مالك مسلماني / Aug 14, 2011

لربما أجمل ما كتب عن التمرد كتعبير عن الوجود الإنساني، وبوصفه ممارسة التفكير والإيمان وفعل الإرادة هو ما جاء في نصين لإريخ فروم، الأول بعنوان: «التمرد بوصفه مسألة سيكولوجية وأخلاقية»، والنص الثاني «أنبياء وكهنة»*، حيث يفكك فروم في هذين النصين قيمة الخضوع، وهي القيمة التي عمل على ترسيخها رجالات السلطة عبر التاريخ البشري من ملوك وكهنة وزعماء إقطاع وأرباب صناعة.

في هذين النصين يقول فروم إن فعل التمرد ليس فضيلة بحد ذاته، كما أن الخضوع ليس رذيلة، فمثل هذه المقولة تتجاهل العلاقة الجدلية بين الخضوع والتمرد، إذْ إن فعل الخضوع لمبدأ ما هو بالضرروة فعلُ رفضٍ لمقابله، والعكس بالعكس.

إن التمرد ليس فعل «الثورة بدون غاية»، فمن يتمرد لمجرد قول «لا» هو أعمى كما هو عاجز نظير نسخته المقابلة، أي: الخاضع المطيع، الذي يحجم عن قول «لا». إن فعل الطاعة المطلق هو فعل عبودية، بينما التمرد المطلق ليس فعل ثورة، فالتمرد لغاية التمرد هو تصرف نابع من الغضب أو اليأس والاستياء. والمطلوب هو التمرد الثوري الواعي.

إن الخضوع هو تنازل الإنسان عن استقلاله وقبوله لإرادة وأحكام الآخرين بدلاً من حكمه الخاص وإرادته الذاتية. وهذا الخضوع عكس الطاعة المستقلة، فالطاعة المستقلة تكون بخضوع الإنسان للعقل والقناعة. إن الطاعة المستقلة ليست فعل خضوع، بل تأكيد لحكم الإنسان وقناعته، إنها فعل تأكيد للذات.

لماذا سهل على الإنسان أن يخضع ويصعب عليه أن يتمرد؟

إن الخضوع لسلطة الدولة أو المؤسسة الدينية أو الرأي العام يمنح الإنسان شعوراً بالأمان وبالحماية. أنْ يخضع الإنسان لسلطة ما، يعني أنه جزء من مؤسسة من كيان أكبر، وأنه موجود تحت ظل الذين يدّعون أن لديهم العلم المطلق والقوة. وبالتالي فخضوع الإنسان يجعله جزءاً من السلطة التي يعبدها، يعطيه القوة. ويجعله محمياً من الوقوع بالخطأ لأنه يسير وفق إرشاد السلطة المعبودة.

أما التمرد فهو يتطلب من المرء القدرة على البقاء وحيداً، الاستعداد للوقوع في الخطأ. وفعل التمرد يحتاج لأكثر من الشجاعة، يحتاج إلى أنْ يكون الإنسان قد نضج بحيث بات قادراً على الخروج من حضن الأم والابتعاد على أوامر الأب. أن يتجاوز مقاومة العطالة المتجذرة في أعماقه. أن يبتعد عن القطيع. أن يكون قد تطور لدرجة أن يتمتع بالقدرة على التفكير، وأن يشعر بمعنى إنسانيته، وفقط بعد ذلك يصبح بوسعه أن يتمرد ويقول «لا» للسلطة الغاشمة.

إننا في الظروف المعاصرة وحيث البشرية باتت تمتلك ترسانات عسكرية هائلة بوسعها تدمير نفسها مرات، فإن الإنسان إنْ لم يحز قدرة الشك، وإن لم يتمتع بالقدرة على التمرد، فإنه قد يصل إلى نهاية الحضارة الإنسانية.

إلى هنا تنتهي مرافعة (فروم) بشأن قيمة التمرد، وحرياً بنا نحن الذين نعيش في العالم العربي أن نستمع لهذه الكلمات، فنحن أكثر حاجةً من الشعوب قاطبةً لفعل تمرد واعٍ لأن لدينا مورثات مركبة دينية - اجتماعية. مفاهيم مثل دين الله، والتعصب المذهبي، والعزة القومية، والشرف القبلي، كلها ثوابت في العقلية العربية، حيث لا يستطيع المرء في العالم العربي أن يتمرد حتى على طريقة اللباس، فكيف بالتمرد على تلك الثوابت.

إن كان (فروم) قد طرح ضرورة التمرد، وقول «لا» للسلطة، وكان أكثر ما يشغل باله هو السلطة السياسية في العالم الغربي. فكم نحن بحاجة إلى قول «لا». «لا» لثوابت جمدت العقل العربي. «لا» لدين يحكم على حرية التفكير بالردة.

في العالم العربي، يحتاج المرء لأكثر من شجاعة قول «لا»، ولأكثر من قدرة تجاوز الطفولة النفسية، ولأكثر من الابتعاد عن حضن الأم وأوامر الأب. يحتاج إلى تمرد بطولي قد يكلف المتمرد حياته.

إن مسألة التمرد على أوثان السلطات الاجتماعية والدينية لهي الضرورة التاريخية في العالم العربي، لأجل الدفاع عن حرية التفكير، عن حرية الإنسان، عن الحياة نفسها في العالم العربي.

 

نشرا في:

On Disobedience: Why Freedom Means Saying “NO” to Power

Erich Fromm

Harper Perennial Modern Classics

USA (August 3, 2010)

ISBN: 9780061990458

 

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط