هشام محمد / Dec 27, 2009

يلومني أحد الأصدقاء لكوني أُكثِرُ من الحديث عن التاريخ والدين والموتى اكثر مما اتحدث عن قضايا العصر وهموم الإنسان اليومية.  يقول لي: ما الفائدة من النبش في قبور الغابرين، وما العائد من فتح الجروح القديمة؟  أليست قضايا الفساد والتخلف والبطالة والجهل هي الأجدر بالنقاش بدلاً من الكلام عن الماضي؟  وردي على مقولته هو أن التفتيش في دفاتر الأمس، والتنبيش في قبور الموتى ليس بمضيعة للوقت، ولا هو بترف فكري.  إن من لا يعرف حقيقة ما استدبر من امره لن يعرف ما هو مقبل عليه.

 

ملامة صاحبي لي لا تختلف عن ردة فعل الكثيرين ممن ينزعجون عندما يقرأون في مقالة، أو يستمعون إلى حديث، يجتريء على التابوهات، ويضع المقدس في ميزان النقد.  صديقي يشبه الكثير ممن لا تجتذبه قضايا العصر ولا تعنيه هموم الإنسان الحياتية، ولكنه يضطر إلى استدعائها في كل مرة يسكب فيها الملح على جراح التاريخ.  التذرع بقضايا الفساد والبطالة والطائفية والقبلية وما شابهها يعد بمثابة كلمة حق يراد بها باطل.  كلما وضع المقدس على طاولة النقاش، تذكر هؤلاء أرقام البطالة المتنامية ومعدلات الفساد المتزايدة.  ما سلوكهم هذا إلا نزعة دفاعية لحماية المقدس الطاهر، والحفاظ على التاريخ الباهر، وصيانة شخوصه الملائكية مما قد يخدش كل تلك العظمة ويشوه هذا الجمال.  إن ردة فعلهم هذه لا تختلف في شيء عندما يقولون لك للحؤول دون تعرية ماضيهم: أين الوثائق والمراجع التي تدعم مزاعمك. فإذا وضعنا تلك الوثائق والمراجع بين ايديهم قالوا: هذا كذب وافتراء...تلك اسرائيليات!  إنهم فقط لا يريدون المساس بعبادة الأسلاف.  إنهم يخافون لو خسروا الماضي فلن يبقى لهم شيء يحيون به.  فلا الحاضر ولا المستقبل يحمل بشائر تهفو لها النفس وترنو.

 

أراهن أن صديقي هذا، ومثله كثير منا، لا يملكون أمام تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والصحية، وأمام تزايد مؤشرات الفساد سوى الهمس بكلمات من وراء الأبواب المغلقة.  اخشى أن اقول أنهم يتصرفون بلا مبالاة أمام هذا الفساد المستشري الذي ينخر في عظام مؤسسات الدولة.  لا أرجو من هؤلاء البشر أن ينتفضوا على غلاء المعيشة وانسداد الفرص الوظيفية واختلاس المال العام ونهبه وفساد القضاء وتدهور الخدمات الطبية وما إلى ذلك.  وكيف نرجو من طائفة من البشر اعتادوا ثقافة التواكل، وتلبسوا روح الاستسلام والخنوع، أن يثوروا على أوضاعهم البائسة وأحوالهم الهزيلة.  لقد تحولت مجتمعاتنا إلى قطعان من الحيوانات الأخروية الشغوفة بالموت وما بعد الموت أكثر من اهتمامها بالحاضر وحياتها على وجه البسيطة.

 

  قبل مدة كتب أهل أحد الأحياء في الرياض خطاباً نشرته جريدة يومية يطالبون فيها الحكومة ببناء مسجد جديد بالرغم من وجود سبعة مساجد كبرى في الحي!  أهل الحي قلقون من عدم اكتظاظ الحي بمساجد، أكثرها كالزائدة الدودية، ولم تشغلهم أبداً سوء طرقات الحي ومستنقعاته الآسنة وكثرة شوارعه المحفورة لشهور طويلة.  ومنذ اسابيع قليلة غرقت مدينة جده في مياه الأمطار.  سقطت الأمطار حوالي ساعتين فمات ما يربو على المائة، وجرفت السيول مئات السيارات، وغرقت البيوت، وضاعت الأرواح والممتلكات.  لو سقطت تلك الأمطار في أي مدينة في العالم لما حدث ما حدث.  كانت أمطار جده كارثة بشرية فوق الوصف، وفضيحة إدارية ربما ستمر بلا عقاب.  جاءت تلك الأمطار لتعري فساد ذمم المسؤولين، وتفضح سرقاتهم للمال العام بلا حياء ولا رادع.  هل تعتقد أن أهل المدينة قد هبوا هبة رجل واحد، وطالبوا بمعاقبة المسؤولين؟  لا طبعاً.  من يجرؤ على الكلام؟  ربما عدت هذه الكارثة من باب العقاب الآلهي.  هذا بالطبع ما انتهى إليه المتدينون الذين يجدون في كل مآساة فرصة لتفريغ ما في نفوسهم من هلاوس دينية مرضية.

 

 أهل المدينة لم يشعروا بألم جراء فقدان اعزاء لهم وضياع ممتلكاتهم.  لقد شعروا فقط بالألم عندما خرج شاب سعودي في قناة (ال بي سي) اللبنانية ليتحدث عن ممارسته للزنا مع بنت الجيران.  جن جنون بيوت كثيرة، وتدافعوا لرفع مئات الدعاوى أمام المحكمة لتوقيع اقصى العقوبة بهذا الشاب الأخرق.  على ما يبدو فإن مفاهيم من نوع: الزنا..العرض..غشاء البنت..العار..خصوصية السعودية، بما تحمله تلك العبارات من ثقل ديني واجتماعي هي ما جعلت الدماء تفور في عروقهم وتغلي.  أما أن تفقد أهلك ومالك وعقارك فهذا لا يستدعي في أحسن الأحوال سوى ترديد: حسبنا الله ونعم الوكيل!

 

وباعتقادي أن جزءاً كبيراً من الضجة التي صاحبت مقتل مروة الشربيني في المانيا يعود إلى مسألة الحجاب.  لا أحد يتحدث عن مقتلها دون أن يفك ارتباطها بقطعة القماش تلك.  اجزم لو أن من قتلت كانت لا ترتدي الحجاب لما ثارت ثائرة المصريين وبقية المسلمين.  إن جزءاً كبيراً  من التعاطف مع تلك المغدورة يعود إلى الحجاب بما له من ثقل تاريخي ومركزية دينية لا غنى للمسلمة عنه في زمننا هذا.

 

ما الذي أرمي إليه من استحضار تلك الوقائع؟  أريد القول أن الناس لا يحركها إلا الدين بطقوسه ورموزه وحكاياته وخرافاته ووعده ووعيده.  عندما يطالبني صديقي بعدم الخوض في الماضي لانتفاء الفائدة منه فإن القصد منه هو حماية هذا الماضي من أي تهديد.  ذاك الماضي ليس برفات وخيط رماد.  إنه حي وحاضر ومتجلي فينا.  اجزم أن اكثرنا على استعدادا للخروج في مظاهرة لو قيل لهم إنَّ رجلاً ما من بلاد منزوية على الخريطة قد تناول بالفحش الحميراء عائشة بنت أبي بكر.  إنهم على اتم الاستعداد للخروج وللصراخ ولإشعال الحرائق وإلقاء الحجارة والمطالبة بالمقاطعة الاقتصادية دفاعاً عن الأموات.  هل سمعتم مرة أن السعوديين خاصة والعرب عامة قد خرجوا في مظاهرة يطالبون فيها بمحاكمة وزير فاسد أو بتحسين أداء خدمات الصحة أو التعليم؟  لا تسعفني ذاكرتي بشيء سوى آيات شيطانية..رسوم النبي الكاريكتورية..الحجاب في فرنسا...تدنيس القرآن في غوانتينامو..مقتل مروة المحجبة..وحظر المآذن في سويسرا..والقائمة تطول.  أترى؟  ما من من مرة يزبد فيها ويرعد العربي / المسلم إلا وكانت الرموز الدينية هي من توقظه من رقاده.  وحتى يأتي قرار أو منتج أمريكي أو أوروبي يستفز مشاعر المسلمين ويشعلها...نتمنى لهم أحلاماً سعيدة!

affkar_hurra@yahoo.com

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط