إبراهيم عرفات / Dec 19, 2011

فاجأني زميل الدراسة وصديقي عبد الناصر عطا الله عندما حدَّق النظر بي متعجبًا من ضيق أفقي وقال: ما الداعي لتشبثك بكل هذه الأمور يا إبراهيم؟ أليس هو ديناً والسلام...؟ والبعض الآخر يعاتبني: كلها أديان ربنا يا إبراهيم. والبعض يتساءل: لماذا تريدون للمسلم أن يصبح مسيحيًا والإسلام ديانة التوحيد؟ هل تريدون سلخ المسلم عن دينه؟ إن أصبح المسلم بلا دين فإنه يتخّبط، فماذا تريدون؟ فهلا كانت هي مسألة تسجيل أهداف من ينضم لهذا الفريق دون الفريق الآخر؟ عمومًا، ما الهدف أساسًا من الدين؟

إنَّ حالة عدم الشعور بالفروق تلك تؤكّد أن الدين لهؤلاء شكل اجتماعي ونسق فكري فقط دون البحث عن ماورائيات حقيقيّة بل وماورائيات تحرّكها قوى مشخصنة لا ينبغي أن نجرّدها من سمتها الشخصيّة إلى اعتناق منظومة أفكار وطقوس ...

بدايًة نقول إن الدين لا هدف له سوى الله لا المنافع التي يجنيها الإنسان من وراء إيمانه بالله. الله هو هدف الدين، أيًا كان هذا الدين، وبصرف النظر عن اسمه. ربي الله هو الهدف وهو الغاية، وكل شيء في الإيمان بالله يهدف إليه وحده تعالى. ومن جهة الله، فـ الله ليس هدف نفسه بل الله له هدف "آخر" وهو "الآخر" في الوجود أي الإنسان. الإنسان هو هدف الله، وهذا الإنسان هو ما يطلبه الله. لأجل الإنسان، الله يسخر كل شيء في الكون لأنه يحب الإنسان ويهمه جدًا سعادة الإنسان، ولا يخفى علينا أن تعريف الله للسعادة قد يختلف عن تعريفنا النسبي الوقتي العابر وباختلافنا بطبيعة الحال كأفراد. في البداية خلق الله الإنسان ونفخ فيه من روحه. في الإنسان قبس من روح الله والإنسان في كل هذا لا يدري! والله يريد للإنسان أن يمتليء بروح الله وأن ينعم بملء الحياة الإلهية. إذن، الله يجعلني هدفًا له وأنا شغله الشاغل (لأني هدفه هو وغايته هو) وهو "يطلب" نفسي ويركض وراءها مدفوعًا بالحب كي ما يدفق حبه الإلهي دفقًا في قلبي الصغير. قال الإنجيل في هذا الصدد: "لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا"(رومية ٥: ٥). إجمالاً، هذا هو معنى أن أكون مسيحيًا، وما زاد على ذلك ما هو إلا شروح وتفصيلات لأمر لا يمكن أن تحتويه مجلدات وفيه خير الكلام ما قل ودلّ ذلك أن الله لا يقبل أن تُختزل معرفتي به لمجموعة من الأفكار الدينية وجملة من التعاليم الفقهية أو العقائدية بل الأمر أبسط من كل ذلك. الله يهمه جدًا أن أعرفه هو وأن أستقبل حياته هو بتمامها في قلبي، لا أن تكون عندي جملة من المعلومات القيمة الثمينة عنه؛ وهذا ما يتحقق فعليًا عندما يدخل المسيح إلى قلبي وأستقبله بشكل واعٍ في حياتي ويتربع على عرش القلب ملكًا متوجًا وسيدًا فاديًا.    

 

تسألني: كيف يكون المسيح هو الله وهو بشر مثلي مثلك؟

 أجيبك: الله لا يحده مكان أو زمان بل هو فوقهما. لا نقدر أن نقول إن الله محل إقامته السماء السابعة أو أن نحد إقامته بحيزٍ مكانيّ ما وهو الكائن اللامتناهي بل الله اللامتناهي يملأ الكون ولا يوجد مكان في الكون إلا والله حاضر فيه تمام الحضور الكامل. الكائن اللامحدود والذي نطلق عليه لفظ "الله" هو شخص يلمس التاريخ بإصبعه ويتلامس الإنسان كذلك معه في تواصل حميم من خلال جسد إنسان، وهذا الإنسان هو يسوع المسيح حيث يسكن فيه ملء اللاهوت (القوّة الإلهيّة). هذا اقتضى أنه ما يتصف به الله من كمال يتصف به المسيح من كمال كذلك بما في ذلك من التنزيه التام عن الخطيئة وغناه الوافر بمحبته التي يريد لها أن تفيض فينا دفقًا في قلوبنا. إنه يحبنا ويا حبذا لو نحن بادلناه الحب كذلك ولو قليلاً!

 

وقد اخترنا نصًا كلاسيكيًا من النصوص المسيحية الأولى وفيه يشرح صاحبه الغاية من وراء أن يكون الإنسان مسيحيًا. ونصنا، أي «الرسالة إلى ديوجنس»، هو نص يعود إلى النصف الثاني من القرن الثاني بين العام ١٩٠ و ٢٠٠. الرسالة ترمي إلى غاية أرمي أنا إليها كذلك في مقالتي هذه وهي استدراج القارئ إلى اعتناق الدين المسيحي وأخذ موقف راديكالي منه، فيكون إما القبول التام، أو الرفض التام، إذ أنه حِيال المسيح لا يوجد ما يسمى بالـ بين بين. ورسالتنا هنا كتاب دفاع موجّه من شخص مجهول يرفض تسليط الأضواء على نفسه إلى صديقه ديوجنس. ديوجنس لديه ثلاثة أسئلة يرغب من صديقه في الجواب عنها:

ـ من هو إله المسيحيين، كيف يجلّه المسيحيون، ولماذا لا يكترثون للموت، ولماذا لا يأخذون بعبادات اليونانيين، ولا بعبادات اليهود؟ (بعبارة أخرى: أليس هو دين والسلام...!)

ـ ماذا يعنون بمحبتهم للقريب؟

ـ لماذا لم يُعرَف إيمانهم إلا الآن، لماذا لم يُعرَف من قبل؟

 

وما أشبه الليلة بالبارحة، فالمسلمون في القرن الحادي والعشرين لا يزالون يسألون ذات الأسئلة عينها: من هو إله المسيحيين؟ ولماذا لا يكترثون للموت؟ ولماذا نراهم يهتمون ببعضهم البعض في محبة شديدة فائقة لا نجد مثيلها عندنا نحن المسلمون؟ ولماذا فجأة ظهر الخلاص الآن بالمسيح ولم يظهر من قبل أيام سيدنا داود مثلا؟ ولا غرابة؛ فالبحث عن الحق هو عطش أزلي في داخل الإنسان منذ مهد التاريخ والأسئلة ذاتها تتكرر ولا جديد تحت الشمس. يسخر المسلم من أن المسيحية لا تخضع للعقل وأنها مُسرفة في المثالية (على العكس من الإسلام والذي يرونه أنه دين فطري يخاطب الفطرة) وهنا ترد الرسالة إلى ديوجنس شارحة بأن المسيحية «ديانة لا تنتمي إلى العالم في أصلها ولا في نهايتها، ولا يسع المعايير الأرضية بالتالي أن تفسرها». وعليه، ولكي يزول الغموض فالمسلم عليه أن يسكنه روح الله أولاً فيرفعه لـ حيز السمائيات فينظر في الأمور نظرًا سماويًا كما يراه الله شخصيًا وليس بقياس الفطرة وغرائزها المتقلبة. ويا لهفي على الفطرة عندما تصبح دينًا وعندما يصبح الدين دين الفطرة! مثالية المسيحية تأتي من كون الأب السماوي هو المعيار الرئيسي فيها ولا أقل منه إذ قال المسيح لسامعيه أن يكونوا كاملين كما أن أباهم السماوي هو كامل كذلك. ولابد من إيضاح أن المقصود بحدوث الكمال في حياتنا هو أن هذا الكمال هو حالة من الحركة والمشابهة تحصل في داخلنا بفعل عمل الله وقوّته نفسه لا مثاليّة قاسية تحبط الإنسان. صحيحٌ أن المسيحي يعيش في العالم ويؤدي واجباته بأمانة ولكنه في الوقت ذاته ليس من أهل هذا العالم وهُويَته هي مسكن الآب السماوي لا أهل هذه الدنيا ونواميسهم البائدة. وضع الله المسيحي في العالم لهدف وهو أن يكون نورًا للآخرين بحق ما استقبل من نورٍ من أبيه السماوي، وهم كذلك كالملح لهم دور فعّال ولا يقفون أبدًا متفرجين تجاه الآخرين لأن المسيح هو الذي قال لهم "أنتم ملح الأرض". وفكرة النور ليست أفضليّة كالأفضليّة الإسلاميّة ولا تعني بأي حالٍ من الأحوال تفوق جماعة دينية معينة على باقي الجماعات البشرية (ذهنية خيرّ أمة) ولكنها تعني إمكانيّة نقل حضور الله وطهره وبهائه في العالم من خلال جماعة خضعت له وسلّمت له كلّ حياتها وهي الكنيسة التي يقودها ويحرّكها بفكره الممتلئ بالحبّ.

 

ومع زيادة الحمية الدينية الإسلامية وكثرة الاضطهادات يظن الواحد أن المسيحية سوف يخبو فتيلها وتنقرض وتنتهي من التاريخ، ولكن العكس هو ما يحدث حاليًا إذ كلما زاد الاضطهاد كلما زادت نسبة تحولات المسلمين إلى المسيحية. قال صاحب الدفاع إلى ديوجنس: "ألا ترى كيف يرمون بالمسيحيّين إلى الوحوش ليرغموهم على نكران المسيح فلا ينغلبون؟ ألا ترى أنّه كلّما كثر الشهداء كثر المسيحيّون؟" وباعتباري مسلم سابق أشهد على صحة كل ذلك في حياتي شخصيًا؛ و كثيرًا ما أزعجني انعزال الأقباط عن الثقافة العربية ورفضهم لإرثهم العربي مع أن (زيادة الخير خيرين) ولا يضير العربية أن تتنصّر! الاضطهادات الواقعة على الإيمان المسيحي والمسيحيين هي أكبر برهان على صحة المسيحية. ثم تأتي الرسالة إلى ديوجنس وتؤكد على أن "المسيحيّين لا يحقّ لهم، وإن كانوا مجتمعًا صغيرًا، أن ينعزلوا في غيتوات، إذ إنّهم في وسط العالم يخصبونه مثل القوّة التي تبثّها النفس في الجسد". وربما هذه الآن هي دعوة للمسيحيين والأقباط بالذات إلى أن ينتشروا في كل ثنايا المجتمع ولا يتركوا بقعة إلا ودخلوها وتوغلوا فيها كالملح في الطعام لأنهم حقًا "ملح الأرض". منذ مهد المسيحية في عصورها الأولى المبكرة والمسيحيون يرفضون الانعزال والتقوقع. خطة الشيطان هي أن يجعل المسيحي يشعر بأقليته وأنه صغير ولا وزن له وأما خطة الله فهي أن يقوم هذا المسيحي مرفوع الرأس في شموخ وإباء نفس لا خنوع كالمدينة الشامخة القائمة على قمة الجبل إذ أنه "لا يمكن أن تُخفَى مدينة قائمة على جبل" (إنجيل متى ٥: ١٤) بل وضعها الاستراتيجي يلزمها بأن تنخرط في حياة الآخرين في إقدام المحبة المسيحية.

 

في مطلع الرسالة إلى ديوجنس يؤكد الكاتب على أن الهدف من وراء أن يصبح الإنسان مسيحيًا هو أن "يغدو المرء إنسانًا جديدًا καινς νθρωπος كمولود جديد"؛ ذلك أننا بحسب فطرتنا البشرية ننطلق من "الأنا" ونريد أن يتمحور الكون كله حولنا في انهماكنا بذواتنا والبعض منا يرفع شعار "أنا والطوفان من بعدي". تأتي المسيحية هنا لتقدم العلاج لتطلب من هذا الإنسان أن لا يحيا لنفسه وإنما لأجل "الآخر" سواء كان هذا الآخر هو ربنا أو الإنسان. ليس الهدف أن أعتنق ديناً ولكن أن أخلع طبيعة أنانية ترابية وألبس عوضًا عنها طبيعة سماوية جديدة تماما ومختلفة عن الطبيعة الفطرية السابقة وما تجنح إليه من غرائز، فلا تعود نفسي أمّارة بالسوء بل تسير في خطى المسيح والذي في تضحية فائقة بذل نفسه عن الآخرين إذ هو وحده النموذج والمثل الأعلى. وليس المطلوب مني أن أعيش بمجموعة من المثل والقيم التي نظن أن المسيح قد جاء ليدعو إليها فما أكثر التعاليم السامية البراقة عند أصحاب الفكر والفلسفات. سيدي يسوع المسيح، ليس في العالم كله مثل تعاليمك السامية ومستواها الإلهي الرفيع وعلوها ورقيها الواضح جدًا؛ ومع ذلك فأنت لم تخلص العالم، سيدي المسيح، بالتعاليم أو بالعقائد أو باجتراح العجائب والمعجزات الباهرة وإنما أنت قد خلصت العالم بشخصك أنت وأنت تقدم ذاتك في بذلٍ تامٍ للذات وإقدام وتضحية لا تقف عند حدود أي ما نسميه بالصليب. العالم لا يخلص بالأفكار المستنيرة البرّاقة ولكن يخلص بك وحدك ولا يوجد خلاص جماعي بالجملة ولكن أنت تهب الخلاص لكل من يمد يده إليك دون أن تفرض ذاتك على أحد أو تخيفه حتى ما يتبعك. كلا!

 

أذكر وأنا طفل في قريتنا الصالحية كنت أتأمل بفضول الأطفال أولئك الأقباط وأتساءل بيني وبين نفسي: ما الفارق بيننا وبينهم؟ من هو المسيحي؟ وما هي سمات المسيحية ومتطلباتها؟ ما سرَّكم أيها المسيحيون؟

عن هذا يجيب صاحب الدفاع في رسالته إلى ديوجنس قائلاً: "المسيحيّون لا يختلفون عن سائر البشر لا ببلادهم ولا بلغتهم ولا بعاداتهم. هم يعيشون كلُّ في وطنه ولكن عيشة الغرباء المستوطنين. فكل أرضٍ غريبة هي لهم وطن، وكل وطن هو لهم أرض غريبة.

 

 إنهم في الجسد ولكنهم لا يحيون حسب الجسد. يصرفون العمر على الأرض، إلا أنهم من مواطني السماء. يمتثلون للشرائع القائمة، إلا أن نمط حياتهم يسمو كمالاً على الشرائع. يتوددون إلى الجميع والجميع يضطهدونهم ويتنكرون لهم ويحكمون عليهم ويميتونهم وبموتهم يربحون الحياة. إنهم فقراء وبفقرهم يغنون الكثيرين. يفتقرون إلى كل شيء وكل شيء فائض لديهم. يحتقرهم الناس وباحتقار الناس لهم يتمجدون. ينمّون عليهم فيتبررون، يشتمونهم فيباركون، يهينونهم فيكرّمون. لا يعملون إلا الصلاح ويعاقبون كالسفلاء وفي عقابهم يتهللون كأنهم يولدون للحياة.

 

وبوجيز الكلام، يقيم المسيحيون في العالم كما تقيم الروح في الجسد. الروح منتشرة في أعضاء الجسد كانتشار المسيحيين في مدن العالم. الروح تقيم في الجسد إلا أنها ليست من الجسد والمسيحيون يقيمون في العالم إلا أنهم ليسوا من العالم. الروح مستترة في الجسد المنظور والمسيحيون أنت تراهم في العالم إلا أن العبادة التي يؤدونها عبادة لا منظورة. الجسد يكره الروح ويعاديها وإنْ لم ينله منها أذىً، سوى أنها تحول دون انغماسه في حمأة اللذات، والعالم يكره المسيحيين لا لأنهم أساؤوا إليه، بل لكونهم يتصدون لما فيه من شهوات منحرفة فاسدة. تحب الروح الجسد الذي يكرهها كما يحب المسيحيون مبغضيهم. الروح سجينة الجسد ولولاها لما كان للجسد من حياة، والمسيحيون موثوقون في سجن العالم ولولاهم لا قيام ولا حياة للعالم. الروح الخالدة تقوم في خباءٍ بالٍ، هكذا المسيحيون فإنهم يسكنون عالم الفناء بانتظار عالم لا يفنى ولا يزول."

 

سؤال: وما الهدف من إرسال الله المسيح إلى عالمنا؟ وبأي حالٍ جاء؟

 

يأتينا الجواب من الرسالة الدفاعية إلى ديوجنس مرة ثانية:

أجل لم يرسله كما يمكن أن يتخيله عقل بشر ليجري الظلم وينشر الرعب والجزع بل بكل حلم وعذوبة كما يوفد الملك ابنه الملك. أرسله، وهو الإله، كما يليق أن يرسل إلى الناس ليخلصهم لا عنوة بل بالإقناع إذ ليس في الله من إكراه وعناء ( وأين هذا من الروح الإسلامية المبنية على الإكراه في قول القرآن أنه "وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالأَْرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً"). أرسله ليدعونا إليه لا ليشكونا، أرسله حبًا لنا لا للدينونة (لم يأت ابن الإنسان ليهلك العالم بل ليخلص به العالم). سيأتي يوم يرسله للدينونة ومن يقوى حينئذ أن يحتمل مجيئه؟. . .

أجل، الله يدعونا إليه لنصبح أبناءه وبناته، وكل ما فعله المسيح إنما فعله بدافع الحب وليس المقصود به وضعنا في موضع إدانة أو تخويف أو ترهيب أو ترغيب كما هو حال الإسلام مثلاً. "إن ربك لبالمرصاد" (الإله الشرطي) والتي تمثل صفة الإله في الإسلام وكم أنه بالمرصاد للإنسان تبعُد كل البعد عن إله المحبة والذي يطرق باب الإنسان برفقٍ فقط ليدعوه إليه وليسكب في قلبه ملء محبته الإلهية دون انتظار شيء في المقابل من الإنسان لأنها محبة صادقة طاهرة مجانية.

 

ثم تعرج الرسالة إلى ديوجنس إلى وضع الإنسان والذي لا يتطلع إليه الله من علٍ بل هو قبلة أنظار الله. وأمام أثام الإنسان لا يطلب الله من الإنسان أن يرتفع إليه بل الله بنفسه هو الذي ينزل للإنسان ويفديه من خلال المسيح الذي يكفّر عن سيئات الإنسان فتقول الرسالة: "إنَّ الله لم يبغضنا ولم ينبذنا.. بل تجمَّل بالصبر زمنًا وحمل عبء كلنا. شفق علينا وأخذ على عاتقه وقر خطايانا. أسلم وحيده فدية عنا. أجل لقد أسلم القدوس للمجرمين والبار والأثمة والصدّيقين للمنافقين وغير الفاني للفانين والأزلي للمائتين. بما يمكن أن تُستر أثامنا إنْ لم يكن ببره هو؟ بمن نتبرر نحن الأثمة إنْ لم يكن ببرِّ ابنه الوحيد؟

 

 من هذا المقطع نفهم أن الإنسان مهما عمل من الأعمال الصالحة وتجَّمل بأفضل ما تجود به الأخلاق والفلسفات الإنسانية العالمية العالية فإنه لا يحقق ما يريده الله من برٍّ لأنه إذ ذاك ما هو إلا برّ ذاتي ولكن الله يريد بر لا يقوم به الإنسان بنفسه ولا يرتكز على مجهود الإنسان ولكن بر يقوم به الله هذه المرة وهنا يقتبله الإنسان هذا البر من عمل الله مباشرة من يدي الله الحنون. هذا البر هو المسيح، فدية الله، وهو وحده "يكفّر عن" أي يستر سيئاتنا كما تفيد الكلمة العبرانية كفارة في معناها الأصلي. محاولتنا لإصلاح ذواتنا بالإكثار من الأعمال الصالحة تشبه محاولة بائسة لترقيع الثوب المهتريء، وقد يبلغ منا الجهد أشده في إصلاح ذواتنا بذواتنا فنكتشف أن أعمالنا الصالحة في نظر الله ليست أكثر من "خرق عدة". في كفارة المسيح، في فداء المسيح، أستتر فيك يا سيدي المسيح وأنت تقوم بنفسك بأعمالك الصالحة التي أعددتها أنت لي قبل أن أُولد؛ وعندها ما أنا إلا أداة في يديك.

 

تشرح الرسالة عمل المسيح في الفداء فتقول إنه:

لقد زُجت جريمة كثيرين في بر واحدٍ بَرر جمًا من المجرمين. لقد أقنع بشريتنا في غابر العصور بعجزها عن نوال الحياة وأرانا اليوم المخلص الذي له وحده القدرة أن يخلص من كانوا عن الخلاص عاجزين: بعجزنا نحن وبقدرته هو.

 

ومن هم المجرمون الذين تتحدث عنهم الرسالة؟ إنهم أنا وأنت يا عزيزي القارئ. نحن أجرمنا بتعدينا على ناموس الله وكسره ومن زلّ في واحدة من وصايا الله فكأنما قد تعدى على الناموس بأسره. من يبررنا ونحن نمثل بين يدي الباري عز وجلّ؟ إنه المسيح! المسيح فقط هو الذي يبررني أمام الله. وأنا بمفردي عاجز عن انتشال نفسي من عبوديتي لنفسي ومن هنا يهبني الخلاص. الخلاص بالمسيح وحده، وهو وحده ينتشلني ويخلصني ويعتقني حرًا فأنعم بنعمة البنوة والرضوان لدى الله أبي. بدون المسيح أنا عاجز عن نوال الحياة، ويظهر للناس أني حيّ وما أنا في الحقيقة إلا هيكل عظمي وأعيش على هامش الحياة وأقتات من الفتات الساقط من المائدة والذي تلتهمه الكلاب. يأتي المسيح ويرفع قدري من عبودية الأنا المريضة ويجعل مني ابنًا عزيزًا في عيني الله.

 

يحرص صاحب الرسالة إلى ديوجنس على أن ينقل القارئ نقلة مصيرية فيحدد موقفه الشخصي ويا حبذا لو كان هذا الموقف هو القبول الكامل للإيمان بالمسيح مؤكدًا على أن أعظم فائدة تعود علينا من وراء ذلك القبول هي "معرفة الآب" فيقول:

 

"إن رغبت بحرارة، أنت أيضًا، في أن يكون لك مثل هذا الإيمان واعتنقته تتدرج في معرفة الآب. لقد أحب الله البشر: لأجلهم خلق العالم ولسلطانهم أخضع الأرض وما عليها... برأهم على صورته وأرسل إليهم ابنه الوحيد ووعد بالملكوت السماوي كل من أخلص له المحبة.

تصوَّر أي غبطة سيتدفق بها قلبك لمعرفته! ولكم تندفع في حب من أحبك أولاً. بحبك له تتمثل بجوده. ولا تعجب من أن بشرًا يقوى على التمثل بالله."  

 

أن تعرف الله على أنه أبوك أنت يا أخي المسلم. هذه هي الغاية وهذا هو الهدف من وراء أن تصبح مسيحيًا. ثم نسأل صاحب الرسالة: وكيف يكون التمثل بالله؟ أسمع البعض منكم يقولون: حاشا لله

يا إبراهيم! وفاتهم أن الله قد وهب ذاته نموذجًا لنا نحتذي به نحن لعلّنا نشترك في حياته ونتمثل بها مباشرة. هنا يأتينا الجواب فنستبشر بظهور عالم إنساني راقي له معالم إنسانية واضحة وعملية وكفيلة بخلق مجتمع إنساني يرسي دعائمه هنا يسوع المسيح النموذج الأسمى للتقدم الإنساني وهو يقتادنا نحو غاية تشغلنا جميعًا وهي قيام مجتمع عربي إنساني متفانٍ في إنسانيته، متفانٍ في البذل والعطاء فيقول:

 

أما من أخذ على نفسه عبء قريبه وشاء أن يشرك في تفوقه، في أي مجال كان، من لم يسعده الحظ بالتفوق؛ من يعطي المعوز بسخاء خيورًا يملكها لأجل أنه تلقاها من الله وغدا هكذا ربَّ نعمة لمن يقتبلونها منه، فذاك وحده يتمثل بالله.

حينذاك، وإنْ كان مثواك في الأرض فأنت ماثل أمام الله المالك في العلى وفمك محدث بأسرار الله.

 

تغمرني النشوة وأنا أقرأ وأردد عبارة "وفمك محدث بأسرار الله" وبفرح شديد أقول لك يا عزيزي القارئ، يا عزيزتي القارئة: يمكن أن يكون هذا من نصيبك وتكون أنت متحدث بأسرار الله على فمك فتستجلب الحياة السمائية بنعيمها على الأرض مثواك الحاضر. ألعلك الآن تتجاوب مع دعوة الله أبيك المحب؟ هل أنت ماثل أمام الله أبيك وتتحد بالمسيح وخلعت عنك الأنا النرجسية ولبست المسيح فصار المسيح هو حياتك الآن وأفكاره هي أفكارك وطرقه هي طرقك؟

 

وثمة تساؤل: بأي صفة جاء المسيح؟ ما هي أهم صفة وظيفية تميزه؟ وما الهدف من مجيئه؟ ماذا أراد أن يفعل بمجيئه؟

 

ج: جاء المسيح بصفته "الكلمة" والهدف هو أن يعلن لنا ذاته ومن خلاله يعلن الآب لنا فننعم بشركة الأنس مع كليهما. وهذا ما توضحه الرسالة إلى ديوجنس بهذه العبارات:

 

"لقد ظهر الكلمة واعتلن للبشر، وإذ لم يفهموا من لم يؤمنوا به، كشف عن سرّه لتلاميذه الذين عرفهم فآمن به تلاميذه ونالوا منه معرفة أسرار الآب. لهذا جاء كي يعلن ذاته للعالم."

 

س: هل أسرار الله الآب يمكن أن يحتويها كتاب ما؟ ألا يمكن أن تتنزّل أسرار الله الآب ويحويها كتاب سماوي بين دفتيه؟

ج: كلا! بل نحن بحاجة لـ كلمة الله نفسه كي يعلن ما هو مخفي عنا ويزيل أي غموض فنرى وجهًا لوجه بعد أن كنا فيما مضى نرى رؤية طلسمية من خلال الرموز والظلال. نتجاوز طفولية الوعي الإنساني وصبيانية التفكير فتبطل هذه وننتقل إلى فكر الإنسان الناضج إنسانيًا بواسطة المسيح. هذا الإعلان، إعلان الله الآب في المسيح الكلمة، هدفه إحداث نقلة نوعيّة في حياتي وطريقة تفكيري ونظرتي للآخرين إذ هي دعوة للرقيّ الإنساني في كامل أبعاده، ولذلك يسمون المؤمن هنا "إنسانًا جديدًا". نحسد إنسانًا ما على كمال سلوكه الإنساني ويغيب عنا أنه لعله المسيح وراء كل هذا المجد! وهنا عقيدة "الخلاص" ليست عقيدة نظرية جافة ولكنها "حياة" من لدن الله تفيض فينا ولها انعكاسات عملية تطبيقية على حياتنا اليومية.

 

س: طيب. . خلصت يا أخ؟

ج: لقد قبلت الخلاص وأحيا به وسأظل أحيا به. والله لم ينتهِ بعد من عمله في حياتي بل لا يزال يخلّصني وعمل الخلاص مستمر إذ هو ليس مجرد حدث تم في الماضي بل هو ماضي ومضارع ومستقبل إلى أن يأتي الرب في مجيئه الثاني. 

 

س: ما الذي فعلته يا إبراهيم؟ أتستبدل دينًا بـ دينٍ آخر؟ فما الجديد إذًا؟ ما رأيك في البوذية مثلاً وبعيدًا عن فاترينة الأديان الإبراهيمية؟

 

ج: عندما أقول لك إن المسيحية هي ببساطة الله الأب والذي يعلن ذاته في الكلمة بهدف مد يده إلينا نحن البشر ويقرّبنا إليه، هل هذه ديانة وتضعها في مصاف الأديان الأخرى بما فيها من بدائية في الوعيّ وعقم وجفاف في التفكير؟! بل المسيحية هي الله محبة، وهنا الحب ليس صفة من صفات الله أو من أسمائه الحسنى بل الحب هو الله نفسه والله ليس إلا حب. الحب فيه تقديم للذات والله في المسيحية يقدم ذاته للبشرية. تقديم الله ذاته لك تسميه ديانة؟ وهل تشارط الله معك في تقديم حبه لك؟ كلا! بل تراه يقدم هذا الحب لك دون أي شرط أو قيد من جانبه، وليتك تقبل هذا الحب. أما من جهة البوذية، فهي على رقيها فلا يوجد بها إله شخصي كالـ "أب" الذي عاش معه وفي كنفه المسيح ودعانا للشركة الحميمة معه. وبوذا على عظمته لم يقدم حياته فداء عن العالم كما فعل المسيح مخلصيّ بل بوذا حارب الألم وتنّكر له. البوذية تدعونا للتخلص من الألم وإنكاره وأما المسيحية فهي تعتمد الألم طريقنا لنا إلى الملكوت وبه ندخل إلى قدس أقداس الله سائرين على درب الحب بالصليب ويتقدمنا قلب يسوع المسيح المتألم؛ فالمسيحيّة تقدّم القوة اللازمة لاجتياز الألم كما لأتون بارد بالروح القدس.

 

يقولون فلان يبحث وعن الله يبحث؛ وفي حقيقة الأمر ففي المسيحية الله هو الذي يبحث ويفتش عن الإنسان لا العكس. إنه لا يفتش عن الإنسان ليجعل منه عبدًا من عبيده ولكن ليرد له إنسانيته المسلوبة ويجعل منه "ابنًا" أو "ابنة" له تعالى. إنه لا يفتش عن الإنسان ليكبله بفرائض وعقائد ولكن ليهبه الحرية عندما يهب ذاته هو تعالى للإنسان فيقتبلها الإنسان منه؛ وعليه يسلك الإنسان سلوكًا إنسانيًا ويتصرف تصرفات مسئولة لا وكأنه قزم بحاجة لمن يقول له افعل هذا ولا تفعل ذاك؛ كُلْ هذا ولا تأكل ذاك بل تراه يسكن الإنسان بروحه والإنسان ينطلق من المسئولية، مسئولية الحب الإلهي ويتصرف تصرفات مسئولة راشدة. هنا ينعم الإنسان بصحبة الله ورفقته في رحلة يمضيانها معًا، رحلة حبٍ فيها الحب يحرك الإنسان ليفعل مشيئة الله بكامل رضاه بسرور.

 

تسرني مراسلتكم على بريدي الآتي:

 

timothyinchrist@gmail.com

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط