بسام درويش / Aug 23, 2007

كل شيء في هذه الحياة يحتاج إلى شكلٍ من أشكال الصيانة.  والصيانة كما نعرف، لا تعني إصلاح ما عَطِل فتوقف عن العمل، بل ما نقوم به لكي نضمن استمرار شيءٍ ما على تأدية عمله بأفضل صورة، أو لغاية المحافظة على رونقه. 

السيارة مثلاً، تحتاج إلى أعمال صيانة دائمة، وإلا فإنها قد تتوقف عن العمل فجأة فيكلّفنا إصلاحها مبالغ كبيرة، أو ربما تكلفنا حياتنا!

البيت أيضاً يحتاج إلى أعمال صيانة، بسقفه وبلاطه وجدرانه ونوافذه وكل آليّاته لا بل حتى مجاريره.

المفروشات بحاجة إلى مسح غبارها والأحذية بحاجة إلى دهان وتلميع. 

أجسادنا بحاجة إلى صيانة، سواء كان ذلك بإجراء فحوصات طبية روتينية أو بالقيام بتمرينات رياضية. 

 

وغنيٌّ عن القول، إنّ أعمال الصيانة هذه لا تعمل على إطالة عمر الأشياء فقط، إنما تجعلنا نشعر بمتعة أعظم باستخدامها أو امتلاكها، لا بل غالباً ما نتفاخر بها ونتبجح بخبرتنا في الحفاظ عليها وخاصة فيما يتعلق بصحتنا وكمال أجسامنا.

*******

لا شك في أن معظمنا يقوم بأعمال صيانة كهذه.  ولا شكّ في أن بعضَنا أكثر من غيره مهارة أو اهتماماً بالقيام بها. ومن المؤكّد أيضاً أنّ هناك منّا من لا يعيرها أيّ اهتمام!..  أما ما لا شكّ فيه أبداً، فهو أنّ القليل القليل منا يدرك، أن هناك في حياتنا أموراً أمسّ حاجةً لأعمال صيانةٍ دائمة رغم معرفتنا بأن قيمتها لا تقارن بأيّ شيء آخر؛ وأعني بهذه الأمور الأخرى، علاقاتنا الإنسانية التي تربط كلاً منا مع الآخر.  لا بل إن بعضنا يهتمّ بصيانة لمعة حذائه أكثر من اهتمامه بصيانة علاقته مع الآخرين. 

 

هذه العلاقات الإنسانية لا تختلف عن الأشياء التي نقتنيها من حيث حاجتها لأعمال صيانة دائمة، وإلا فإنها هي الأخرى تصبحُ عرضة للصدأ الذي يمكن أن يأكلها أو للغبار المتراكم أن يفقدها رونقها. الفرق بين الاثنتين هو أن تعطّل العلاقات ومن ثم خسارتها لا يُقارنُ على الإطلاق بخسارتنا للمقتنيات المادية.

 

 للأسف، إنّ معظمنا يعتقد بأنّ المناسبات الكثيرة التي تحفل بها أيام السنة هي فرص جيدة لإزالة الصدأ ورفع الغبار، أو بعبارة أخرى، لتجديد شباب العلاقات. ففي يوم الأمّ، على سبيل المثال، تزدحم محلات الهدايا والورود والمطاعم بالأولاد أو بصحبة آبائهم، والكلّ يسعى لتكريمها، سواء كان ذلك بباقة زهورٍ أو زجاجة عطر أو علبة شوكولاتة أو وجبة طعام... وطبعاً بالقبلات! 

خلال يومها هذا، يبذل كل فرد في العائلة أقصى جهده كي يتحمّل أية كلمة تقولها.  لا أحد يريد أن يفسد المناسبة بجدال أو مناوشة كلامية!   وبانتهاء اليوم، يعتقد الكلّ أنه قد قام بواجبه تجاهها. 

في اليوم التالي، تعود إلى مطبخها أو روتينها اليومي، ويعود الوضع كله إلى ما كان عليه!

 

الأمر نفسه يمكن أن يُقالَ عن يوم الأب أو عيد ميلاد الابن أو الابنة أو ذكرى الزواج أو عيد الحب أو أي عيد ديني أو مناسبة شخصية. 

 

هل الأعياد والمناسبات هي حقاً فرصة جيدة، أو الفرصة الأفضل، لصيانة العلاقات؟

************

كنت وصديق لي نتبادل الحديث عن شؤون العائلة، فتطرقنا إلى موضوع الأولاد وشؤونهم وشجونهم ومتطلباتهم، فقال الصديق: "إنّ ابني يحلم منذ مدّة بالحصول على كاميرا من النوع الذي يستخدمه محترفو التصوير؛ وأنا افكّر في شرائها وتقديمها له كهدية في عيد الميلاد القادم، وإني متأكّد أنّه سيسعد بها كل السعادة."

 

صمتُّ لبرهةٍ ثم سألت الصديق: "هل غايتك من هذه الهدية حقاً إسعاد ابنك؟"

نظر إليّ وعلامات الدهشة والحيرة تغمر وجهه ثم قال: طبعاً، وهل تعتقد أنه لن يسعد بها؟

 

بكل تأكيد سيسعد بالهدية، قلتُ لصديقي. سيسعد أيضاً بمبادرتك بتحقيق أمنيته وسيقدّر لك ذلك. لكن، وإذْ ربما ستستمرّ سعادته بالكاميرا ما دام يستخدمها ويستمتع باستخدامها، فإنّ سعادته بمبادرتك لن تعمّر طويلاً وسوف تتبخر بعد فترة من الزمن، وغالباً ما يكون ذلك على أبعد حدٍّ بحلول العيد في السنة التالية، وخاصة إذا كانت هدية العيد في السنة التالية أقلّ قيمة!

 

تابعتُ حديثي وأنا أرى علامات الحيرة تتضاعف على وجه صديقي وقلت:

أنا لا أقصدك أو ابنك يا صديقي إنما الناسَ بشكل عامٍّ وأنا منهم وهذه الخاطرة شائعة تمرّ بفكر كلّ منا.  إنه حقاً لأمرٌ جميل جداً أن تفكّر بتحقيق أمنية ابنك بشراء هذه الكاميرا وتقديمها له في العيد؛  لكن، إذا كانت غايتك من شرائها وإهدائها له هي إسعاده حقاً، فما رأيكَ لو دعوته للخروج معك ثم فاجأته باصطحابه إلى محل لبيع الكاميرات، واشتريت له الكاميرا التي يفضلها ـ ولا شك أن هناك واحدة معينة في فكره ـ ثم قدمتها له هدية بلا مناسبة.

 

هديتك له في عيد الميلاد سيشير إليها في أغلب الأحوال على أنها "هدية جاءتني في عيد الميلاد"، أما هذه، فسيشير إليها بكل تأكيد على أنها "هديّة قدّمها لي أبي ـ أو أهلي"؛ ولسوف يذكرك حتى بعد أن يستبدلها بواحدة أخرى.

 

للأسف، إنها عادة شائعة جداً لكن ليت الأمر يقتصر على تأجيل الهدايا. في الواقع، نحن غالباً ما نؤجّل حتى التعبير عن عواطفنا ـ بعضنا تجاه بعضٍ ـ إلى الأعياد والمناسبات أيضاً.

 

إنّ وردةً واحدة نشتريها أو نقطفها من حديقتنا ونقدمها ـ دون أية مناسبةٍ ـ إلى الزوجة أو الأم أو الابنة أو الأخت، مع عبارة صغيرة مثل "مع حبي" أو "لقد رأيتها ففكّرت بك".. لهي أفضل من باقة كبيرة من الورد نقدمها لإحداهن في مناسبة من المناسبات؛  وكما أن لهذه الوردة تأثيراً أعظم من أية باقة في عيد، كذلك يكون تأثير الكلمة الحلوة التي تعبر عن مشاعر الحب أو الثناء أو التقدير عندما نقدمها لهنّ أو لغيرهنّ دون مناسبة على الإطلاق.

 

الهدايا التي نتبادلها في المناسبات ليست سوى مجرد تقليد نتبعه. لذلك، فإنها حتى ولو جاءت أعظم قيمة من التوقعات، تبقى أمراً فارغ المضمون. إنها في الحقيقة لا تختلف كثيراً عن الراتب الذي يتوقع الموظف أو العامل أن يستلمه في نهاية الأسبوع أو الشهر. هي كالزهور الاصطناعية التي لا تفوح منها إلا رائحة القِدمِ والغبار المتراكم عليها، لا بل حتى عبارات الحب أو التهنئة التي نتبادلها في هذه المناسبات لا تختلف عن الزهور الاصطناعية، لأنّها هي الأخرى تفتقد رائحة الطبيعة.  

************

على الرغم من أننا لا نفتأ نتّهم الشركات بأنها أفقدت هذه الأعياد والمناسبات معناها الحقيقي بتحويلها إلى مهرجانات تجارية، فإننا في الحقيقة لا نختلف عنها في هذا الأمر كثيراً. إننا نحن أنفسنا نقوم بدورنا أيضاً باستغلالها تجارياً لخدمة مصالحنا الشخصية.. وللأسف، مع أقرب الناس إلينا!.. معظمنا يعتقد أنّ المحبة ستكون على مقدار قيمة الهدية أي أنه كلما ارتفع ثمنها زاد مفعولها.

 

لا شكّ في أن الأعيادَ والمناسبات الشخصية هي فُرَصٌ جيدة للعائلات تلتئم فيها، وخاصة تلك المتباعدة بعضها عن البعض الآخر. لكنّ حياتنا اليومية تزخر ـ وعلى مدار السنة والساعةِ ـ بالفرص الكثيرة التي يمكن أن نجعل من كلٍّ منها أعياداً ومناسباتٍ بكل معنى الكلمة. من أهمّ هذه الفرص التي نفوّتها، هي فترة نصف الساعة ـ أقل أو أكثر ـ التي نقضيها حول مائدة العشاء.  للأسف أيضاً، إنَّ معظمنا يعتقد أنّ العشاء هو الوقت الأكثر ملائمة للعائلة كلها لمشاهدة عرض تلفزيوني!

***********

إنه لمن المستغرب أن نُبدِعَ بانتهاز كل فرصة لصيانة علاقاتنا مع مدراء عملنا بإبداء مشاعر غالباً ما تكون غير صادقة، بينما نجد صعوبة في تجسيد عواطفنا ـ رغم صدقها ـ لصيانة علاقاتنا مع من هم أعظم أهمّية في حياتنا من المال والعمل. 

لنتذكّر غداً عندما نستيقظ، أن أعمال الصيانة بيننا وبين كل من تربطنا به علاقة من العلاقات، تبدأ مع أول لحظة من لحظات اليوم الجديد.  بسمةٌ صادقة على وجوهنا نستهلّ بها النهار.. ضمّةٌ إلى صدر.. قبلةٌ على جبين.. كلمةٌ حلوة... أمورٌ لا يجوز تأجيلها إلى مناسباتٍ لأنها آنذاك ستكون قد فقدت رحيقها. 

*************

*****

 

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط