ومن تخايل أنه في الجنة، يلبس هذا الغلظ ويشرب الحليب والزنجبيل، صار كعروس الأكراد والنبط". وإلى جانب التباينات الأفقية بين المجتمعات الإنسانية فإن حاجات الفرد ودوافعه تتطور رأسياً، فالغذاء والكساء والأمن والاستقرار تشكل قاعدة الهرم، فإذا ما تم تلبيتها انطلق للبحث عن إشباع حاجات أسمى كالتميز والتقدير، وهي الحاجات التي تفرقه عن الحيوان. اذكر هنا أن أحد زملاء الدراسة في المرحلة الإعدادية سأل ضاحكاً مدرس الدين: هل سنحصل في الجنة على كوكا كولا؟ فما كان من مدرس الدين إلا أخرجه من الفصل ربما لأن المغفل فرط في لبن الجنة مقابل زجاجة كوكا كولا.


ـ 3 ـ

وقبل أن انهي هذه المقالة لنتأمل بقدر من الهدوء ما كتبه الباحث السوري فراس السواح عن أزمة الإنسان بعد زوال المشاعة الابتدائية واصطدامه بإملاءات التنظيمات السلطوية (مغامرة العقل الأولى، الطبعة الثالثة عشر، 2002، دار علاء الدين، ص 237) "ومع نضوج المجتمعات الأبوية التسلطية وإحكام حلقاتها على الأفراد، صار الإنسان إلى حالة إحباط دائمة هي شرطه الأساسي في حياة تبدو بلا معنى ولا تسعى إلى غاية، سوى موت يضع حداً لفصل مؤلم. ولكن المجتمع التسلطي استطاع أن يحرم الفرد من كل شيء إلا من رغبة في التغيير بادية أو كامنة و.. حلم. تجلت رغبة التغيير في ثورات البشر عبر التاريخ في سبيل حياة أفضل وحرية أكثر. وتجلى الحلم، بديلاً عن العمل في أدبيات البشر التي تصف عالماً قادماً، هو حرية كاملة ومساواة مطلقة وراحة من لعنة العمل المفروض على الإنسان. عالم لا مرض فيه ولا عناء ولا شيخوخة ولا موت. فكانت أساطير الجنة لدى كل الشعوب، تعبيراً سلبياً عن رغبة في التغيير لم تخرج إلى حيز الفعل، أو فعل تم إحباطه فصار حلماً ينتظر".

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط