سيمون جرجي / Oct 20, 2009

حملُ السّفر أخفُّ من الرّيشِ على كاهليّ، فقد عشقتُ الترحالَ وأحببتُ الخوضَ في بحارِ بلادٍ لا تعرفها نفسي، أجني منها وأغترفُ كلَّ ما أشتهي وأستطيب! كنتُ سمعتُ منذ فترةٍ طويلةٍ ببلدةٍ سوريّة صغيرة تقعُ على ضفافِ نهرِ دجلة على الحدودِ السوريّة مقابل بلدة "بيشخابور" العراقيّة تُدعى "خانيك". وعلمتُ أيضاً في ما بعد أنّها بلدةٌ سكّانُها كلدان لغتهم إحدى لهجات الآراميّة تنضمّ إلى مجموعة اللهجات المدعوّة "سُورَثْ". وبقيتْ زيارة هذه البلدة شهوةً في قلبي دامتْ ردحاً من الزّمن، حتّى آنَ أوانُها في خريف عام 2008. وهكذا حملتني حافلاتُ السّفرِ من بلدتي إلى مدينةِ القامشلي ومنها إلى ديريك (المالكيّة) ونزلتُ ضيفاً عندَ قريبٍ لي. عندَ الصّباح أقلّتنا سيّارةٌ نحوَ المقصَدِ في طريقٍ إسفلتيّ لم يدمْ طويلاً منه أخذنا اليمينَ في دربٍ ضيّقةٍ ترابيّة تمرُّ عبرَ حقولٍ وقرىً في غالبيّتها كرديّة. وهكذا قضينا تلكَ السّاعة في أرجوحةٍ بأربعة دواليب حتّى وصلنا أخيراً إلى المكانِ المنشود وقد لبسنا الغبارَ وابتلعنا منه ما يكفينا غداءَ ذاك النهار!

 

بعدَ تجوالٍ سريعٍ في القرية وبضع زيارات قمنا بها إلى منازلِ أهاليها امتطينا الطّريقَ راجلين نحو النّهر المنحدرِ من جبالِ تركيّا الشرقيّة المارّ بعنفِه المعتاد بالحدود الفاصلة بين سوريّة والعراق. "دجلة" هذا الاسم العابق بأمجادِ آشورَ ومن وحيه أخذَ الملوكُ الآشوريّون اسمَ "تِجْلَتْ" فتسمّوا به، ومنه أخذت نخلةُ التمرِ اسمها في الآراميّة "دِقْلَتْ"! كانَ ينبضُ بالحياةِ ودوّاماته المُرعبة تسخرُ بالسّابحين والأغرار، فأمّا مشيته فأقلّ ما يُقال فيها عدوَ فهدٍ خلفَ الفريسة. وما فريسةُ هذا النّهرِ الغامضِ سوى بشرٍ ومراكبَ وحتّى المنازل! خلعنا نعالَنا كما خلعَ موسى نعلَيه على الجبلِ المُقدَّس وخضنا في مياهه بتأنٍّ خوفاً من الانزلاق فالابتلاع، وسرنا في مياهٍ صافيةٍ إلا أنّها والمجهول سيّان، ورحنا نرقبُ كنيسة "بيشخابورَ" المنتصبة على التلّة وخلفها من بعيد برزَ منزل عزيز ياقو الشّهير.

 

عندَ مَقْدمنا وإلى اليمين لفتَ نظري مبنىً صغير يرتفعُ فوق أعلى جبلٍ بين تلك الجبال سألتُ عنه فورَ وصولِنا فأخبرني شابٌّ يافعٌ لوّحته الشمسُ فاسمرَّ يضعُ "يَشْمَراً" (شماخاً) على كتفيه وقال: هذا مرصدٌ فرنسيٌّ هُجرَ مذ رحلتْ فرنسا عن هذه البلاد! فسألتُه إن كنّا نستطيعُ زيارتَه فأومأَ بالإيجاب. وعندَ عصرِ ذلك اليوم أحضرَ الشابُّ نفسُه "بيكاباً"، وهو نوعٌ من السيّارات يغلبُ استعمالُه عندَ أهلِ الأرياف والقرى، فركبَ بعضُنا في مقصورته والبعضُ الآخر في الخلف، وأسرعنا في ارتقاءِ الجبل. كانَ علينا قبلَ الوصول اجتيازُ ثكنةٍ عسكريّةٍ سوريّة، أبقينا بقربِها السيّارة بعدَ أن حيّينا عساكرَها، وأكملنا صعودَ التلّة على الأقدام. وصلنا أخيراً مقطوعي الأنفاس لوعورة الارتقاء وأخذنا بعضَ الرّاحة قبل أن نبدأ في التعرّف على المرصدِ المهجور. كانَ عبارةً عن طاولةٍ شبه مستديرة تملأُ قمّة الجبل بأكملها على غرار مدينة "العمّاديّة" العراقيّة، وكأنَّ جلاداً قد قطعَ رأسَ هذا الجبل وأبقى منه الجسدَ، فكانَ المرصدُ يتربّعُ على كتفيه مسوّراً بسياجٍ مهدَّمٍ من الحجارةِ السّوداء. في وسطِ المكان وفوقَ صخورٍ سوداء ضخمة ارتفعَ مبنىً صغير لا يسعُ أكثر من خمسة رجالٍ وقوفاً، على شكلِ مثلّثٍ، يُرتقى إليه بثماني درجاتٍ، مشيّد بحجارةٍ صفراء على طرازٍ غريب أراه أوّلَ مرّة. شكلُ المبنى الهندسيّ المثلّث، وحجارته المرصوفة بعناية واتقانٍ فائقَين؛ يدلان على تلك اليد الفرنسيّة التي نصبته. فأمّا الشّكلُ المثلّث فيعود إلى هدفِ حمايته من الرّصاص أو القذائف التي قد تُصيبه. فجدرانه الثّلاثة المطلّة على أربعِ جهات، منحنية بشكلٍ يُخفّف من أثر أيّ صدمةٍ قد يتعرّض لها. وقيلَ لنا إنَّ المراصدَ العسكريّة المرتفعة صعبةَ المنالِ عن قرب، كانت تُبنى على هذا الشّكل تحسّباً من التعرّض لها عن بعد. وخصوصاً مثل هذا المرصد المبنيّ على رأسِ الجبل على شبه قاعدة لا يُمكن الاقتراب منه أو الوصول إليه براً بسهولة، فالتفكير في السّيطرة عليه لن يكونَ إلا جواً أو بهجومٍ برّيٍّ مكثَّف!

 

يُطلُّ المرصدُ على وادي دجلةَ كاملاً كما يُمكنه من مكانِه هذا الإشرافَ على جميع الوديان والجبال والتلال الصّغيرة. وكانَ أن أسرتْنا تلك المشاهد وأخذتْ من وقتِنا حتّى غابتِ الشّمسُ وشرعَ المساءُ بإرخاء ستارته معلناً انتهاءَ عرضِ ذاك النّهار!

لم يكن لمثلِ هذه الرّحلة في بلدٍ مثل بلدي أن تُقضى دونَ أسفٍ أو ما يسلبُ قليلاً أو كثيراً من فرحتِها. فالإهمال البادي للعيان كانَ السبّاق إلى الترحيبِ بنا. فالسّورُ الحجريُّ الأسود لم يتبقَّ منه في أمكنة كثيرة إلا آثاره، وما يدلُّ على أنَّ سياجاً مرَّ من هنا. والغرفُ التي كانت مبنيّة بمحاذاة السّور مهدَّمة، بقيت منها أسس الجدران لا أكثر. فأمّا المرصد المثلّث الصّغير فقد تعرّض لسرقات أحجاره الصفراء المصقولة على يد عربِ القرى المجاورة، وما لم يستطيعوا نهبَه فقد هدموه إمعاناً في الخراب.

 

ذهبتْ فرنسا ورحلتْ وبقيتْ آثارُها تذكّر أصحابَ الأرض بأنَّ أكثر من ستّين سنةً مرّت وبلادُهم على حالِها، إن لم يكنْ إلى الوراء! بقي هذا المرصدُ الصّغير وبقاياه القليلة بعدَ أكثر من نصفِ قرنٍ على رحيلِ بانيهِ يقولُ للتاريخ: من هنا مررنا! ويقولُ لأبناءِ سوريّةَ ماذا فعلتم طوالَ تلك السّنين؟! كانَ المرصدُ فرنسيّاً في أبهى حلّةٍ وثوب، وبعدَ أن آلَ إلينا صارَ خراباً تأوي إليه الجرذانُ والبومُ في الليل، وأصحابُ قضاءِ الحاجات والخراء في النّهار! ألم يكنْ حرياً بمن يدّعي الحضارة والتاريخ الحفاظ على مكانٍ ومبنىً صغيرٍ جميلٍ مثل هذا؟!

 

ذكرَ لي الشّابُّ الأسمر أنَّ مجموعة من السُيّاح الفرنسيّين مرّوا قبلَ أعوام وعلموا بأمرِ المرصد فتاقوا إلى رؤيته وبعدَ أن صعدوا ورأوا ما رأيتُ ابتسموا! رسمَ المرصدُ وأطلالُه ابتسامةً حزينة على وجوه الفرنسيّين، وتركَ في قلبي غصّة عميقة وفي نفسي أسىً لن يزول! كانَ من الممكنِ أن يكونَ هذا المكان مقصداً يقصدُه السيّاحُ، لا بل كانَ لهُ أن يكونَ متحفاً واستراحةً تخلبُ ألبابَ الناظرين بمشهدٍ يُبدي وادي دجلةَ وكلّ جبلٍ ووادٍ مجاور! قد أكونُ حالماً في بلدٍ لا يعرفُ حرّاسُه وأبناءُه من معاني الثّقافة والحضارة إلا أسفلها وأدرك درجاتها، لا يعرفونَ منها إلا نهبَ أرضهم وبلدهم ووطنهم بكلّ ما فيه من ترابٍ وحجرٍ وشجرٍ وثمرٍ لا بل وبشر! يعرفونَ جيّداً كيفَ يكمّونَ الأفواهَ عن قولِ الحقيقة ونقدِ الفساد، ويعرفونَ أيضاً كيف يبرقعون العيونَ فيحرمونها من البصر، وبرقعة العيون أقلّ ما يُمكن أن يُقال في وطنٍ يقتلعها إن أخطأتْ يوماً فأبصرتْ! يعرفونَ كيفَ يكونُ قمعُ البشر وكيفَ يكونُ هدمُ الحجر، ولا يعرفونَ كيفَ يُحافظونَ على بلادِهم وأرضِهم وجمال ما فيها! عُدتُ باكياً بعدما أتيتُ باسماً... فآثارُ الغرباءِ تدعوكَ إلى الفرحِ وآثارُ أبناء وطنِك تُرغمك على البكاء!!!

ختاماً لي رغبة أقولُها وكلمة أختمُ بها فلعلَّ وزارة الثقافة أو وزارة السّياحة تصغي، فيها أسألُها بكلّ رجاء أن تحافظ على ما تبقّى لنا من تراب، فإذا ما خسرنا هذا الأخير خسرنا ما يُسمّى "الوطن"!
























المقالات المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها فقط