هشام محمد / Aug 26, 2008

نشر موقع "آفاق" الالكتروني وبتاريخ 20/8/2008 تقريراً مصغراً بعنوان "السعوديون يتعجلون انجاز المدن الاقتصادية وسط مخاوف من سطوة رجال الدين المتشددين". 

أشار التقرير المذكور باختصار إلى أن الحكومة السعودية تنوي اقصاء الحليف الوهابي من مد نفوذه هناك، ومنعه من تلوين تلك الدرر المعمارية بألوانه الباهتة والكئيبة.  أنا لا أتخيل أن هذه المدن الاقتصادية العملاقة بمصانعها وبمراكزها المالية وبجامعاتها وببناياتها ستحوي أقساماً للشرطة الدينية كما هو الحال في باقي محافظات ومدن السعودية.  سيبدو لي مشهد سيارة المطاوعة، وهي تنهب الشوارع الأنيقة، بحثاً عن متقاعس عن الصلاة في المسجد أو امرأة كاشفة لوجها أمام الأغراب صورة كاريكتورية تستحق اللطم والنياح.  لا يمكن لي أن اتخيل مدينة تريد أن تعانق آفاق المستقبل ستقبل بتواجد رجل شرطة وهابي يجر الناس جراً بالسلاسل إلى جنة مليئة بالنساء والغلمان وأنهار من لبن وعسل.  لكني في الوقت ذاته لن أصاب بصدمة فيما لو تسربت تحت الظلام عرباتهم وعصيهم ولحاهم إلى هناك تحت شعار "خصوصية الحالة السعودية" وأن الاسلام الذي ينتصب في شموخ واعتزاز في كل أركان المملكة يجب أن لا يركع تحت أقدام الأبراج الشاهقة بقرونها الشيطانية، كما جاء في الأحاديث الرؤيوية للنبي محمد.

 

Saudi Religious Police 2

 

إغلاق أبواب المدينة في وجوه حراس الفضيلة قد يبدو مسلكاً معقولاً، خاصة وأن بعض الأماكن لا يسمح لرجل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدخولها و"الاصطياد" فيها مثل الحي الدبلوماسي في مدينة الرياض.  غير أني لا اتفق تماماً مع ما ذهب إليه التقرير من امكانية السماح للنساء بقيادة عرباتهم، وبإقامة دور للسينما، وباختلاط الجنسين من الطلاب في مدارس وكليات هذه المدن؟!.  صحيح، أني اتمنى من القلب أن تخلق مدن المستقبل قطيعة مع السائد من القيم الدينية الصدئة والأعراف الاجتماعية الآسنة، لكني أجد صعوبة في ابتلاع هذه الأحلام الوردية دفعة واحدة.  اتخيل أن السماح بهذه "الموبقات" سيحول المدن التي يراهن عليها السعوديون إلى "دار حرب" ومهوى لأفئدة الشباب الحالمين بحوريات الجنة لكي يفجروا أجسادهم في قلب المدينة الملعونة!!  إن القبول بمثل هذه "الكبائر" ليست بداية علامات الفساد التي يجاهد الوهابي لسد الأبواب دونها، بل هي منتهى الفساد، لا بل هي الفسوق والفجور بشحمه ولحمه.  إن ملامسة فخذ طالبة لفخذ طالب يستوي مع بناء كنيسة على أرض الحرمين، وقيادة المرأة لسيارتها يعادل الزنا وانفلات الضوابط الاخلاقية، ومشاهدة فيلم أجنبي في السينما مع "البوب كورن" هو الارتماء في أحضان الغرب الكافر والشيطان بعينه.  لكن مهلاً! هل يصدق حقاً الوهابي المرتعش أن كل الآباء سيقبلون بأن تدرس بناتهم جنباً إلى جنب مع الأولاد؟ وهل يخطر ببال الوهابي الخائف أن الأزواج سيحتفلون بالسماح لزوجاتهم بقيادة السيارات؟ السعوديون الذن سيقطنون تلك المدن لم يهبطوا من الفضاء، ولم يتشكلوا معرفياً ووجدانياً في بلدان الغرب.  إنهم هم أبناء الرياض وبريدة والأحساء وحائل وتبوك وجيزان وأبها وباقي مدن وقرى المملكة.  سيذهبون إلى هناك حاملين ذات الأفكار والمسلمات والعادات التي رضعوها من أثداء الشارع والمدرسة والمسجد.  فلا تخف أيها الوهابي ولا تحزن، فكل منا يحمل تحت جلده أصولياً صغيراً له أظافر وأنياب.

 

Saudi religious police 1      

 

إن السماح بمثل هذه الممارسات يسلتزم قراراً سياسياً جريئاً ورغبة صادقة في التغيير.  لا تكفي النوايا الحسنة أبداً في التغيير مالم يرفدها توجه فعلي وحقيقي، لا يقبل المهادنة والمواربة.  غير أن من الملاحظ أن هناك فجوة لا تخطئها العين ما بين تطلعات القيادة العليا وما يجري على أرض الواقع من تطبيقات.  والأسوأ من هذا أن القيادة السياسية ذاتها مصابة بالتشظي، وتفتقد إلى التماسك الداخلي، وتعاني من تنافر الرؤى وتباين الأهداف.  أما المؤسسة الدينية فهي دائماً ما تكشف عن براعة نادرة، صبغت بها على مدار الأيام، في الحفاظ على لحمة الصف، وفي الحماية من التشققات الداخلية.  فضلاً عن ذلك، فإن التوجهات الحكومية غالباً ما تعكس نوعية الأحداث وطبيعة التفاعلات الداخلية والخارجية، وتعبر بشكل غير مباشر عن حالة التوافق أوالتنافر الآني ما بينها وبين المؤسسة الدينية.  وللتدليل على ذلك، فقد اكتسحت الوهابية بشراسة المجتمع منذ مطلع الثمانينات، وبمباركة من السلطة السياسية، بهدف تحصين المجتمع ضد احتمالات تصدير الثورة الخمينية، وتحفيز الطاقات الجهادية في نفوس الشباب المتعطش للجهاد ضد الدب الروسي في افغانستان وقتها.  أما بعد التفجيرات الارهابية الشنيعة التي طالت أمريكا والسعودية، وتوجه أصابع الاتهام للحكومة السعودية لاحتضانها ولدعمها اللامتناهي للفكر الوهابي المتشدد، فقد بدأت الحكومة وعلى استحياء في تقليم أظافر هذا التيار، وبالسماح ببعض التغييرات "الشكلانية" التي كانت يوماً من المحرمات.  نخلص من هذا أن ما يقال عن تحييد السلطة الدينية من فرض وصايتها الفكرية والاجتماعية على المدن الاقتصادية سيبقى مرهوناً بالتوترات السياسية، وبالذات بنشاط الجماعات الارهابية وبتزايد التهديد الشيعي.  وعموماً المسافة من اليوم إلى عام 2020، وهو التاريخ المتوقع لانجاز المدن الاقتصادية، طويلة جداً، وحتماً ستجري مياه كثيرة في النهر، وغالباً ما سيمحو النهار أحلام الليل ووعوده وهمساته.

=================

هشام محمد:   affkar_hurra@yahoo.com

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط