حظرٌ دينيٌّ جنسيّ
سيمون جرجي / Apr 17, 2010

عرّجتُ، في أثناءِ تصفّحي مواقعَ إلكترونيّة متعدّدة، على مدوَّنةِ صديقٍ لي تُدعى "وطن النّور والظّلمة"، فوجدتُه كتبَ مقالاً جديدًا يُحدّثنا فيه عن الخدمة التي طرحتها شركة "جوجل" الرّائدة، وهي خدمة "إجابات"، دخلت العربيّة أوّلاً بلفظٍ مصريٍّ egabat، ثُمَّ عُدّلتْ لتصبحَ ejabat. وهي خدمة توفّر للروّاد طرحَ الأسئلة والأجوبة التي تراود أفكارهم. وقد وُضعت الخدمةُ على أساس "التنافس" بين الأعضاء الكثر، فبمجرّد أن تدخلَ نظامَ التّسجيل تكسبُ نقاطًا تخوّلك طرحَ الأسئلة التي تريد، وكلّ إجابةٍ تؤتيها تمنحك نقطتَين، وإذا اختيرتْ إجابتك لتكون الفضلى بين الإجابات كسبتَ النّقاط المطروحة ضمن السّؤال وهي تتراوح بين 5 و99 نقطة. ثمّة مصادر أخرى للفوز بتلك النّقاط الثّمينة وهي تقييمك الإجابات، ودخولك اليوميّ إلى الخدمة... إلخ. ولكلّ عضوٍ رصيد آخر يُدعى "السّمعة" يرتفعُ معدّله نقطتين عندَ اختيارِ إجابته بين مجموعة الإجابات. اليومَ يبلغُ رصيدُ نقاط الأوّل 108585 نقطة، ورصيدُ سمعة الأولى 18733 نقطة، وهي أرقام ضخمة تفيد في معرفة عدد السّاعات التي قضاها هذان ضمن هذه الخدمة.

 

ما استوقفني في حقيقة الأمر هو هذا الحظر الدينيّ والجنسيّ على "الأسئلة" المطروحة، وقد دهشتُ كثيرًا حين أدركتُ أنّ شركة أميركيّة عملاقة (ضمن إدارتها العربيّة) تفرضُ نقابًا من نوعٍ جديد يغلّف العقولَ ويمنعهم من التفكيرِ في المسائل الدينيّة الإسلاميّة والقضايا الجنسيّة أو تلك التي تحملُ مفرداتٍ أدبيّة جنسيّة اُستعملت، وما زالت، في الأدبِ العربيِّ وفي شتّى الكتب والمقالات. حدثَ هذا حينَ طرحتُ سؤالاً تجريبيًّا أضعُ فيه "القدرة الإلهيّة" وجهًا لوجه أمام مسألة الشرّ. سألتُ: تصرّحُ المعتقدات الدينيّة بأنَّ اللهَ كليُّ القدرة، فهل يستطيعُ اللهُ أن يصنعَ الشرَّ أو هل يُمكنه أن يكونَ شرّيرًا؟! انهالت عليَّ فورًا إجابات التّكفيرِ والتحريمِ، وبعدَ عدّة ساعات حُذفَ السّؤالُ من أصلِه وأُنقصَ رصيدي عشر نقاط جرّاء هذه المخالفة. وتكرّر الحذفُ فالمخالفة حينَ طرحتُ سؤالاً حول زواج الصّغيرات الذي يبيحه القرآنُ في آيته الرّابعة من سورة الطّلاق، مع العلم أنّ كلَّ ما يتعلّق بالمسيحيّة واليهوديّة من نقدٍ وشتمٍ يبقى أبدًا دون حذفٍ أو تنبيه!

 

قنعتُ رغمًا عن أنفي بما قسمه أصحابُ الأمر، والتفتُّ إلى الأدبِ فاستللتُ من كتابِ "المُستطرف في كلِّ فنٍّ مُستَظرف" لأحمد الأبشيهيّ بيتًا من الشّعرِ طرحتُ أوّلَه في صيغةِ سؤالٍ ثُمَّ دعوتُ القرّاء إلى إكمالِ البيت، وكانت النتيجة حذفًا جديدًا ومخالفة أخرى. مطلعُ البيتِ يقول: "ليتَ شعري هل بَغَتْ عُلَيَّة؟". والموقعُ أبى أن يقرّح عيونَ القرّاء السّليمة بكلمة "بغت"، فيفسد أخلاقهم العربيّة الطّاهرة. ويحضرني السّاعة قولٌ للإمام الحافظِ ابن قتيبة الدّينوريّ في مقدّمة كتاب "عيون الأخبار"، كنتُ ذكرتُه في الماضي في أثناء حوارٍ مع صديقٍ لي حول ذكرِ العورات، جاء فيه: "وإذا مرَّ بكَ حديثٌ فيه إفصاحٌ بذكرِ عورةٍ، أو فرجٍ، أو وصفِ فاحشةٍ؛ فلا يحملنّك الخشوعُ أو التخاشعُ على أن تصعرَ خدَّكَ وتعرض بوجهِك فإنَّ أسماء الأعضاء لا تؤثم وإنّما المأثم في شتمِ الأعراض وقول الزّور والكذب وأكل لحوم النّاس بالغيب". رحمَ اللهُ أيّام الدّينوريّ!

ويحملنا هذا الأمر على التفكير في الحالِ التي وصلنا إليها، فكريًّا وثقافيًّا وأدبيًّا، فباتت قواعدُ الرّقابة الدينيّة والجنسيّة تقتصُّ من كلِّ ما يخالفُ مقاييسها الضيّقة، فتقتطع من دواوين كبيرِ الشّعراء "المتنبّي" المنشورة تلك الأبيات التي أتت على ذكرِ عورةٍ وفرجٍ حين هجا "ضبّةَ" في قصيدةٍ تسبّبتْ في قتلِ صاحبِها؛ وتغلق أبوابَ التفكيرِ المشرّعة أمام أيّة مسألةٍ تتعرّضُ للهِ وشرائعِه الجامدة. ألم يصدقْ جبرانُ حينَ قالَ بموت اللهِ في قلوبٍ من مثل قلوبِ هؤلاء؟! ألم يصوّر حال الأمّة العربيّة بقولِه: ويلٌ لأمّةٍ سائسُها ثعلبٌ وفيلسوفُها مشعوذٌ وفنُّها فنُّ الترقيعِ والتّقليد؟!

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط