ومافيا الاستبداد والفساد الراسخ
فادي غ. عبدو / Dec 14, 2004

بعد أكثر من نصف قرن من حياة تجربة الخطأ والصواب باهظة التكاليف، ربما يطمح الإنسان بشيء ما مختلف عن كل ما رآه وجربه بنفسه؛ فالرغبة الإنسانية في التغيير هي التي تدفعه لتقييم ما فعل وموازنة التكاليف والفوائد واستقراء مبررات العمل المستقبلي. مفترقات الطرق نقاطُ تحول هامة جداً، بدونها يدخل المجتمع باستقرار مزيف مميت؛ ذلك النوع من الاستقرار هو للقبر فقط.

كان التجمع الليبرالي عبارة عن مجموعة صغيرة من الشرفاء السوريين الذين يبحثون في الواقع السوري عن مكان. تلك هي القصة بكل بساطة. يعتقد الليبراليون أنه يجب أن يكون في سورية مكان للشرفاء. لا يمكن لأم الحضارات ووالدة معظم فلسفات الإنسان وثقافاته، ومسرح المجد الإلهي وحبه غير المتناهي، أن تصبح صحراء الربع الخالي تزينها قرودها الوهابية المقرفة.

إن أفضل طريقة لشرح الأيديولوجية الفاشية للقومية العربية هي المرور عبر فكرة القومية عند ساطع الحصري -الفيلسوف الزائف .. ومفخرة العرب.

إن فكرة "المبدأ الجماعي"، أو The Group Principle، هي الأصل التاريخي لكلمة "فاشية"، أو Fascism بالإنكليزية أو Fascis باللغة اللاتينية الأصلية، والتي تشير إلى نظام سياسي تتميز فيه الحكومة بمركزة السلطة، تحكّم صارم بالاقتصاد والمجتمع، قمع المعارضة بالإرهاب والمراقبة اللصيقة، الممارسة النموذجية للعنصرية، وفكرة القومية المحارِبة. باختصار، هي النظام السياسي الذي يُخضِع الفردَ وحقوقَه جميعها لمصلحة الدولة.

في مواجهة القوميات والجماعات الكثيرة التي رفضت أن تعرّب ذاتها، طور القوميون العرب عقيدة كفيلة بحرمان تلك القوميات والجماعات من أي خيار آخر. في الفترة ما بين الحربين العالميتين، نبذ القوميون العرب بشكل تدريجي المفهوم الفرنسي للأمة على أنها عقد خياري يتشكل من قبل أفراد المجتمع لضمان حريتهم، وأخذت حركتهم تتشابه بشكل متزايد مع مبدأ الأمة الألمانية كأمة طبيعية فوق كل الإرادات الإنسانية تجمعها اللغة والتقاليد: وحدة هذه الأمة هي العامل الوحيد القادر على استعادة عظمتها، حتى ولو كلفت تلك الوحدة التخلي الكامل عن الحرية.

كان على ذلك النضال أن يُقاد ليس فقط ضد الاستعمار، وإنما أيضاً ضد تلك الجماعات التي كان عليها أن تصبح عربية. لم يكن الجميع راغباً لأن يصبح عربياً؛ بل وكان البعض يعلن بصراحة أنهم يريدون أن يكونوا أنفسَهم ومختلفين عن العرب. في حالات كهذه، أعطت القومية العربية لنفسها مهمة تعليم تلك الجماعات الهوية العربية، بالإقناع إن كان ذلك ممكناً وبالإرغام إذا كان ذلك ضرورياً. يقول ساطع الحصري، مفكر القومية العربية الرئيس، "إن كل من يتكلم العربية هو عربي، وكل من ينتسب إلى هذا الشعب بشكل أو بآخر هو عربي. إن كان لا يعرف ذلك، أو كان لا يعتز بعروبته، توجبت علينا دراسة الأسباب التي أدت إلى تلك الحالة. قد يكون ذلك ناتجاً عن جهله ـ عندها علينا أن نعلمه الحق. قد يكون ذلك ناتجاً عن عدم وعيه أو عن كونه مخدوعاً ـ عندها علينا أن ننبهه ونثبته. قد يكون ذلك ناتجاً عن أنانيته ـ عندها علينا أن نعمل للحد من تلك الأنانية."

نذر ذلك الفكر المشؤوم بانجراف القومية العربية بعيداً عن نموذج المجتمع الطوعي الحر. في رفع شعار "تضامن، إخلاص [هو طبعاً قصد هنا طاعة وليس إخلاص، لأن الإنسان السوي يخلص لمبادئ إنسانية وليس لمبادئ حيوانات الغابة حيث القوي يلتهم الضعيف]، تضحية"، كتب الحصري في عام 1930: "النظام الذي علينا أن نوجه آمالنا وطموحاتنا إليه هو النظام الفاشي." فكرة الأمة كجيش مطيع كان لا بد لها أن تستعين بجيش ليصبح التطبيق العملي للفكرة ممكناً، فبدأ التضخم الهائل للجيش باعتقاد أن القوات المسلحة هي المؤسسة الوحيدة القادرة أن تسمو فوق أنانية القبيلة أو العشيرة، وتطبق النظام على الأمة.

عكست عقائد القومية العربية، كما صاغها ساطع الحصري، أفكار الثقافة القومية الألمانية في القرن التاسع عشر. فقد كان يعتقد المفكرون الألمان أن توحيد الأمة هو الهدف الأسمى وعمل مقدس يستوجب إخضاع الإرادة الفردية لإرادة الأمة.. الحركات الحرة ضرب من اللهو، وإذا عارضت إرادة الأمة يجب أن تُقمع.

كانت فكرة القومية عند الإنكليز والفرنسيين استجابة للجهود الفطرية الطبيعية للإنسان لتحرير الدولة المطلقة المستبدة وخلق مجتمع حر قوي خيّر. على نقيض ذلك، سعت فكرة القومية الألمانية إلى عدم ضمان أي تطوير للحكومة أو للحرية الشخصية أو للقانون، وإنما إلى عملية التحرير القومي. عندما كانت الشعوب الغربية تناضل من أجل التجديد، كانت الحرية الشخصية اهتمامها الرئيس؛ في أوروبا الوسطى و الشرقية، كانت الحاجة إلى التجديد تتمركز على الوحدة وسلطة الجماعة.

ذلك هو الإرث الفكري الذي بنى عليه الحصري نظرية الأمة العربية. أوروبا أظلت القومية العربية تجسد عقائد الثقافة القومية الألمانية إلى أن بدأ تراجعها النهائي في نهايات القرن العشرين. فبدأ القوميون العرب، المتخمون بأفكار الثقافة القومية العنصرية والمعادية للحرية، بفكرة إعادة الشباب للأمة العربية، لوحدتها السياسية، لعلمانيتها، ولاستقلالها؛ دون أي ذكر حقيقي للحرية الفردية. في الحالات النادرة جداً التي كان القوميون العرب يذكرون فيها الحرية الفردية، كانوا دائماً يربطونها بوضع الأمة الراهن! اعتقد الحصري أن "الوطنية والقومية فوق كل شيء.. حتى فوق الحرية،"  لذلك لم يكن شكل الحكم يهمه.. انتباه الشعب يجب أن يركز على الوحدة: فدعم القائد القادر على تحقيق الوحدة العربية واجب قومي لكل عربي.

كان الحصري ينعت المجموعات التي لم ترغب أن تصبح عربية باللاواعية، أو حتى فاقدة الضمير. لكنه لم يقدم طرقاً معينة لمعالجة "العرب" الذين "بلا ضمير" من دائهم و"إعادتهم إلى ذواتهم". لم يكن ميشيل عفلق خجولاً إلى هذه الدرجة. عفلق، الذي حملت كتاباته التأثير الواضح لأفكار الحصري، عرّف صراحة ً البطش والقسوة على أنهما أكثر الأدوات نجاعةً لإنجاز التحويل المرغوب: "عندما نكون قاسين مع الآخرين، نعي أن قسوتنا تلك لإرجاعهم إلى ذواتهم الحقيقية التي يجهلونها."! في الحقيقة، لقد عرّف عفلق القسوة على أنها الواجهة الطبيعية التي تعبر عن حب القوميين لأمتهم!.

انتقلت الاعتقادات القومية للحصري إلى الخمسينات والستينات من القرن العشرين وأصبحت شعاراتٍ للحركات القومية التي اجتاحت تلك الحقبة. عندها بزغ انتصارها الساحق على الهويات والأيديولوجيات الأخرى المنافسة، آسرة قلوب وعقول ذلك الجيل من العروبيين المهووسين، الذي كان يؤمن بشدة بالقومية العربية كوسيلة سحرية لتحويل الماضي الباهر (!) إلى مستقبل مجيد.

اخترقت الأفكار الفاشية نفسية القومي، معزَّزة بالظروف السياسية السائدة. اعتقد جيل القوميين في الخمسينات والستينات من القرن الماضي بشدة أن الغرب يقف في وجه القومية العربية بشكل مدروس ومنظم وأنه يرى أن النظرة القومية لأمة عربية مستقلة ومتماسكة هي تيار خطير في وجه المصالح الاقتصادية والسياسية للغرب في المنطقة. فأصبح بذلك الكفاح القومي نضالاً مبدئياً ضد الغرب.

في وسط ذلك الهيجان القومي ظهر ساحر الجماهير و"حبيب الملايين من أنصاف المعتوهين" جمال عبد الناصر، وابتدأت معه تظهر فكرة المؤامرة و التخوين. اعتبر عبد الناصر الغرب عدواً غداراً وخصماً رهيباً للعرب وعقبة كأداء في وجه تطورهم. في خطاباته النارية، ذكّر عبد الناصر العرب باستمرارٍ بماضيهم المجيد (!) وبتفوقهم العسكري والثقافي (!!) على الغرب. استعمل عبد الناصر في كل خطاب من خطاباته كل العبارات القومية الساحرة (أذكّر أن السحر يعني الخداع) للحصري: الإرث العربي المجيد، أصالة وعظمة الآباء، القوة الهائلة للعرب عندما كانوا موحدين، ضعفهم المخزي عندما اختلفوا وتقاسموا إلى كيانات صغيرة، والضرورة الماسة للوحدة الآن ليعودوا أحراراً وأقوياء.

وعد عبد الناصر العرب بالحرية، لكنه طبعاً لم يقصد بأي شكل من الأشكال الحرية الفردية، وإنما تحرير العرب من سيطرة الغرب. لم يكن للحرية والديمقراطية أي مكان في سياسة عبد الناصر، بل ازدراهما واعتبرهما إضعافاً للأمة وخيانة عظمى لها (تصور ذلك القائد الفذ.. وغير الخائن أبداً!!). لقد بررت تقاليد الثقافة القومية المعادية للحرية، والمتلازمة مع العداء ضد الغرب الذي وصل أوجه في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، الحكمَ المركزي في عقول العرب الذي أدى إلى بلورة الشكل الفاشي للحكم المطلق لعبد الناصر. في الحقيقة، جنون العظمة عند عبد الناصر ميزه كقائد عربي نموذجي، ليس فيه من الكرامة ما يشتهيه إنسان طبيعي.  لقد كان عبد الناصر يعي جيداً قدراته الضحلة في الإدارة الاقتصادية والاجتماعية للبلد والشعب؛ فبدلاً من أن يواجه التحديات والأخطار الحقيقية التي تنتظر شعبه وبلده والمبادرة إلى حلها بإشراك حقيقي للشعب، أخذ يسحر الشعب بخطب وشعارات وهمية فارغة ومشاكل خارجية مفتعلة ـ (لم تكن القدرات العقلية لعبد الناصر كافية لاختراع تلك السياسات، فهي كلها مبادئ وأفكار هتلر) لإشباع نرجسيته ولأغراض شخصية بحتة. لا بد هنا من اقتباس ما ذكره النبيل السوري(1) في إحدى كتاباته: "عندما اخترع المدعو جمال عبد الناصر شعاره الأغبى: لا صوت يعلو على صوت المعركة؛ لم يكن المقصود بذلك المعركة مع إسرائيل، التي خسرها ووزير دفاعه، المنتحر عبد الحكيم عامر، بامتياز لا يعادله غير امتياز هذا الوزيرـ الزير في علاقاته الجنسيّة مع أنصاف الفنانات، بل المعركة مع أعداء الفساد الذي استشرى من صلاح نصر إلى أصغر موظف في وزارة الأوقاف!" 

لقد حاول عبد الناصر جاهداً تعميم أسلوبه الفاشي على جميع الدول الناطقة بالعربية، لكن ذكاءه غير اللامع والطريقة الصبيانية في التخطيط للأمور لم يساعداه في قراءة الظروف والمواصفات المتنوعة والمختلفة للغاية لمختلف شعوب المنطقة. يَذكر السوريون إلى اليوم حادثة ً هي بحد ذاتها في منتهى الأهمية لفهم الاستراتيجية الرديئة للقوميين العرب في فعل ما فعلوا على مدى ما يزيد على نصف القرن: خلال زيارة لعبد الناصر لدمشق، قبل الوحدة سيئة الصيت، قام الرئيس السوري آنذاك شكري القوتلي باصطحابه لزيارة بعض المناطق السورية؛ خلال الجولة توقف الرئيسان في إحدى المناطق الريفية، فاستقبلهم أهل المنطقة بشكل حضاري أذهل عبد الناصر، ودعاهم أحد الفلاحين لتناول الفطور في بيته. قدّم الفلاح طعام الفطور العادي الذي كان يتناوله كل فلاح سوري في ذلك الزمان؛ فسأل عبد الناصر باستغراب لئيم نظيره السوري إن كان قد خطط مسبقاً لزيارة ذلك الفلاح؛ فأجابه القوتلي بالنفي وأنه كان سيتناول الفطور ذاته لو دخل بيت أي فلاح في سوريا؛ فأجابه عبد الناصر، حبيب الشعب وقائده المفدى، "كيف يمكنك أن تسيطر على شعب يملك الفلاح فيه هذا الفطور؟"  كان عبد الناصر يؤمن بقوة أنه من المستحيل على قائد بقدراته و كفاءاته الضحلة أن يسيطر على شعب يأكل أكثر مما يأكله شعبه المصري (قطعة من الباذنجان المسلوق أو الطعمية مع رغيف خبز- غداء رئيسي؛ ذلك بالمناسبة يشكل إلى هذا اليوم الوجبة الرئيسة لثمانين بالمئة من الشعب المصري؛ ليس لأن البلد فقيرة، ولكن لأن الثقافة الناصرية المشبعة بالعنصرية والطبقية هي المسيطر الوحيد والمطلق.) 

كانت الأجهزة الأمنية التي ابتكرها عبد الناصر الركيزة الأساسية لحكمه (تلك أهم المجالات التي يستثمر فيها القومي العربي كفاءاته) والضرورة التي لا بد منها لتجسيد شكل الحكم وفلسفته التي عُرضت أعلاه. الشكل المقيت للأجهزة الأمنية الناصرية هو إرث عبد الناصر الأهم الذي عممته مختلف الدول الناطقة بالعربية والمسؤول الأوحد عن التشويهات العميقة التي أصابت التركيبة التاريخية والحضارية والاقتصادية لمجتمعات المنطقة والتي أدت بشكل طبيعي إلى الأمراض والمشكلات المزمنة التي تتلوى بها شعوب وقوميات المنطقة.

نهجت مسيرة حزب البعث، القائد الآخر لفكرة القومية العربية، مساراً موازياً. فقد ركز مفكرو الحزب كل طاقاتهم البشرية على الوحدة العربية والنضال ضد الاستعمار، لكنهم لم يعيروا أي اهتمام فعلي لمؤسسات ديموقراطية. ففي حين أكد دستور حزب البعث على مبدأ سيادة الشعب (لم أفهم حتى الآن ماذا تعني هذه العبارة!) ودعم الحزب لنظام الاقتراع الدستوري، أعطى الحزب نفسه دوراً مركزياً في تحديد أهداف الحريات السياسية ومداها وكيفية ممارستها (لم أفهم حتى الآن كيف يمكن تطبيق ذلك!)، مخترعاً بذلك نموذجاً للديموقراطية والحرية لا مثيل له في العالم! لقد طُبقت أفكار عفلق منذ البداية في نظام حكم مطلق، حيث تحقيق الذات الفردية يتم بالمشاركة بالإرادة العامة للشعب، وحيث حرية الشعب مرتبطة بالنضال ضد الاستعمار وليس بالحرية الفردية (لم أفهم حتى الآن ما العلاقة بين النضال ضد الاستعمار والحرية الفردية!.)  وقد أدى تغلغل الحزب في الحياة السياسية في سوريا في العقدين السادس والسابع من القرن الماضي إلى تعزيز تلك التوجهات المتطرفة. وفي المؤتمر القومي السادس للحزب عام 1963، رفض الحزب بشكل قاطع وإلى الأبد فكرة البرلمانات الحرة، وتبنى مفهوم الديموقراطية المركزية (لم أفهم حتى الآن كيف يمكن أن يكون هناك ديموقراطية ومركزية في آن!) الذي كان معتمداً في الاتحاد السوفييتي، مرتكزاً على مبدأ دور الحزب كمؤسسة سياسية طليعية في الدولة.

لقد توالت على الشعب السوري حقبات تاريخية لا يُحسد عليها. فبعد الحضارة فائقة التطور التي كانت تناطح أعتا حضارات العالم، جاء الغزو العربي الإسلامي ببربرية صحراوية مفعمة بالإرهاب كانت قرونه القاسية الطويلة جداً كافية لمسخ وطن الحضارة الأقدم ببيئة بدوية قاحلة تتلوى بلهيب ثقافة السيف والمبادئ الملتوية والخطابة الجوفاء؛ لتختتمها أربعة قرون من الحكم العثماني الوحشي نقلت إنسان بلد الكلمة من مرتبة الشبيه بخالقه إلى أسوأ درجات العبودية التي زجت به إلى مرتبة أدنى بكثير من الكائنات الأخرى. رحل المستعمرون العثمانيون تاركين إرثاً رهيباً من التخلف والجهل يصعب على أعند المجتمعات وأقواها معالجته.  لقد كان الانتداب الفرنسي العامل الأوحد الذي أتاح لسورية ولبنان الأخذ من رمق الحضارة والبدء بنفض الغبار الثقيل الذي أنهكهما. كان العمل الفرنسي مفعماً بالحيوية والديناميكية، فاستطاع في أقل من ربع قرن بناء قاعدة دستورية، ديمقراطية، اقتصادية، اجتماعية، وزراعية فائقة التطور قذفت بسورية من بلد الحرملك والزلملك قبل الفرنسيين إلى أقوى دولة اقتصادية في آسيا عام 1953 (أذكّر أن اليابان والصين والهند وكوريا الجنوبية دول آسيوية.) ذلك ما يسميه الإسلاميون وبعض العروبيين المعتوهين استعماراً!

غيّـر حزب البعث في سورية الدستور، الذي كان أصلا ً مرتكزاً على القانون الفرنسي الذي يزخر بثلاثمائة عام من التراكم الحضاري الإنساني والذي يعتبر الإنسان غاية كل تطور أو نشاط يقوم به المجتمع. الطامة الكبرى كانت في أن التغيير المذكور تم من قبل حفنة من البعثيين الجهلة المشبعين بالعنصرية (معظمهم لا يزال يقبع في منصبه بوقاحة لا توصف)؛ حيث لم تتجاوز خلفية أغلبهم الشهادة الابتدائية، والنادر منهم كان يحمل البكالوريا أو شهادة اشتراها من معهد محلي أو أجنبي ـ كل ذلك بذريعة تمثيلهم للعمال والفلاحين.  بذلك فُصّل القانون والدستور في سورية على مقاسات طبقة من العروبيين الاستبداديين مسخت مجتمعاً ـ منهكاً أصلاً ـ بمؤسسات لصوصية مقدسة كرست مبادئ هي من أردأ ما أنتجته المجتمعات البشرية.

لقد أدى مجمل تلك الظروف التي قبعت سنوات طويلة جداً إلى بلورة ثقافة من الأنانية والغوغائية، كانت الأجهزة الأمنية المحور المطلق فيه. فقد أخذت تلك الأجهزة بالتوالد والانشطار (بطريقة شبيهة بالانشطارات النووية،) والتقولب على مقاس الشخص الذي تشكل الجهاز (أو الفرع) لأجله. وعلى الطرف الموازي أخذت تتشكل محاكم لا نظير لها في العالم، على شاكلة محاكم أمن الدولة والأمن الاقتصادي والأمن العسكري.. إلى آخر تلك القائمة السوداء المهزلة.  لم تكن تلك المحاكم غير دستورية وحسب، بل وشكلت ممارساتها على أرض الواقع الضربة القاضية لأهم دعامات دولة القانون ـ القضاء.

في الحقيقة، كانت تلك التشكيلة ضرورية لمن يسموا أنفسهم بعثيين عروبيين لاحتكار هوية الوطن والتصرف على أهوائهم وبناء منظومة الفساد العتيدة أن تأكل الأخضر واليابس. تبلورت في البلد مفاهيم استعصت على الإنسان الطبيعي فهمها، و بدأت المتناقضات تسوّق نفسها بالوقاحة العربية المعهودة. كان على الإنسان السوري أن يقف من أربع إلى ثماني ساعات على أبواب ما كان يسمى بالمؤسسات الاستهلاكية ليحصل على كيس فيه بضع من الليمون نصفه غير قابل للاستهلاك البشري؛ وفي طريق رجوعه المظفر إلى منزله يجد أمام مكتب عبقري زمانه عبد الحليم خدام (ص) عدداً من السيارات الفارهة (اللمبرغيني والبورش والمرسيدس) بقيمة تتجاوز مليوني دولاراً أمريكياً. أيضاً، على الإنسان السوري أن يرضى ببنية تحتية مهترئة هي الأسوأ في العالم، وفي المقابل يواجه أينما تحرك في طول الوطن وعرضه فيلات عبد الحليم خدام وأولاده (رضي الله عنهم وعن آلهم أجمعين) الفارهة، التي كلفتها كافية لتحديث البنية التحتية لنصف سوريا، والتي لم يفكر حتى بيل غيت ببنائها (عذراً من القارئ على المقارنة الظالمة بحق ذلك الكافر بيل غيت!.) لنكون أكثر عدلاً، نذكّر أن خدام (ص) وأولاده (رض) لم يستخدموا كامل قوت الشعب لبناء تلك الثروات الخيالية؛ فقد كان بزنس النفايات النووية التي دفنت في البادية السورية مربحاً أيضاً. على السوري، أيضاً..، أن يؤجل أية فكرة للزواج والاستقرار لعدم توافر أتفه متطلبات ذلك المشروع الحلم، وبالمقابل عليه أن يشهد حفل زفاف ابنة محرر الجولان ومفكر زمانه مصطفى طلاس (ص) بكلفة ذهبت إلى ما وراء المليون دولاراً بكثير. مرة أخرى، ولنكون أكثر عدلاً، نذكّر أن طلاس (ص) وأولاده (رض) لم ينهبوا كامل قوت الشعب بشكل مباشر لتكديس ثرواتهم الطائلة، فقد كان بزنس معامل اللحوم الفاسدة ناجحاً للغاية؛.. ألم يقل مرة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق: "لن يهزمنا جيش يقوده مصطفى طلاس؟" وهل تساءل أحد كيف يمكن لوزير دفاع أن يخصص لنفسه ثلاثمائةٍ من السيارات الفارهة ويحمّل ثمنها على فاتورة الدفاع؛ وكلفة تشغيل كل منها شهرياً لا تقل عن ألفي دولاراً، في بلد يصعب على ثمانين بالمئة من سكانه حتى تغطية مصروف النقل العام التافه الذي أعمى البلد بدخانه الأسود الذي قذف بدمشق لتصبح أسوأ منطقة في العالم بالإصابات السرطانية؟!!

هل حدثك أحد من أصدقائك الحزبيين عن بعض مجريات الاجتماع الحزبي، الذي قد يديره مسؤول قد يصل إلى مستوى نائب الوزير أو حتى الوزير ذاته؟ حسناً.. يلعب مدير الاجتماع دور المرشد الملهم الذي ينقل إلى قطيع الغنم الذي حوله أفكار وأخبار وحي القيادة الحزبية المقدس؛ ثم يبدأ باستخدام ملكاته العقلية والفلسفية، التي منحه إياها ذلك الإله، في تفسير وتوضيح تلك الأخبار والأفكار، مستثمراً جهده في المحافظة على الجدية الضرورية التي تقتضيها قدسية المسألة (هو عملياً لا يؤمن ولا بحرف منها،) التي غالباً ما تكون عظمة الحزب ومنجزاته والعداء للغرب وخاصة لأمريكا، واستخدام الذخيرة اللغوية الغنية جداً في كيل أطنان السباب والشتائم عليها (بالمناسبة، اللغة العربية هي أغنى لغة في العالم بمفردات وعبارات الشتم والسباب،).. إلى آخر الاسطوانة المشروخة إياها. وبعد نهاية الاجتماع، يحدّث أحد الحضور شلّته كيف رأى بنفسه صباح ذلك اليوم عينه ذلك الشخص (معاون الوزير أو الوزير أو المدير العام) يقف على أبواب السفارة الأمريكية ساعات، ثم يدخل ليمسح جزمة أمريكية أملاً في الحصول على فيزا لابنه ليرسله إلى إحدى الجامعات الأمريكية ويهرّبه من الوضع المقرف.. ابنه يرسله إلى أمريكا ليتعلم كيف يصبح إنساناً مفيداً ومهذباً؛ وهو يبقى في البلد ويستمر في لعن أمريكا والغرب، وفي نهب وزارته ليغطي نفقات دراسة ابنه.. ذلك بعضٌ من جودة البعثي وإخلاص العروبي!

لقد أدى التشابه الكبير بين مبادئ البعث والطرق التي جسدها على أرض الواقع وبين الفكر الإسلامي وقناعاته وفلسفاته (الاستبداد، السلطة المطلقة، العدائية ورفض الآخر) إلى إطلاق العنان للإسلاميين المتطرفين بشكل لم يسبق له مثيل، وإلى تغلغلهم السرطاني في المجتمع السوري. على خلاف ما يقوله الطرفان، فقد كان التحالف بينهما وثيقاً للغاية؛ كلاهما يعتبر أي نقد هجوماً على السلطة المقدسة، وبالتالي يجب سحقه: الأول يعتبره هجوماً على " ثلة من البدو لم يتركوا للتاريخ الحضاري الإنساني غير كمشة أشعار تافهة وحكايا قيان وجوار وخلفاء يذبح واحدهم الآخر في سبيل الملك،"  والآخر يعتبره هجوماً على "رموز الفساد الراسخ" والأغاني والأشعار البعثية المثيرة للتقيؤ! بالمناسبة، الفساد المستشري في سورية ليس اختراعاً بعثياً على الإطلاق، فهو إرث إسلامي يعود في عراقته إلى أزمان الخلافة الحنيفة؛ إذ يطلعنا التاريخ الإسلامي على الإرث المادي الذي كان يتركه كل من أولئك الخلفاء بعد مقتله، والذي إذا ما أردنا معادلته بما يقابله في هذه الأيام، وصلنا إلى أرقام تفوق التصور، لا يمكن حتى مقارنتها بما ينهبه رموز الفساد السوري اليوم.

نموذج الحكم البعثي، حيث الشح الفكري في أسوأ مستوياته، هو النموذج الوحيد الذي يطور تربة مريحة وخصبة جداً لنمو أصحاب العمامات النتنة، من أمثال شيخ التطرف والإرهاب السوري محمد سعيد البوطي وغيره من مثيري الطائفية بطرق و قِناعات في منتهى الخبث. في مقالته "الحصن الخفي" التي نشرها موقع مرآة سورية الالكتروني في الثاني من نوفمبر 2004 (لن تأخذ من القارئ وقتاً كبيراً لقراءتها، فنصفها صلوات وسلامات على المصطفى،) يهدد البوطي بسماجة ووقاحة لا توصفان المجتمع السوري من أية محاولة للحد من نشاطه الإرهابي، ويلوّح بالعصابات التي يستقدمها من بلاد الحقد والتخلف والتطرف والقتل، فهي له "حصن مهم جداً و لكنه غير مرئي."  هل سينجح جهابذة الأمن السوري في فك طلاسم ذلك الإرهابي الـ بن لادني القذر؛ أم أن كل ما يقوون عليه هو اعتقال النبيل السوري وغيره من الذين يحلمون بأن تصبح سوريا "الأجمل والأنقى والأطهر في العالم؟" لو كان البوطي في بلد يحترم نفسه، لأدت قطعة واحدة من كتاباته إلى حرمانه من جنسيته في ثلاثة أيام. في بلد البعث، هو ليس فقط المسؤول بلا منازع عن وكر الإرهاب الأخطر (أو كلية الشريعة بدمشق، لا فرق،) بل ويعتبر أحد أهم الأشخاص في سوريا الذين يقيّمون تصرفات وأفكار المثقفين السوريين، إلى جانب ضرغام وعرسان وفلحوط وغيرهم من ثلة الغباء المخجل.

عندما يجد الإنسان نفسه تحت ضغوط تفوق طاقته، يواجه الموقف بما يبرع فيه..

(1) نبيل فياض، في مقالته "إصلاح ما بعد الموت"

==================

فادي غ. عبدو ـ كندا

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط