جندي من جند الله شاهر سيفه
هشام محمد / Dec 28, 2005

ـ 1 ـ

كانت بغداد في المنتصف الأول من القرن الثالث الهجري حضناً دافئاً يتسع لكافة الملل والنحل والمدارس الفكرية. وكان ابن الراوندي الذي ما أن يذكر اسمه حتى يستدعى الإلحاد، نموذجاً مصغراً لتلك التباينات الفكرية والأمزجة الثقافية المتنوعة. بدأ حياته معتزلياً، قبل أن تبدو عليه أعراض شيعية إمامية، لينتهي به المطاف ملحداً، لا يكف عن الاستهزاء والطعن في المعتقدات والرموز الدينية مما لا يجرؤ أحد في وقتنا الحاضر على أن يفكر بها في سره، فضلاً عن أن ينبس بها لغيره. صحيح أن كتبه التي تربو على المئة قد اختفت بالكامل، وصحيح أيضاً أن قبره ـ كما يقال ـ قد نبش في زمن لاحق وصلبت جثته وضربت بالسياط، لكن الأهم أنه طيلة حياته ظل حاملاً رأسه فوق كتفيه، فلم يشنقه خليفة أو يحرقه والي أو يغوص في ظهره خنجر تحت جناح الظلام. سأقتطع بعضاً من الشذرات المنسوبة لابن الراوندي كما وردت في كتب من تصدى له من فقهاء وعلماء عصره، وأكاد أجزم لو أن شخصاً كابن الراوندي قال مثل هذا في أيامنا هذه فلن يكفي الجماعات الدينية أن تشرب دمه وتأكل لحمه وتمصمص عظمه.


قال ابن الراوندي منتقداً الذات الإلهية: "وليس عنده من دواء للداء سوى القتل، فعل العدو الحنق الغضوب، فما حاجته إلى كتاب ورسول؟".


وقال ساخراً من الإعجاز اللغوي في القرآن: "إن المسلمين احتجوا لنبوة نبيهم بالكتاب الذي أتى به وتحدى به الفصحاء، فلم يقدروا على معارضته. أخبرونا، يا معشر المسلمين، لو ادعى ممن تقدم من الفلاسفة بمثل دعواكم في القرآن، وقال بأن إقليدس كتب كتاباً عجز عنه الخلق، فهل تثبت نبوته؟".

ويقول مشككاً في المدد السماوي يوم بدر: "إن الملائكة الذين أنزلهم الله تعالى في يوم بدر لنصرة النبي، كانوا مغلولي الشوكة، قليلي البطش، على كثرة عددهم واجتماع أيديهم وأيدي المسلمين، فلم يقدروا على أن يقتلوا زيادة عن سبعين رجلاً من الكفار".


ويقول محتجاً على تواضع وعود الجنة: "ولما وصف محمد في القرآن الجنة، قال: فيها أنهار من لبن لم يتغير طعمه، أي الحليب، ومن يستسيغه سوى الجائع. وذكر العسل ولا يطلب صرفاً. والزنجبيل، وهو ليس من لذيذ الأشربة. والسندس، وهو يفرش ولا يلبس، وكذلك الإستبرق، الغليظ من الديباج. ومن تخايل أنه في الجنة، يلبس هذا الغلظ ويشرب الحليب والزنجبيل، صار كعروس الأكراد والنبط".


وممن عرفوا كذلك بميولهم الإلحادية أبي العلاء المعري، وجابر بن حيان، وأبي بكر الرازي. الأول اشتهر بالشعر، والثاني بالكيمياء، والثالث بالطب. كل منهم حمل في داخله
شكوكاً صارخة تجاه الله والأنبياء والرسالات السماوية إلا أنها أكثر اتزاناً وهدوءاً من مشاكسات ابن الراوندي. فالرازي مثلاً قد أنكر الأديان رأساً واتهم الأنبياء بالكذب. وقدم تفسيراً فريداً من نوعه يقوم على مبدأ أن النفوس الشريرة التي صارت شياطين تتجلى لبعض الناس في صورة ملائكة، وأن تلك الملائكة المزيفة تأمر من تتجلى لهم بالذهاب إلى الناس والإدعاء أنها تحمل رسالة من الله وذلك بقصد إثارة الفتن والقلاقل بين الناس. ولهذا فإن الرازي لا يتردد في اعتبار الأديان أصل الشقاق ومصدر الحروب والنزاعات بين البشر. فهذا الوحي المسمى بجبرائيل ما هو إلا شيطان بغيض يعادي الإنسان، بدليل ما تسبب هذا الشيطان بوحيه من سفك للدماء والموت العبثي من أجل الرب.


ـ 2 ـ

بالرغم من جرأة أفكار هؤلاء التي تنسف الدين من جذوره إلا أنهم جميعاً ماتوا ميتة طبيعية. فلا يذكر التاريخ أن الخليفة استدعى فقهاء الدين لمحاكمة أصحاب تلك الأفكار كما وقع مثلاً مع علي عبد الرازق الذي كتب في عام 1925 "الإسلام وأصول الحكم" مهاجماً فيه مسألة الخلافة وبأنها ليست من صميم الدين ولا من أولويات النبي محمد. ولم يشهد الماضي البعيد أن أحد قضاة المسلمين قد أصدر حكماً بردة أي من أصحاب الفكر اللاديني وبالتفريق بينه وبين زوجته كما وقع في منتصف التسعينيات للدكتور نصر أبو زيد لقراءته التراث الديني من منظور علمي مختلف. ولم يعرف أن جماعة من المسلمين قد جن جنونها لمجرد أن أحد وصف فترة دعوة النبي المكية بالفشل كما وقع للدكتور أحمد البغدادي الذي طورد قضائياً من قبل التيار المتأسلم الكويتي.
طبعاً، لا يجب أن يفهم من هذا أن السلطات السياسية وممثلي الدين في تلك الأيام الخوالي كانوا مستعدين دوماً لتشجيع أصحاب الآراء المختلفة والأفكار المستنيرة بدليل وجود قوائم لمفكرين وفلاسفة تم تصفيتهم جسدياً. غير أنه من الملاحظ أن أولئك
الذين تم التخلص منهم كانوا إما أنهم يبشرون بأفكار غذت الإطار النظري لحركات المعارضة لنظام الحكم القائم فكان لابد من محاصرتها ولو بالعنف (مثلاً: تعاملت الخلافة الأموية بعنف بالغ مع أصحاب القدرية وقامت بذبح كلا من الجعد بن درهم وغيلان الدمشقي بطريقة بربرية) أو أنهم جاءوا في قرون متأخرة نسبياً أغلقت فيها أبواب الاجتهاد، وساد فيها النقل على حساب العقل، وصار العنف بديلاً للحوار (مثلاً: إعدام الفيلسوف السهروردي وتحريق مؤلفات ابن رشد).


ـ 3 ـ

على العكس من التطور الطبيعي للفكر الإنساني والرقي التاريخي لحقوق البشر في التعبير والحريات، صار العالم الإسلامي مقبرة كبرى لكل من يحمل فكراً مغايراً لما هو سائد، وسجناً تعتقل فيه الحريات، وصار عدد من نصبوا أنفسهم مدافعين عن الله ونبيه والإسلام أكثر من الهم على القلب. ولعلي لا أبالغ لو قلت أن المفكر في عالمنا العربي/الإسلامي السعيد صار مستباحاً وصيداً سهلاً لقوى الظلام الدينية، دون أن نغفل لامبالاة الحكومات العربية واكتفاءها بالفرجة على الإرهاب الفكري، إن لم تتواطأ هي مع المرجعيات الدينية في إطار صفقة غير معلنة بين الطرفين.
التيار الديني رغم استشرائه في خلايا المجتمعات الإسلامية يصاب بالذعر والهلع، وتكاد الأرض تميد من تحت أقدامه عندما يبصر النور كتاب أو رواية أو مقالة تنال
ـ عن صدق أو كذب ـ من المسلّمات والثوابت الدينية وما أكثرها. والحق أن مجهودات جند الله لا تنتهي عند حد مصادرة الفكر ولو استدعى الأمر قطع تذكرة ذهاب بلا عودة لصاحبه، بل أن ميادين الدفاع عن الله والنبي والإسلام تمتد وتتشعب لتضم كل شيء في الحياة وتسبغها بلونها الكئيب، مثل الأغاني وأعمال الدراما والسينما وبرامج الواقع ولعب الأطفال والأزياء والمشروعات الاقتصادية، وكل ما يخطر على البال. ونظراً لطول القائمة وكثرة المشاهدات فسأكتفي بذكر عدد قليل منها تجنباً للإطالة ومنعاً للملل:

 

على مستوى الأغاني:

الهجوم الكاسح على الفنانة المرحومة التونسية (ذكرى) بعدما وصفت بداياتها وما اعتراها من صعوبات وعراقيل بأنها تشبه مرحلة دعوة النبي محمد في مكة للدين الجديد.

التشنيع بالفنان السعودي (طلال سلامة) لاحتواء أحد أغانية على مقطع من آية قرآنية.

إصدار فتوى بحل دم الفنان الكويتي (عبد الله الرويشد) بعدما غنى أغنية قيل أنها تتضمن آيات قرآنية.

منع الإعلام السعودي ـ وبمجهودات فردية مباركة ـ ثلاثة أغاني للفنان البحريني (خالد الشيخ) وهي: "عيناك" (لورود كلمة إلحاد)، أغنية "حب على الصليب" (لورود كلمة صليب)، "الباب" (لورود مقطع "اغفر أيها الباب").
الهجوم الشرس على الفنانة اللبنانية (نجوى كرم) بعد لإدعاء عليها كذباً أنها قد ذكرت في مقابلة تلفزيونية أنها تملك كلباً اسمه محمد.

 

على مستوى الأعمال الدرامية:

تهديد التلفزيونات العربية التي كانت تنوي عرض مسلسل (الطريق إلى كابول) وكذلك مخرج العمل والممثلين بما لا يحمد عقباه.

الضجة الموسمية التي ترافق العرض الرمضاني للمسلسل السعودي (طاش ما طاش) في المنتديات الأصولية وعلى المنابر وفي دور الإفتاء.

هيجان المنتديات الأصولية ومعارضة المنتمين للتيار الديني للمسلسل السعودي (حور العين) الذي يتناول عمليات الإرهاب التفجيرية التي طالت المجمعات السكنية في الرياض.

 

على مستوى السينما:

تهديد العاملين في دور السينما المصرية بالإضراب عن العمل لاحتواء الفيلم المصري (مواطن ومخبر وحرامي) على مشاهد ساخنة.

مقاومة التيار الديني المحافظ في السعودية لمحاولات إنشاء دور عرض سينما بالرغم من كون دور السينما لا تختلف موضوعاً عن محلات تأجير وبيع أشرطة الفيديو المنتشرة في المملكة.

 

على مستوى برامج الواقع:

محاربة التيار الديني لبرنامج ستار أكاديمي بحجة تقليد الغرب، والاختلاط بين الجنسين، وصرف شباب الأمة عن القضايا المصيرية، وتعليمهم الميوعة والتهتك.

منع شركة الاتصالات السعودية تصويت السعوديين على ترشيح المشتركين في البرنامج بضغط من التيار الديني.

 

على مستوى لعب الأطفال:

الضجة الهائلة التي صاحبت عرض البرنامج الكرتوني (بوكيمون) قبل سنوات لمساسه بالمعتقدات الدينية.

 

على مستوى المشروعات الاقتصادية:

إصدار بعض الأفراد لفتاوى تحرم المساهمة في شركة (ينساب) السعودية الحديثة النشأة بدعوى أنها ربطت اكتتابات المساهمين في وديعة بنكية ربوية.

رفض رجال الدين قبل سنوات لمشروع مقترح لتنزيل الأمطار صناعياً بدعوى أن فيه تدخل في مشيئة الله!

عدم استكمال أحد المشروعات السكنية في المنطقة الغربية بعدما اكتشف رجال الدين أن المراحيض تواجه القبلة في مكة!

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط