هشام محمد / Jan 06, 2010

أشرت في مقالة سابقة بعنوان "محامو الأموات" إلى أن صاحبي قد عاب علي كثرة الحديث عن الدين وأعلامه وتعاليمه.  يقول لي أن لدينا من الهموم والقضايا ما يجدر بنا أن نخصص لها جهودنا، ونوجه لها طاقاتنا، بدلاً من مشاكسة التاريخ ومشاغبة الموتى.  ثم أني علقت على مقولته تلك بأنها محاولة يائسة لحماية ذاك الماضي المقدس، وتطويقه بجدار اسمنتي لئلا يتسرب إليه الشك والقلق.  إن كلمات صاحبي تشبه كلمات أولئك الذين إذا ما ذكرنا قيادة المرأة لسيارتها، قالوا: وماذا عن البطالة بين الشباب؟  وإذا ذكرنا حرية التعبير والتفكير، قالوا: وهل انتهينا من قضايا الغلاء والفساد؟  وإذا ذكرنا السينما والمسرح، قالوا: وهل فرغنا من قضية فلسطين؟  كأن الحديث عن المرأة وعن الحريات وعن الفنون لا مكان لها في ظلال فلسطين الأسيرة!

 

ما يضحك حقاً أنهم يقولون إذا ما حاصرتهم بالعقل والمنطق والحجة: "تلك مسائل ثانوية، لا قيمة لها  في وسط عالم يموج بالتحديات والصراعات".  حسناً، إذا كانت المرأة والحرية والفنون مسائل تافهة، ولا وزن لها، كما يدعون، فلماذا ينشغلون بمحاربتها والتضييق عليها والتصدي لمناصريها؟  لماذا لا ينشغلون بالقضايا الكبرى التي تليق بهاماتهم؟  لماذا يهدرون أوقاتهم الثمينة وجهوداتهم المتميزة فيما لا نفع منه ولا ضر؟  الإجابة ببساطة أن محاربة المرأة والحريات والفنون هي بضاعتهم الكاسدة في هذه الدنيا.  لو سكتنا عن نصرة المرأة، وعن المطالبة بحرية التعبير والتفكير والاعتقاد، وعن تشجيع الفنون ودعمها، لما سمعنا لهم صوتاً يحارب من أجل مكافحة الفساد، ومن أجل محاربة الغلاء، ومن أجل تحجيم البطالة.  الحق أننا لن نسمع لهم صوتاً ما داموا صدىً لمن ماتوا منذ مئات السنين.

 

لندع هذا جانباً، ولنتحدث عن شيء آخر ذي صلة بموضوع مقالتي السابقة.  عندما يطالبني صاحبي بصرف جهودي لمناقشة قضايانا الراهنة (مخافة) المساس بقدسية التراث الديني، فإنه كغيره لا يدرك أن التعاطي مع شؤون الساعة لا يتم دون استكناه دور الدين في صنع الوقائع الحياتية وفي صيرورتها.  شئنا أم أبينا، الدين لدينا عنصر أساسي، ومتحكم في خلق وإدارة وتوجيه الكثير من الظواهر الاجتماعية والاقتصادية.  في مرات كثيرة، شكا لي صاحبي معاناته ومعاناة أهله من مشاكل السائق الأجنبي الذي يتولى توصيل أمه وأخته.  وفي مرات كثيرة، شكا لي متاعب أهله في ايجاد وظيفة ملائمة تليق بأخته وبشهادتها الجامعية في الكيمياء.  من تسبب في فرض السائق الأجنبي؟  ومن تسبب في معاناة أخت صاحبي في الحصول على وظيفة مناسبة؟  لن أقول الدين، ولكن سأقول تزمت رجال الدين لدينا.  اليس هم من يحولون دون قيادة المرأة سيارتها؟  أليس هم من فرضوا على النساء أنواع محدودة من التخصصات الدراسية ومن الوظائف لا يترتب عليها الاختلاط بالرجل؟  قد تقولون على رسلك يا رجل! تلك عادات اجتماعية وليست بأحكام وأوامر دينية؟  وردي على هذا أنكم تحملون العادات فوق طاقتها، كل هذا من اجل تبرئة الدين أو علماء الدين إن شئتم واحببتم.  إن مجتمعنا لم يكن يشكو من رهاب الاختلاط قبل عشرات السنوات إلى أن اختطف التيار الديني البلاد، ونشر فيها أفكاره السامة والمتصادمة مع العقل والفطرة.

 

لنتحدث بتفصيل أكثر، وتعالوا نناقش قضية البطالة مثلاً.  يتحدثون عن قلة المعروض من الوظائف في القطاعين العام والخاص، ويتحدثون عن أفضلية الأجنبي على المواطن، ويتحدثون عن عدم جدية الحكومة في معالجة البطالة جذرياً، ويتحدثون عن أنانية القطاع الخاص وتجاهله لمسؤولياته الوطنية والاجتماعية.  لن اختلف معهم في هذا.  لكني اطالبهم بالذهاب إلى ما هو أبعد من هذا.  اطالبهم بمراجعة زهاء ستة عشرة عام يهيأ فيها الطالب ويجهز علميا وتربويا للدخول إلى معترك الحياة وسوق العمل.  هل سلحت المدرسة والجامعة طلابها بما يفي بمتطلبات سوق العمل واحتياجات رب العمل؟  المؤسسات الاقتصادية تريد خريجين يتحدثون الانجليزية بطلاقة ويجيدون استخدام الحاسبات الآلية.  لا أحد يجادل أن خريج المدارس والجامعات لدينا لا يملك من المهارات والشروط ما تحفز اصحاب الأعمال على توظيفهم.  لو كانت مدارسنا وجامعاتنا تعلم ابناءها ما تحتاج إليه سوق العمل لما وجدت وتكاثرت معاهد اللغة الانجليزية وعلوم الكمبيوتر.  وجود هذا الكم الهائل من تلك المعاهد مؤشر حقيقي على وجود هوة تفصل بين مخرجات التعليم ومدخلات سوق العمل.

 

 ما الذي يتعلمه أبناؤنا في المدارس والجامعات؟  يكفي أن تدرك واقعنا التعليمي من خلال نظرة عابرة إلى حجم ونسبة المواد الدينية ومواد اللغة العربية التي تستقطع حصة الأسد من الجدول الدراسي.  يرى رجال الدين النافذة كلمتهم أن علوم الدين هي (فرض عين) يلزم على الدارس تعلمها وحفظها.  أما العلوم الطبيعية والرياضيات فهي (فرض كفاية) ليس لها من الفضل والأهمية كنظيرتها من العلوم الشرعية.  ماذا جنينا من تدريس الدين؟  لا تقوم دراسة الدين إجمالاً على النقاش والتحليل والتساؤل، بل تعتمد كلياً على الحفظ والتلقين والتسليم.  هذا الأسلوب التدريسي أدى إلى اجهاض التفكير الإبداعي وحرمان الطالب من ممارسة حقه الطبيعي في النقد والتحليل، فأسفر في النهاية عن خلق أجيال عاجزة عن شحذ طاقات العقل وأجيال مكبلة بأغلال الحلال والحرام.  إن الكيفية التي يحقن فيها عقل الطالب بعلوم الدين تنسحب بدورها على باقي العلوم الأخرى، وهذا ما يعكس الأساليب التعليمية البدائية التي كانت سائدة قديماً في عصور الإسلام.  إن مدارسنا وجامعاتنا في آخر المطاف ما هي إلا نماذج مطورة للكتاتيب التقليدية.  إنّ كمية علوم الدين والكيفية التي يتم توصيلها للطالب ليست بالمشكلة الوحيدة، إذ قد اسهمت المقررات الدينية، بما فيها من استعلاء ديني ممجوج، وبما فيها من فكر اقصائي تحريضي، في خلق أجيال متعصبة مشحونة بالكراهية ومتعاطفة مع التيارات التكفيرية الدموية.  فضلاً عن ذلك، فإن مقررات الدين في كافة المراحل لا تعنى بتقويم سلوك الطالب وتهذيبه، ولا بغرس الفضائل والأخلاق، ولا بزرع قيم المحبة والتسامح في نفسه.  مقررات الدين يغلب عليها الفصل الحدي ما بين ثنائية الحلال والحرام ومعرفة الأحكام الشرعية.  لا ننسى أن التمييز ما بين الحلال والحرام لدينا يعكس في النهاية توجهات فقهية وذهنية دينية يهيمن عليها التضييق والإكراه والتحريم.  عندما تشغل علوم الدين واللغة هذا الحيز من حياة الطالب فماذا يبقى للعلوم الأخرى؟  يكفي أن نشير أن تعليم اللغة الإنجليزية التي لا غنى لأي متقدم لوظيفة ما عنها لا تمنح سوى حصتين دراسيتين هزيلتين في مرحلة السادس الابتدائي!  لماذا؟  لإن اللغة الإنجليزية هي لغة الكفار المناجيس، ولأنّ منح هذه اللغة ما هو أكثر سيزاحم لغتنا الجميلة...لغة سيدنا آدم ولغة أهل الجنة!

 

قصارى القول، إنّ كمية ومحتوى العلوم الدينية وآلية توصيلها أدت إلى جملة من التشوهات.  فقد عطلت أدوات النقد وملكة التحليل في عقول أجيال إلا من رحم ربي.  وأسفرت ايضاً عن تكوين عناصر بشرية، إن لم تتلقفها جماعات الإرهاب الأصولي، فإنها على الأقل تتبنى طروحاته وتتعاطف مع عملياته الوحشية وتبررها.  إضافة إلى أنها حرمت الطالب من الحصول على الأسلحة الضرورية التي تمكنه من الحصول على وظيفة في المستقبل.  أرجوا ألا يفهم من قولي هذا أني احمل الثقافة الدينية المسؤولية كاملة في خلق طوابير الشباب العاطل عن العمل.  إن القول بمثل هذا فيه تجن على الحقائق، وهو قول لا يخلو من التعصب المذموم ومن ضيق الأفق.  من المؤكد أن ربط عامل واحد بقضية وطنية كالبطالة فيه قدر كبير من الاستسهال والتسطيح.  أدرك أن القضية على درجة عالية من التعقيد، ولكن للثقافة الدينية السائدة دوراً في صنعها، إلا أن لا أحد يجرؤ على الاقتراب منها خوفاً من ردود الفعل المتشنجة.

 

لقد سقت حتى الآن البطالة كمثال وحيد للتأكيد على أن للدين أو للفكر الديني دوراً لا يستهان به في تفاقمها.  في المقابل هناك اشكالات اجتماعية معقدة أخرى، نعيشها يومياً ونتلظى بنارها، قد ساهمت الثقافة الدينية سلبياً في انتكاساتها.  إن قضاء يوم واحد في السعودية سيتيح لك اكتشاف مدى تورط الثقافة الدينية المتشددة في استبات ظواهر اجتماعية واقتصادية وفكرية مزعجة.  سأسوق لك بعض الحالات، ولك الحرية في أن تضيف المزيد.

 

تعطيل نصف مقدرات المجتمع (المرأة) بسبب الثقافة الدينية المتوجسة دوماً من خروج المرأة من بيتها إلى الشارع.  إن محاصرة المرأة لها انعكاسات سلبية على الناتج الإجمالي للدولة.  لاءات المتدينين لعمل المرأة تؤدي إلى حرمانها من الاستقلال الاقتصادي، ومن رفع المستوى المعيشي لكثير من الأسر والبيوت.  إن نظرة المتدينين المتشككة إلى عقل المرأة وعفافها قد فرض علينا السائق الأجنبي.  وهذا الوضع الشاذ أدى إلى انزلاقات اجتماعية واستنزاف اقتصادي لميزانيات الأسر السعودية.

 

توظيف المساجد في استعداء الآخر، وفي تعزيز الفكر الغيبي الانعزالي، وفي شحن المتلقي بكراهية التوجهات الحداثية والتدين المستنير العقلاني.  لحد الآن، لم يسجل للمسجد أي خطوة تذكر في سبيل رأب الصدع الوطني، وفي التقريب بين مكونات المجتمع، وفي تعزيز قيم العدالة والمساواة والتسامح.  على العكس من ذلك، فقد ظل المسجد يمارس دوره المكشوف في التحريض ضد المختلف، وفي مقاومة التوجهات الاصلاحية، وفي التعامي عن الفكر التكفيري ودموية الجماعات الأصولية.

     

اجبار المطاعم، بأمر من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على تخصيص قسمين منفصلين، أحدهما للعائلات والآخر للأفراد.  قسم العائلات بدوره يجب أن يوفر الخصوصية والعزلة الكاملة لكل أسرة، ربما حتى لا يقع أي مكروه.  هذا الفصل القسري من المؤكد أنه يرهق ميزانيات المستثمرين من جهة، ويحيل تلك المطاعم إلى زنازين تفقد زيارة المطعم أي مذاق ومتعة.

 

اشاعة جو من الكآبة والملل في نفوس الشباب من كلا الجنسين بسبب غياب أماكن الترفية واللهو.  لقد أحالت تلك الثقافة الدينية البلاد إلى سجن كبير بسبب نظرتها القاصرة إلى معاني اللهو والتسلية.  غياب منافذ التسلية كالسينما دفع ببعض الشباب إلى الانحراف الاخلاقي وببعضهم إلى الانغماس في عوالم التطرف الديني.

 

اغلاق المحلات التجارية خمس مرات في اليوم لإداء الصلاة.  إذا استبعدنا صلاة الفجر فإن المحلات تضطر إلى اغلاق ابوابها حوالي ساعتين ونصف يومياُ.  إن ايقاف البيع كل هذه المدة لابد وأن يحرم اصحابها من تحقيق مبيعات وأرباح محتملة.  اضف إلى أن هذا الوضع دائماً ما يتسبب في تعكير أجواء التسوق واهدار جزء ثمين من الوقت انتظاراً للفرج.

=============

affkar_hurra@yahoo.com

 

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط