هشام محمد / Jan 20, 2010

إن صح التعبير، فإنك عندما تقوم برصد طبيعة التعليقات والكتابات والتحليلات على الساحة السعودية في تعاطيها مع الظاهرة الأصولية بافرازتها الدموية والكارثية، فسوف تخرج بأربعة اطياف من الكتّاب والباحثين والمعلقين.  وإليك تلك الأطياف الأربعة، مرتبة من اقصى اليمين إلى اقصى اليسار:

 

المجموعة الأولى: تتماهى شكلاً ومضموناً مع التنظيمات المتطرفة.  بإيجاز، هي تتبنى استراتيجية الدفاع الكامل عن دموية الجماعات الدينية وفوضويتها وعدميتها.  غير أنّ طبيعة الفكر الاقصائي والعدائي الذي يعتنقه اتباعها، يجعل من المتعذرعليهم العثور على موطأ قدم لهم داخل منظومة القنوات الإعلامية الرسمية والتقليدية، خاصة وأن انسياقهم وراء التيارات التكفيرية وموالاتهم الوجدانية والفكرية لها، جعلهم في موضع صدام مباشر مع الحكومة السعودية.  لهذا السببب يهاجر هؤلاء (القاعديين) إلى فضاءات الإنترنت وإلى منتدياتها الإلكترونية، لما توفر لهم من حرية التعبير، ومن امكانية الالتفاف والتحايل على الضوابط والرقابة الحكومية.  لاحظ هنا كيف أن المنتمين لهذه المجموعة يوظفون بلا خجل منتجات الحداثة من ثورة رقمية وحرية تعبير والمستوردة من بلاد الغرب في التبشير بأفكار ماضوية متعفنة، وفي التأجيج لحروب دينية عبثية ضد الآخر.

 

المجموعة الثانية: تتحاشى الهجوم المباشر على قيادات تلك الجماعات العنفية أو انتقاد طواطمها الدينية كأمثال بن لادن.  تتهرب في كل مرة من تسجيل إدانة صريحة لممارساتها الوحشية، ومن تسمية الأشياء بأسماءها.  منذ بدء الحرب مع القاعدة واخواتها من التنظيمات الإرهابية، لم يستعمل اصحابها اسلحة التكفير التقليدية التي لا تفارقهم ضد هؤلاء الإرهابيين.  يستثمر اتباعها قدراتهم في التلاعب اللفظي، ومهارتهم في توظيف النصوص الدينية، وبراعتهم في تمييع قضايا الإرهاب بإطلاق تصريحات ضبابية وجمل مستهلكة، كلما تناثرت أشلاء العشرات على يد إرهابي.              

 

المجموعة الثالثة: تتحلى بقدر وافر من الشجاعة في التصدي الفكري لجماعات العنف الديني، وفي ملء الفراغ الذي تركه المسجد المختطف من قبل المتشددين.  منذ تفجيرات الرياض، سال الكثير من المداد الأسود من أجل تثقيف الفرد بمخاطر جماعات الإرهاب وتوعيته بأهدافها الحقيقية المتسربلة بالدين.  لقد وجد هؤلاء الكتّاب في الحرب المفتوحة مع تنظيمات القاعدة، وفي فسحة الحرية النسبية منذ مجيء الملك عبدالله فرصة نادرة في مقاربة ما كان يعد من التابوهات.  غير أن معاول النقد لديهم لا تقدر على الحفر في باطن هذا التراث الفكري، ولا على تفكيك الهياكل المقدسة التي تشكل إطاراً نظرياً تستند عليها الجماعات التكفيرية في تبرير سلوكياتها وجرائمها. 

 

المجموعة الرابعة: تنطلق من حيث انتهت سابقتها، وذلك من خلال إخضاع كل ما يتعلق بالماضي لمحكمة العقل، حتى ولو استدعى الأمر طرح القرآن والحديث وشخصية النبي على طاولة النقاش.  لقد استفاد المنتمون إلى هذه المجموعة من الثورة التكنولوجية في التعبير عن المكبوتات الفكرية التي لا تطيقها الساحة المحلية وتخشاها لما فيها من تهديد لقداسة الموروثات الدينية.  المنتمون إلى هذه المجموعة رغم محدودية عددهم إلا أنهم يشكلون خطراً يهابه التيار الديني مغبة التسبب في استمالة الآخرين وفي تحريك مياه العقل الآسنة.

 

سأتناول فيما تبقى من المقالة من صنفتهم ضمن المجموعة الثانية.  يفضل المنتمون لها من الكتًاب والخطباء والشيوخ والأساتذة والدعاة تسميتهم بالوسطيين.  إلى ما قبل حلول زمن الوسطية، كنا كسعوديين دائماً ما ننفرد دون الآخرين بتعبير بغيض اسمه (الخصوصية).  تلك الخصوصية السعودية كبرت مع الوقت لتتحول إلى جدار عالٍ يفصلنا عن التفاعل مع الآخرين بحجة حماية القيم والأصالة السعودية من التحلل والذوبان.  وكنا كذلك ننفرد بتعبير آخر لا يقل التباساً وهلامية عن سابقه، ألا وهو (الثوابت).  صدقوني، لا أحد يعرف على وجه الدقة ملامح وعناصر ثوابتنا المتجذرة في أعماق ضمير مجتمعنا المحافظ.  إن ثوابتنا مثل الأشباح، لا يعرف كنهها أحد بما فيهم رجال الدين.  إنها تشبه في غموضها وأسرارها مثلث برمودا وأهرامات الفراعنة وأطباق اليوفو الطائرة.  خلق كهنة المعبد لنا تلك الثوابت لتكون ككلب حراسة شرس ينبح في وجه كل من يحمل في كفوفه رياح التغيير.  ثم وقعت سلسلة من التفجيرات في نيويورك والرياض والدار البيضاء وبالي ولندن، ليكتشف رجال الدين كنزاً مدفوناً تحت الرماد...اسمه الوسطية.

 

لقد تحولت الوسطية على أيديهم إلى صك براءة، وإلى ملاذ آمن، يلجأ إليها الجميع خوفاً من شبهة الإرهاب، أو خوفاً من شبهة التغريب والعلمنة.  لنقل أن الوسطية قد صارت موضة دينية تجتذب الكثير للانضواء تحت لواءها.  الغريب أنك عندما تستنطق كتاباتهم واحاديثم إلى ما قبل احداث الحادي عشر من سبتمبر، وما تلاها من تفجيرات الرياض، فإنك لا تكاد تعثر على وسطيتهم التي يلتحفون بها.  إن استدعاءهم للوسطية من رفوف خزائنهم العتيقة، يتيح لهم الادعاء بأنهم الأقدر دون سواهم على تبني نهج الإسلام المؤسس في جوهره على الوسطية، وبالتالي لعب دور الحكم العادل في الفصل بين المنازعات والخلافات التي دائماً ما تندلع بين اليمين واليسار.

 

لقد نجح هؤلاء باختطافهم لمصطلح الوسطية من تجنيب انفسهم من تهمة المشاركة في صناعة الإرهاب والتعبئة له.  إن ما يدعو للرثاء حقاً أن يستثمر هؤلاء هذا الانفلات الإرهابي في تعزيز ادوارهم وفي تدعيم مكانتهم باعتبارهم وحدهم من يملك وصفة العلاج الشافي لعلل المجتمع وتشوهاته.  إذ بدلاً من جلب ومعاقبة كل هؤلاء الذين ساهمت كتاباتهم وخطبهم ومحاضراتهم وبرامجهم في غسل عقول المتلقين وحقنها بالكراهية ضد المختلف نجد أن الحكومة تدعو الناس للالتفاف حول هؤلاء الوسطيين لانهم وحدهم الأجدر على الإبحار بسفينة المجتمع إلى شواطيء السلامة!

 

إننا عندما نتجاوز هذا الاحتفاء المبالغ فيه بالوسطية، فسوف نجد أن المصطلح ذاته يشكو من خلل بنيوي عميق، ربما لم يتفطن له مبتدعوه.  الوسطية، بمعنى الاعتدال والتوسط بين نقيضين، ليست خيراً على الدوام.  لتقريب وجهة النظر، فإن تناول كميات ليست بالقليلة ولا بالكثيرة من الطعام، ونوم ساعات ليست بالقليلة ولا بالكثيرة يعد مطلوباً وإلا تعرض الإنسان إلى متاعب صحية.  إن الوسطية تعتبر محمودة في جوانب حياتية كثيرة، كما في الاعتدال في الطعام والنوم والرياضة والعمل.  لكنها برأيي تعتبر مذمومة في جوانب أخرى.  هل نقبل بالوسطية فيما بين الحق والشر، والجمال والقبح، والتسامح والتعصب، والعلم والجهل، والتطور والتخلف؟  لا اعتقد أن أيّاً من الوسطيين وجماهيرهم المخدرة سيقبل بالوقوف في منتصف الطريق بين تلك القيم المتضادة، مع علمي المسبق إلى أي من تلك الخيارات سينحازون!

 

يبقى سؤال ملح.  هل انصاع هؤلاء الوسطيون لمقتضيات الوسطية وتعاملوا بنزاهة وعدالة مع طرفي اليمين واليسار دون تفريق؟  يدعي الوسطيون أنهم لا ينحازوا إلى أي طرف ضد آخر، لكن المشاهدات تبرهن على العكس.  ربما يقف الوسطي ما بين الإسلامي والليبرالي، لكن المسافة التي تفصله عن الإسلامي لا تزيد عن سنتميترات قليلة!  سأعطيكم مثالاً على ذلك.  أحد اعضاء هيئة كبار العلماء (وسطي بالطبع) اتصلت به سيدة في برنامج افتاء تلفزيوني بعيد تفجيرات نيويورك وواشنطن الإرهابية.  قالت له: يا شيخ!...ما ذنب المساكين الذين قضوا في برج التجارة العالمية؟  فما كان من الشيخ الوسطي والمعتدل جداً إلا أن صرخ بها قائلاً: ليتك كنتي معهم!  وقبل أن تذوب طبقات مساحيق الوسطية عن وجه الوسطي المحترق بالسؤال، لحق به مقدم البرنامج، فقال له: اهدأ يا شيخ اهدأ!  فاعتدل الشيخ الوسطي في جلسته ليعيد تجميع شتاته الذي بعثره سؤال تلك السيدة البريء.

 

وإليك مثال آخر على وسطيتهم الزائفة والمزعومة. لقد دأبت قناة (ال بي سي) اللبنانية على استضافة أحد المشائخ الوسطيين لمناقشة جملة من الملفات السعودية في مجالات تلامس الواقع الديني والاجتماعي.  هذا الشيخ الوسطي، بالرغم من تأكيداته المستمرة على حياديته، إلا أنه لم يفلح ولو مرة في تجنب السقوط في فخاخ ميولاته الدينية المكشوفة.  يقول أنا لا انحاز لأحد من الإسلاميين أو الليبراليين، لكنه يأتي إلى البرنامج في كل مرة مرتدياً زي اخوته في الدين، ومتكلماً بلسانهم، ومفكراً نيابة عنهم، ومستشعراً الآمهم، ومتحسساً مخاوفهم.

 

قصارى القول، إذا كان السعوديون يحسبون أن الوسطية هي طوق النجاة لانقاذ المجتمع من الغرق في بحر التطرف، فإني أقول إنّ الوسطية هي طوق النجاة لمبتدعيها فقط.  لقد تحولوا بفضل هذا المصطلح السحري من شركاء في جريمة الإرهاب إلى قضاة عدول وإلى نجوم نهتدي بها في ليالي الفتنة المدلهمة!

==========  

affkar_hurra@yahoo.com

المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط